Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متغيرات وأخطار وقوى وراء صعود الشعبوية

"الانطباع السائد هو أن القرن الـ 21 سيعيدنا إلى صراعات القرن الـ 19"

لوبن تتحدث إلى مناصريها في باريس بعد إعلان النتائج الأولية لانتخابات البرلمان الأوروبي في 26 مايو (أيار) الحالي (رويترز)

الشعبوية ليست خياراً شعبياً بل عملية خداع للشعب باسمه. وهي بديل أسوأ من اليمين واليسار والوسط، من الأحزاب والنخب، ومن الانغلاق والعولمة. لكن موسم الشعبوية يزدهر في العالم، ويتقدم في انتخابات البرلمان الأوروبي. فالشعبوية، كما يختصرها جون ورنر موللر مؤلف كتاب "ما هي الشعبوية"، تبدأ بنوع من انتحال صفة على يد سياسيين يدعون أنهم وحدهم يمثلون "الشعب الحقيقي" ضد "النخبة". وهي تبسيط لواقع معقد جداً، بحيث يتم الهرب من مواجهة التحديات الصعبة بادعاء الحلول السهلة لها.

تفريغ الاتحاد

أقل التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي هي النمو المنخفض، ثقب الأوزون، الهجرة، الدين العام، أمن الحدود، الإرهاب و"بريكست". والأخطر من خروج بريطانيا من الاتحاد باتفاق أو من دون اتفاق هو "الخوف ليس من خروج دول أخرى، بل من تفريغ الاتحاد من الداخل"، كما تقول ناتالي توسي مديرة معهد القضايا الدولية في إيطاليا. وأهم عوامل الخطر على الاتحاد ثلاثة، أولها أوروبي تقوم به تيارات شعبوية حازت المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية في كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وهنغاريا وزادت حصصها في ألمانيا واليونان وعدد كبير من بلدان الاتحاد، كما نقصت حصص يسار الوسط ويمين الوسط. وثانيها روسي، حيث يعمل الرئيس فلاديمير بوتين على دعم اليمين الشعبوي المتطرف واليسار المتطرف والسعي إلى تفخيخ الاتحاد الأوروبي وفرطه. وثالثها أميركي، لجهة رغبة الرئيس دونالد ترمب في التخلص من النظام الديموقراطي الليبرالي العالمي الذي بنته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، والدفع نحو سياسات الهوية والمصالح القومية.

"نهاية التاريخ!"

ذلك أن القرن العشرين كان قرن الإيديولوجيات والأنظمة الشمولية، حيث سقطت الإمبراطوريات في الحرب العالمية الأولى، والفاشية والنازية والعسكريتاريا اليابانية في الحرب العالمية الثانية، والشيوعية في الحرب الباردة. وكان من باب التسرّع واللاواقعية اعتبار فرنسيس فوكوياما أن انتصار اقتصاد السوق والديموقراطية الليبرالية السياسية هو "نهاية التاريخ". إذ بدأ القرن الـ 21 بتسريع العولمة والحديث عن "نهاية الجغرافيا" و"نهاية القومية"، ثم ظهر التململ من العولمة، واللجوء إلى سياسة الهويات والقوميات. وصار الانطباع السائد أن القرن الـ 21 سيعيدنا إلى صراعات القرن الـ 19. واللافت أن التململ من العولمة الذي بدأه اليسار على أساس أنها أداة في خدمة الإمبريالية الأميركية والدول الغنية، صار سلاحاً في يد ترامب والشعبوية الأوروبية على أساس أن ضحايا العولمة هي الفئات العاملة البيضاء في الولايات المتحدة ومعها الطبقة الوسطى الأميركية والأوروبية. فما قادت إليه الرأسمالية المالية هو أزمات اقتصادية ومالية كبيرة وعميقة في أميركا واليابان وأوروبا. والمفارقة، كما يقول فوكوياما، هي "ارتفاع موجة اليمين الشعبوي بدل موجة اليسار الذي لم يجد بديلاً من فشل اليمين الليبرالي سوى العودة إلى النموذج القديم الذي فشل".


حال العالم


والوقائع ناطقة. بوتين لا يزال يحكم روسيا منذ بداية الألفية الثالثة متمتعاً بأعلى نسبة تأييد شعبي. ما عمل ولا يزال يعمل لمصلحته هو "الثأر لروسيا" من الغرب الأميركي والأوروبي الذي أذلها وهمّش دورها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومدَّ حدود حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى حدودها على الرغم من نهاية "حلف وارسو". وهو يلعب مع ترمب ويتلاعب بأوروبا، ويضم شبه جزيرة القرم ويتدخل عسكرياً في جورجيا وسوريا مسترشداً بقول لينين: "اضرب الجدار بنعومة، فإن كان صلباً تراجع، وإن كان ليّناً أضرب بقوة". ترمب الملياردير ورجل الأعمال أقنع العمال البيض وأهل الأرياف بأنه يمثلهم، وعمل بشعار "أميركا أولاً" وقاد حرباً تجارية أضرّت بالعمال والمزارعين من دون أن يفقد نواة شعبيته في إطار السياسة الشعبوية. أوكرانيا ضاقت بالرئيس الملياردير (بيترو) بوروشنكو والأحزاب والفساد، فانتخبت للرئاسة المهرج (فولوديمير) زيلنسكي الذي لعب دور الرئيس في مسلسل تلفزيوني هزلي، وتبين أن الملياردير (إيغور) كولومسكي هو الذي وقف خلف زيلنسكي كما وقف من قبل وراء بوروشنكو قبل أن يختلف معه. إيطاليا ضجرت من أحزاب اليسار واليمين والوسط وفساد المليارديرات، فأعطت أصواتها لمهرج أسس "النجوم الخمس" وليميني شعبوي متشدّد هو ماتيو سالفيني. هنغاريا يتحكم بها رئيس وزرائها فيكتور أوربان وحزبه "فيديس" المناهض الهجرة والسياسات الأوروبية. الأمر مماثل في بولندا.
وما كان أمراً عادياً أن تتصدّر الجبهة الوطنية اليمينية المتطرّفة بقيادة مارين لوبن الانتخابات الأوروبية في فرنسا ويأتي حزب الرئيس (إيمانويل) ماكرون خلفها. ولا كان مألوفاً في بريطانيا "أم الديموقراطيات" أن يقفز إلى أمام حزبي المحافظين والعمال التاريخيين حزب "بركسيت" الذي أسسه نايجل فاراج قبل أشهر فقط. أما في ألمانيا، فإن الحزب الديموقراطي الاشتراكي يتابع التراجع والحزب الديموقراطي المسيحي (حزب المستشارة أنغيلا ميركل) يحافظ على الحد الأدنى من الشعبية، في حين يصعد "حزب الخضر" وحزب "البديل من أجل ألمانيا" شبه النازي. وماذا عن البرازيل التي تعبت من فساد الرؤساء في اليسار واليمين، فانتخبت الشعبوي (جايير) بولسونارو الذي اعترف بعد ارتكاب أخطاء عدة في الأسابيع الأولى لرئاسته بالقول "لم أولد لأكون رئيساً بل لأكون جندياً".

البرلمان الأوروبي

مفهوم أن اليمين الشعبي المتطرّف الذي تقدم في انتخابات البرلمان الأوروبي لم يحصل على أغلبية أو على حصة وازنة تمكّنه من التأثير الحاسم في برلمان من 751 مقعداً أو من تغيير الاتجاه في مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن أن هذه القوى ليست موحّدة، ولا من دون خلافات على مسائل عدة، من بينها زعامة التيار الشعبوي، وهل هي لسالفيني أم لمارين لوبن أم تدار بالقطعة على طريقة "تجمّع نابولي". لكن من الوهم تجاهل خطر العودة إلى سياسات الهوية والقومية. لا بل إن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية نشرت مقالاً يطرح سؤالاً صريحاً "ماذا عن أوروبا إذا استعادت ألمانيا ماضيها؟". والوهم الأكبر هو البحث عن أجوبة شعبوية أحادية الرؤية لقضايا العصر المعقّدة. ومتى؟ في ظلّ صراعات دولية على زعامة العالم، وإقليمية على النفوذ وسط التخبّط في مواجهة الهجرة والتغيّر المناخي والإرهاب وارتدادات العولمة.

المزيد من آراء