كشفت تجربة تدمير روسيا أحد أقمارها الصناعية القديمة في الفضاء من خلال صاروخ أطلق من قاعدة أرضية، عن سباق محموم يتزايد اندفاعاً عاماً بعد عام لتحسين القدرات القتالية في المدارات القريبة من الأرض، إذ لم تكن روسيا الوحيدة التي تجري هذه التجارب، فقد نفذت الولايات المتحدة والصين والهند تجارب مماثلة خلال السنوات الماضية كانت نذيراً بمخاطر متصاعدة لا تقتصر في حال الحرب على تدمير عدد من الأقمار الصناعية التي لا يستغني عنها الآن سكان العالم، وإنما تمتد آثارها حتى في حالة السلم إلى انتشار الحطام المتناثر في الفضاء وتهديد الأقمار الصناعية الأخرى، وعمليات استكشاف الفضاء، ما يعرقل تحسين حياة البشر على الأرض.
الحرب المختلطة
لم تتوقف الانتقادات والردود بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وبين روسيا من جانب آخر، منذ أن اختبرت روسيا في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي صاروخاً مضاداً للأقمار الصناعية دمرت به قمراً صناعياً روسياً خاملاً يدعى "كوزموس 1408" موجوداً في مداره منذ الحقبة السوفياتية عام 1982، ما تسبب في انتشار حقل من الحطام يتكون من 1500 قطعة على الأقل، وتزن 4400 رطل في مدار أرضي منخفض ومئات الآلاف من قطع الحطام الأصغر، الأمر الذي وصفه الأميركيون بأنه يشكل خطراً داهماً للأمن والسلامة والاستقرار لجميع الدول في الفضاء، لأن الحطام سيستمر لسنوات مقبلة، ما يعرض الأقمار الصناعية والبعثات العلمية والاستكشافية الفضائية للخطر، التي تدعم حياة البشر على الأرض ومصالحهم الاقتصادية.
وبينما ربط محللون استراتيجيون في واشنطن بين التجربة الفضائية الروسية وبين تصعيد الكرملين بحشد قواته على الحدود مع أوكرانيا، وتنامي القلق الأميركي الأوروبي بشأن أزمة المهاجرين على حدود بولندا مع بيلاروس المدعومة من موسكو، في إطار ما يسمى بالحرب المختلطة، اعتبر قائد القيادة الفضائية الأميركية الجنرال جيمس ديكنسون أن روسيا تعمل على تطوير ونشر قدرات تستهدف منع الولايات المتحدة وحلفائها من الوصول إلى الفضاء واستخدامه، وأن اختبارات روسيا لأسلحة الصعود المباشر من الأرض لاستهداف الأقمار الصناعية، يؤكد بوضوح أن روسيا تواصل السعي وراء أنظمة أسلحة فضائية مضادة تقوض الاستقرار الاستراتيجي وتشكل تهديداً لجميع الدول.
عسكرة الفضاء
ولم يكن من المستغرب أن يتهم كل طرف الآخر بالنفاق، فالأميركيون يعتبرون أن روسيا على الرغم من ادعاءاتها بمعارضة تسليح الفضاء الخارجي، من الواضح بعد تجاربها الأخيرة أنها مستعدة لتعريض الفضاء الخارجي على المدى الطويل للخطر وتهديد سلامة استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي من قبل جميع الدول من خلال سلوكها المتهور غير المسؤول، بينما دعت وزارة الخارجية الأميركية الدول المسؤولة عن ارتياد الفضاء للانضمام إلى جهود تطوير قواعد السلوك المسؤول والامتناع عن إجراء اختبارات تدميرية خطيرة وغير مسؤولة مثل تلك التي تجريها روسيا.
كما يسلط هذا الحدث بالنسبة إلى الأميركيين الضوء على رغبة موسكو في السيطرة على أسلحة الفضاء الخارجي، بما يتوافق مع العقيدة العسكرية المنشورة للكرملين لاستخدام الأسلحة التي تعرض الأصول الفضائية للولايات المتحدة وحلفائها للخطر، من دون أي نية لوقف برنامج الفضاء المضاد، سواء كان ذلك يتعلق بالقدرات الأرضية المضادة للأقمار الصناعية، أو ما يتعلق بالأسلحة الفعلية المضادة لتلك الأقمار في المدار.
من المنافق؟
لكن اتهام واشنطن لموسكو بالنفاق لم يكن من طرف واحد، فقد اتهمت وزارة الدفاع الروسية وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون بالنفاق في دعواتهما لوضع معايير عالمية يستخدمها المجتمع العالمي في استكشاف الفضاء الخارجي، وزعمت روسيا أنها دعت الولايات المتحدة والقوى الفضائية الأخرى للتوقيع على معاهدة في شأن منع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي، وتم تقديم مسودة هذه المعاهدة إلى الأمم المتحدة لكن واشنطن وحلفاءها يعرقلون تبنيها في وقت تواصل فيه أميركا جهودها لعسكرة الفضاء، وأنشأت قيادة الفضاء الأميركية العام الماضي واعتمدت رسمياً استراتيجية فضائية جديدة أحد أهدافها الرئيسة هو الاحتفاظ بتفوق عسكري شامل في الفضاء.
وقالت الوزارة إنه حتى قبل الإعلان عن إنشاء قيادة الفضاء، كان البنتاغون يعمل بنشاط على تطوير واختبار أحدث الأسلحة القتالية الهجومية من مختلف الأنواع في المدار، بما في ذلك تطويره أحدث مركباتها الفضائية غير المأهولة "أكس 37" من دون أي إخطار.
وتصر وزارة الدفاع الروسية على أن الولايات المتحدة تدرك جيداً أن الشظايا التي تشكلت أثناء الاختبارات لم ولن تشكل تهديداً للمحطات المدارية والمركبات الفضائية والأنشطة الفضائية. كما زعمت أن تجارب مماثلة في الفضاء الخارجي قد أجريت بالفعل من قبل الولايات المتحدة والصين والهند.
الهند والصين
غير أن تجربة الصين لاختبار صاروخ مضاد للأقمار الصناعية عام 2007 وتجربة الهند عام 2019 أثارتا أيضاً كثيراً من الصخب والقلق بين الخبراء الدوليين وخبراء صناعة الطيران والفضاء في الولايات المتحدة، بخاصة أن التجربة الهندية قبل نحو عامين كانت شبيهة بالتجربة الروسية، حيث أصابت قمراً صناعياً هندياً في مدار أرضي منخفض، ما حول هذا الجسم إلى حطام حسبما تؤكد جوان جونسون فريز، أستاذة شؤون الأمن القومي في الكلية الحربية البحرية في نيوبورت، بولاية رود آيلاند الأميركية.
ووفقاً لفريزر، فإن الأسلحة المضادة للأقمار اصناعية تتخذ أشكالاً عديدة، لكن أوضح الأمثلة تتبع نماذج الاصطدام الحركي، حيث يتم إرسال جسم أو صاروخ من الفضاء أو من الأرض ليصطدم بقمر صناعي يدور في مداره، ما يؤدي إلى تدمير القمر الصناعي عبر طاقة الاصطدام.
أسلحة متنوعة
لكن الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية لا تحتاج إلى أن تكون محمولة جواً، إذ إن الليزر على سبيل المثال، يمكن استخدامه لإعطاب قمر صناعي آخر بشكل مؤقت أو تعميته بشكل دائم عن طريق تدمير مستشعراته، ومن ثم يمكن اعتباره أيضاً سلاحاً مضاداً للأقمار الصناعية من دون الحاجة للتدمير وبعثرة الحطام في الفضاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لموقع "بروفاوند سبيس"، أوضح جوناثان مكدويل، عالم الفيزياء الفلكية في مركز هارفارد سميثسونيان في مدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس، أن الهند استخدمت عام 2019 أداة قتل حركي تسفر عن سحابة من الحطام تستمر أياماً أو أسابيع أو أعوام في الفضاء قبل أن تتفكك في الغلاف الجوي للأرض، لأن شظايا الحطام تذهب في اتجاهات مختلفة، لكن معظمها يأخذ مسار ومدار القمر الصناعي نفسه، وقد تتزايد سرعتها أو تتباطأ، وسيعود جزء منها إلى المدار المنخفض، ما يعني أنها ستحترق بشكل أسرع عندما يتم سحبها إلى المجال الجوي للأرض، غير أن باقي قطع الحطام تبقى في المدار لفترة أطول.
ويشير ماكدويل إلى أن نوع السلاح المضاد للأقمار الصناعية الذي استخدمته الهند له التكنولوجيا المستخدمة نفسها في أسلحة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية التي أطلقها الجيش الأميركي في 25 مارس (آذار) 2019 في اختبار الدفاع الصاروخي العابر للقارات من قاعدة فاندنبرغ الجوية الأميركية.
ليست الأولى
ولم يكن الاختبار الروسي المثير للجدل قبل أيام هو الأول من نوعه، وإن كانت الوسيلة مختلفة. ففي يوليو (تموز) 2020، أكد مسؤولون أميركيون وبريطانيون أن روسيا اختبرت سلاحاً فضائياً مضاداً للأقمار الصناعية، بعدما أشار محللون إلى أن قمراً صناعياً روسياً أطلق قذيفة غامضة في مداره بسرعة عالية من المركبة الفضائية "كوزموس 2543" التابعة للجيش الروسي أثناء مناورته بالقرب من قمر صناعي روسي آخر، ولكن من دون تدمير، وهو ما وصفته قيادة الفضاء الأميركية بأنه سلوك يتفق مع اختبار قدرة جديدة مضادة للأقمار الصناعية.
كما أجرى الروس تجربتين أخيرتين في يونيو (حزيران) 2017 وفي أبريل (نيسان) 2020، حيث احتج مسؤولون عسكريون أميركيون على ما وصفوه بأنه اختبار لصاروخ روسي مضاد للأقمار الصناعية على الرغم من اعترافهم بأن الصاروخ الروسي "نودول" لم يستهدف مركبة فضائية خلال الاختبار، لكنهم قالوا إن النظام مصمم لتدمير الأقمار الصناعية في المدار.
سباق مستمر
وما يثير قلق المسؤولين الأميركيين، هو سلوك المركبات والأقمار الصناعية الروسية المريب في الفضاء. فوفقاً لبيانات التتبع المداري العسكرية الأميركية المتاحة في المجال العام، لم تقترب أقمار الملاحظة والتتبع الروسية من أقمار روسية أخرى مثلما حدث من قبل، ولكن بدلاً من ذلك قامت المركبة الفضائية "كوزموس 2542" بتعديل مدارها في نوفمبر 2020، ليتزامن مع مدار قمر تجسس تابع للحكومة الأميركية يسمى "يو أس إيه 245" ويشغله مكتب الاستطلاع الوطني الأميركي، ويعتقد أنها تحمل تلسكوباً قوياً موجهاً للأرض بهدف التقاط صور عالية الدقة لتحليلها من قبل وكالات الاستخبارات الأميركية.
وعلى الرغم من أن القوات الجوية الأميركية قامت بعمليات نشر غير معلنة لأقمار اصناعية من ارتفاع يقرب من 36000 كيلومتر فوق خط الاستواء من مركبتها الفضائية "أكس 37"، إلا أنه لم يظهر في أي منها السلوك الغريب الذي بدا من نظام "كوزموس 2542" الروسي.
ومنذ إنشائها في ديسمبر (كانون الأول) 2019، تكرر قيادة الفضاء الأميركية في بياناتها الرسمية على أن التهديدات التي تتعرض لها أنظمة الفضاء الأميركية وحلفاؤها حقيقية وخطيرة ومتنامية، وأن تطوير روسيا واختبارها للأسلحة المدارية يسلط الضوء على أهمية إنشاء قوة الفضاء الأميركية كفرع جديد للقوات المسلحة وقيادة الفضاء الأميركية كقيادة مقاتلة موحدة في البلاد للفضاء، وهو ما يعتقد الروس أن البنتاغون يعمل من خلالها على تطوير أسلحة فضائية متطورة، الأمر الذي ينبئ باستمرار السباق المحموم نحو تطوير مزيد من الأسلحة والتجارب في الفضاء.