من الطبيعي أن يؤدي طول أمد أي حرب داخلية، إلى نشوء تعقيدات تتراكم بشكل متسارع. وكان من الحيوي مواجهتها بصورة فورية من دون تلكؤ بحسب الإمكانات الحقيقية المتاحة، وبلا إفراط في الوعود التي لا يسمح الواقع بتنفيذها فتصبح الحكومة هدفاً مريحاً للانتقادات المستمرة من المواطنين وتتناقص أعداد من يأملون فيها ومساحات مناوراتها. وهكذا، يصبح متوقعاً ارتفاع منسوب الغضب والإحباط وتزايد النقمة مع تقلص فرص النجاة والأمل.
في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2020، تشكلت الحكومة اليمنية الحالية بموجب "اتفاق الرياض" الموقع في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وبحسب نصوص "الاتفاق" لم يكن متاحاً لرئيس الحكومة التدخل في فحص كفاءات الوزراء وخبراتهم، ولم يكن حريصاً على التدقيق في المعايير خوفاً من استبعاده من المنصب. فظهرت كهجين مشوه تملأه التناقضات التي لا يجمعها هدف مشترك واضح، واكتفت بسيل البيانات التي لا يجد الناس لها صدى على الأرض. هذه قضية لم تلتفت إليها الحكومة، ما زاد إحباط الناس، وتعاظمت المشكلات، وارتفع صوت المدافع على أصوات المطالبين بوقف الحرب رحمة بالناس.
اليوم، يقف اليمنيون أمام مفترق طرق بين مواصلة مسار الحرب أو تقبل فكرة السلام، على الرغم من أن الجميع يفهم أن أطراف هذه الحرب سيجلسون إلى طاولة واحدة لبحث مستقبل البلاد. ولكن، لا بد من أن الجميع يعلم أن التاريخ لا يسمح بمفاوضات متكافئة، وإنما بموجب الحقائق على الأرض وموازين القوى الحقيقية. وهذه هي المعضلة الجادة التي تعرقل التوجه نحو المفاوضات وتسبب حرجاً للحكومة وتفضح ضعفها.
في هذه الأثناء، يواصل مقاتلو جماعة "أنصار الله" الحوثية حصارهم مدينتي مأرب وتعز في محاولة مستميتة لاقتحام الأولى والاستمرار في محاصرة الثانية. والمدينتان تمثلان عصب الحياة الاقتصادية في المحافظات الشمالية. فكل الغاز وكثير من النفط الذي يحتاج إليه اليمنيون يأتي من مأرب حالياً، والسيطرة عليها ستمنح الحوثيين موارد مالية هائلة في حال نجاح هجومهم المكلف من حيث الخسائر البشرية التي يتباهون بها. هناك أيضاً كلفة إنسانية هائلة تتمثل في إعادة تهجير أعداد كبيرة من الذين هاجروا إليها هرباً من ويلات الحرب. وفي تعز، فإن معظم المصانع التي تمتلكها أكبر المجموعات التجارية اليمنية تقع في نطاق منطقة سيطرة الحوثيين، على مداخل المدينة الشمالية، وهي تدر كثيراً من الضرائب والرسوم عليهم.
الموقف الصعب الذي تتجاهله الشرعية، ولن تتمكن من تجاوزه لأسباب كثيرة، هو أنها فاقدة للدعم الشعبي بسبب اتهامات الفساد التي تحوم حول كثيرين من العاملين فيها، وعدم التصرف الحكيم في الموارد التي تحصل عليها، ولا تتجاوز قدراتها الذاتية والموضوعية صرف الرواتب التي تتآكل قيمتها الشرائية على مدار اليوم. وعلى الرغم من الوعود المتكررة باتخاذ إجراءات لوقف تدهور سعر العملة، إلا أنها عجزت عن فعل ذلك خلال السنوات الماضية. وهذا الأمر يقود إلى الحديث عن البنك المركزي المناط به ضبط السياسة النقدية.
منذ عام 2015، مر على البنك المركزي خمسة محافظين، أنزههم على الإطلاق هو محمد بن همام، الذي رفض الاستمرار على رأس البنك بعد نقل عملياته من صنعاء إلى عدن، في عملية لم تراع القواعد المصرفية المتعارف عليها، على الرغم من المبررات الواهية التي استخدمتها الحكومة للدفاع عن تصرفها الطائش. وقبل ذلك القرار، شرح لي عضوان مشاركان في مباحثات الكويت، في أبريل (نيسان) 2016، أن كل الأمور الفنية المتعلقة بالنقل جاهزة ولم يبق، بحسب كلامهما معي، إلا القرار السياسي. واتضح لاحقاً أن حديثهما لم يكن واقعياً.
وفي تلك الفترة، ولكي أستوعب الصورة كاملة لمعرفة ما يجري، تحدثت مع بن همام، فأكد أن كل الإجراءات التي اتخذها خلال فترة عمله كانت بناء على قواعد متعارف عليها ومعمول بها منذ عقود. ونفى الاتهامات التي استخدمتها الحكومة للتسريع في نقل البنك من مقره المنصوص عليه في الدستور.
بعد إتمام عملية النقل المتعجلة، مر أربعة محافظين للبنك، جاءوا بعد بن همام، ولم يتمكن أي منهم من التحكم في نشاطات البنك، وتكاثرت التقارير الدولية وتقارير الجهات الرقابية الحكومية، وجميعها كانت تشير إلى العجز الإداري وشبهات الفساد المالي التي بلغت حد تسهيل غسيل الأموال بحسب التقارير. وللرد عليها، أعلنت الحكومة أنها كلفت مكتباً للتدقيق لوضع تقرير في شأن الاتهامات الموجهة إلى مجلس الإدارة، إلا أنها عمدت أخيراً إلى تغيير المكتب المكلف بصورة سرية، مما يشكك في صدقيتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان تعمد طباعة العملة اليمنية، التي بلغت 4 تريليونات ريال، خلال أقل من 3 سنوات، مثيراً للقلق عند الخبراء العارفين بالتأثيرات السلبية لتضخم الكتلة النقدية المتداولة من دون أن يتوافر لها دعم مالي واقتصاد قوي. وضاعت من دون أن تقدم الحكومة والبنك أوجه إنفاقها. وبحسب الخبراء، فقد تسببت في تسارع انهيار قيمته مقابل العملات الأجنبية.
المطلوب اليوم هو تغيير محافظ البنك المركزي وأعضاء مجلس إدارته الذين يستلمون رواتب هي الأعلى في العالم، في حين أنهم يديرون بنكاً مفلساً يعيش على الهبات والقروض. ومن دون ذلك، لا يمكن توقع تحسين الأوضاع المالية، وسيؤدي عدم التوصل إلى تغيير في المواقع الاقتصادية والمالية والخدمية إلى مزيد من النقمة الشعبية، يتحملها رئيس الحكومة بمفرده لعجزه أو عدم رغبته في مواجهة الحقائق خشية فقدان موقعه الرفيع الذي وصل إليه فجأة.
البنك المركزي هو المدخل الطبيعي الذي يمكن من خلاله بدء ضبط إيقاع الدورة المالية. وهذا يستوجب البحث عن شخصية نزيهة وكفء، واستبعاد الأسماء التي مرت عليه وتسببت مجتمعة في هذا الانهيار. ومن المهم أيضاً أن يصر المحافظ المقبل للبنك ومجلس الإدارة الجديد على أن تكون رواتبهم وجميع المسؤولين بالعملة المحلية إسوة بموظفي الدولة كافة، الذين لم تسعفهم الفرصة للخروج من البلاد. ومثل هذا الإجراء سيوفر الملايين من الدولارات. والأهم أنه سيعطي صورة أقل سوءاً عن الحكومة نفسها، ويعيد ثقة الناس في البنك. وقد تتدارك الحكومة جزءاً من ثقة الناس بها، إذا ما اعتمدت تقارير جهاز الرقابة والمحاسبة. وكذلك هيئة مكافحة الفساد، كي تبرهن على جديتها والتزامها ما تعلنه.
الناس تنتظر دولة تعتمد على مواردها وتقلص إنفاقها الترفي حد السفه. ولن يحترمها المواطن والعالم، إذا ما استمرت في التسول للإنفاق على الرواتب والحرص على أناقة مسؤوليها.