Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اختفاء بنوك "المطمورة" الصغيرة من بيوت السوريين

حصالة الأطفال خرجت من تراث الاقتصاد المنزلي لصعوبة الادخار وارتفاع تكاليف المعيشة

تشهد الليرة السورية انخفاضاً وتدهوراً كبيرين في قيمتها (اندبندنت عربية)

غاب صوت قرقعة حصالة نقود الأطفال عن مسامع السوريين خلال عشر سنوات عجاف، وخلت بيوتهم المثقلة بالهموم من "المطمورة"، كما درج العامة على تسميتها في أنحاء سوريا، وثمة حسرة تختلج نفوسهم بفقدان هذا الشيء البسيط في شكله، لكنه يمثل رمزاً لرفاه البيوت والعائلة، علاوةً عن كونه يندرج ضمن التقاليد المنزلية التي تهشمت مع دمار طاولها في زمن الحرب، وحصار فاقم أوجاع الناس ولوعتهم.

الحالة الصعبة والجيوب الفارغة

ولم تكن علبة الصفيح الصغيرة أو قطعة الفخار دائرية الشكل، التي تتجمع فيها الأموال، حكراً على ميسوري الحال، بل شملت حتى محدودي الدخل الذين عاشوا معها قصصاً باتت اليوم ذكريات لا طائل من عودتها، فالزمن لن يعاكس عقارب الساعة ليعود كزمن الرخاء وبحبوبة عيش العائلات، إذ كان الرفاه يشمل الطبقة الوسطى، وهي التي كانت الطبقة الأكبر قبل الحرب في سوريا، بينما اليوم وصلت درجات العوز والفقر إلى حدود غير مسبوقة، إذ بلغت 90 في المئة من السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، التي جعلت المنظمات الدولية تدق ناقوس الخطر في هذا الشأن.
وفي حين يتجرع الناس مرارة الواقع المعيشي، فإنه يزداد سوءاً صبيحة كل يوم، مع فقدانهم أبسط مقومات العيش كالماء والكهرباء ومواد التدفئة كالمازوت والغاز، وحتى رغيف الخبز، ولم يعد بمقدورهم الادخار كما كان في السابق، إذ إنه قبل عام 2011 كان يصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 50 ليرة سورية، بينما وصل اليوم إلى 3500 ليرة، ما انعكس على اقتصادهم المنزلي، وأطبق على الراتب الشهري الذي يصل في معظم أحواله إلى ما بين 100 و120 ألف ليرة، أي ما يعادل 50 دولاراً، بينما كانت أجور ورواتب العاملين، تصل في المتوسط، إلى ما لا يقل عن 500 دولار قبل الحرب.
ويعيش السوريون الذين لا يزالنا في منازلهم هذا الوضع الصعب، ناهيك بالقابعين في مخيمات النزوح مترامية الأطراف في شمال البلاد بشقيها الغربي والشرقي، حيث يسلب البرد منهم أنفاسهم الفاترة، ويفترشون الأرض، ويلتحفون السماء. وليس بمقدور هؤلاء الفارين من لظى الحرب مجرد التفكير فيما يسمى "الادخار"، فإن كسب ما تيسر من الرزق لا يكفيهم لمعيشة يومهم في معظم الأحوال.

"المطمورة" وشخصية الطفل

وفي ظل هذه الأوضاع، تخرج الحصالة من حياة العائلة السورية، ضاربةً موعداً غير معلن للعودة حين تسنح فرصة الاستقرار الأمني والاقتصادي في البلاد. وكانت هذه العلبة دخلت في تراث بيوت السوريين في الماضي، فقد تنوع شكل "المطمورة" المخصصة للأطفال بين فخارية الصنع، أو تلك المصنوعة من الصفيح، وقد تحمل شكلاً من أشكال الألعاب أو مجسماً صغيراً لبطل من أبطال قصص الصغار، أو شخصية كرتونية شهيرة، وتوجد في أعلاه فتحة صغيرة يضع الطفل من خلالها ما استطاع توفيره، وكأنه يقذفها بمستودع أمانيه أو صندوق أحلامه الصغيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولفت الأخصائي في قضايا تربية الأطفال، عمر مؤقت، إلى "ضرورة عدم التخلي عن هذا التقليد المنزلي، ليس من الباب الاقتصادي فحسب، بل من باب تربية الطفل وتقوية شخصيته، إذ تمنح حصالة النقود الكثير من المزايا الإيجابية في شخصية الطفل منها تعلمه الحرص، والواجب، وضرورة الادخار، كما تحفزه على القيام بالواجبات المدرسية، أو غيرها".
في المقابل، استهجن عمر مؤقت، "انكفاء نسبة كبيرة من العائلات عن ممارسة هذا التقليد"، معتبراً أنه "من الواجب الاستمرار بإيجاد طرق تحفيزية للطفل، وإحداها المطمورة، إذ من الخطأ التخلي عنها. فعلى الرغم من المستوى المعيشي المتدني وانخفاض دخل الفرد إجمالاً، ومع ارتفاع تكاليف الحياة، يمكن للعائلة إيجاد قسط ولو يسير من النقود، وتخصيصها للطفل، إذ يمكن تقسيم مصروفه اليومي كجزء للادخار في حصالته".

الآباء والعلاقة مع حصالة الأطفال

ويروي السوري مالك الجاسم من ريف حماة (وسط البلاد)، النازح مع عائلته الصغيرة يعيش حالياً في مخيم آطمة شمالاً، "لا يعرف أولادي الصغار وعمرهم من عمر الحرب، ماذا تعني كلمة المطمورة، ليس لشيء، بل إننا نعيش على المساعدات الإغاثية الشحيحة، بينما كنت أعيش حياةً كريمة من العمل في أرضي الزراعية". ويردف، "لقد عشت في نعمة وخير كبيرين في طفولتي، وكانت لديَّ مطمورتي الخاصة، وأذكر أنها مصنوعة من الفخار، وحين تمتلئ، أذهب برفقة أبي إلى المدينة لشراء لعبة ما، وأحياناً كان يستعين بها في الأوقات الصعبة، لشراء البذور، أو في مواسم الجفاف لتساعده في سد شيء من بعض التزاماته المالية".
مقابل ذلك، يستذكر السوريون ما لهذه الحصالة من ذكريات، إذ مثلت لهم "البنك الصغير" في البيت، وتذكر الشابة روان من دمشق، فرحتها الكبيرة بامتلاء حصالتها وقتذاك، وكانت مواسم الأعياد هي الفرصة الذهبية للتنعم بها. وتضيف، "إن عُدنا بالذاكرة قبل ذلك، لا يمكن أن أنسى والديَّ وهما يغدقان عليّ أنا وإخوتي من النقود، لا سيما مع تسلم راتب والدي. وكانت النقود التي نحصل عليها في معظمها من قطع النقد المعدني، وفي أحسن الأحوال أحصل على مئة ليرة. وكانت فرحتنا كبيرة حين نحصل على هذه القطعة الورقية من المال لأنها سترفع من مدخراتي، لكنها اليوم فقدت قيمتها الشرائية، ولا يمكن أن نشتري بها أي شيء".
وخرجت إصدارات النقد السورية، الورقية والمعدنية، من دورها الاقتصادي الذي تربع لعقود من الزمن على رأس التعاملات المالية في البلاد، ليحل التضخم الهائل الذي بدأ بالاتساع قبل أعوام ليصل إلى ذروته مع انهيار قيمة الليرة إلى حدود غير مسبوقة، بلغت 5 آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد في مارس (آذار) الماضي، لتعود إلى التحسن شيئاً فشيئاً، ووصلت إلى 3500 ليرة حالياً.
ويمتعض الشارع السوري من ارتفاع الأسعار الذي صاحب ارتفاع الليرة، من دون أن تنخفض قيمة المنتجات مع تحسن عملة بلادهم، في وقت يتوجس فيه اقتصاديون من مغبّة الحديث عن إصدار عملة ورقية جديدة من فئة الـ10 آلاف ليرة وإصدارات لأرقام أعلى، وسط تضخم هائل، ولم يكن بوسع البنك المركزي السوري أن يدشن العام الحالي 2021 إلا وقد أصدر عملة ورقية من فئة الـ5 آلاف ليرة.
يأتي كل ذلك مع الحديث عن رفع يد الدولة عن دعم المنتجات الأساسية للمواطنين، لا سيما المواد الغذائية والمحروقات، وكذلك الكهرباء، بعد أن كانت تسهم منذ عقود بتغطية جزء كبير من فاتورة الإنتاج في صناعة الخبز وتسليم الأرز والسكر منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن النفقات التي تتكبدها الحكومة، والتي تصل إلى 9 تريليونات ليرة سورية، حملت أعباء مضافةً، الموازنة العامة المنهكة أساساً بتكاليف وأعباء الحرب. كما تصدر بين الحين والآخر تصريحات من جهات حكومية حول سوء توزيع الدعم وذهابه إلى شرائح لا تستحقه.

المزيد من منوعات