كلما قرأت بحثاً أو دراسة متخصصة في حقل من حقول "النسوية"، في اضطهاد المرأة وتغييبها عن الفعل في مجالات الحياة كافةً، تُراودني أسئلة كثيرة حول أسباب هذه الحال التي تعيشها النساء عموماً، والعربيات على نحو أشد عمقاً وكثافةً. ولعل أبرز الأسئلة التي ينبغي طرحها على الأبحاث النسوية، سؤال عن غياب المعالجة للعامل الطبقي في الاضطهاد والتغييب المذكورين، والاكتفاء بمعادلة ذكورة/ أنوثة، إذ تغرق غالبية الدراسات التي تكتبها النساء في صراع الأنثى ضد الذكر، دون محاولة التساؤل عن الأسباب الأعمق لهيمنة هذه العقلية وهذا المنطق، وكما يبرز هنا التساؤل عن سبب انحياز أعداد من النساء للفكر الذكوري المهيمن، يبرز – وبالعكس - سؤال عن انحياز كثير من الكتاب (الذكور) إلى القضية "النسوية"، وأحياناً أكثر من "النسويات" المقاتلات.
تقول الباحثة الجزائرية فيروز رشام، في كتابها "تاريخ النساء الذي لم يكتب بعد: دراسة حول الكتابة والجندر في الثقافة العربية"، "على الذين يشكون في جدوى الكتابة وصلاحيتها للنساء، أن يراجعوا أنفسهم، ويتخلصوا من عقدة الأنثى، ففي النهاية الكتابة أنثى!". عبارة ختامية للكتاب، الصادر حديثاً عن دار فضاءات، عمان، وتقدم خلاله بحثاً تاريخياً وأيديولوجياً وأدبياً وسيكولوجياً وأسطورياً وميثولوجياً، في القضايا الخلافية بين المنطق الذكوري والمنطق "النسوي"، في ما يتعلق بقضايا المرأة وهمومها، الناجمة عن الصراع التاريخي المتواصل عبر القرون، وإن كان في صيغ متفاوتة في المعطيات والحدة والنتائج.
ينفتح الكتاب لجهة أطروحاته ومرجعياته ومراجعه على مروحة واسعة من مصادر "تخلّف" المرأة عن ركب الإبداع، الذي لا يزال، بحسب المؤلفة، محكوماً بشروط وظروف يمسك الرجال/ الذكور بزمامها وأعنّتها، ويوجهونها أنّى شاءت مصالحهم التي منحتها لهم "القوى" المعادية للمرأة، في ظل ضعف، وأحياناً غياب، حركة نسوية ناشطة ومبدعة تضع الأمور في نصابها "الإنسانية"، لا الذكورية ولا الأنثوية في نظرتها إلى العالم.
الاستشهاد بكتابات
في البداية، أرى أنه لم يكن ضرورياً، ولا لائقاً بهذه الدراسة أيضاً، التصدي للرؤى السطحية، بل العدوانية، للكتاب (الرجال) تجاه المرأة وعلاقتها بالجنس، الرؤية الذكورية الفجة المتفشية في بعض كتب التراث، ذات الطبيعة الشاذة واللغة والصياغات "الفاحشة"، والاستشهاد بتلك العبارات الفظّة، كما تظهر عند النفزاوي وكتابه الشهير والمثير "الباه..."، والسيوطي في كتابه "الأيك..."، وغيرهما من "الفقهاء" الذين كتبوا تصوراتهم المغلوطة لعالم المرأة الجنسي، في لغة مبتذلة، على نحو شديد الإثارة، وهو الهدف من تأليف هذه الكتب، فالتصدي لمثل هذه الكتابات عمل بلا جدوى، وقد جرى تناوله كثيراً، فلا جديد!
وبالوقوف على مقدمات البحث، نتعرف مع الباحثة المؤلفة على الأسباب التي جعلت مساهمات النساء في مجال الكتابة قليلة وخجولة، مقابل الكم الهائل من الكتابات التي ألفها الرجال عنهن، والتي تظهرهن في صور سلبية، حيث الثقافة العربية تواطأت بشكل ما على تغطية قدرات المرأة الفكرية والعقلية. وهذا ما يجعل الباحثة ترى أن الكتابة عند النساء "ليست مجرد هواية أو تسلية، إنما هي موقف وانتفاض على مفهوم العقل الناقص، بل ثورة على الوأد المستمر بأشكال جديدة، فقد (...) أهمل المؤرخون كتابات النساء وإنجازاتهن منذ بداية التدوين باللغة العربية، وما وصل إلينا لا يمثل حقيقتهن، بل يمثل تصورهم لهن".
تاريخ الكتابة النسائية
وفي محاولة الإجابة عن السؤال الرئيس في الكتاب "لماذا لم يكتب تاريخ النساء بعد؟"، تجد الباحثة أن ثمة تفسيرين لذلك، الأول أنه "ليس لهن تاريخ ولا إنجازات ولا إبداعات في الفلسفة والعلوم والآداب، وهذا مستبعد لديها، والثاني أن "لهن تاريخاً، لكنه لم يدون لبُعدهن عن الكتابة، والرجال ركزوا على التأريخ لأنفسهم.. فتاريخ الكتابة المدون ذكوري بامتياز"، حيث فرضت الهيمنة الذكورية منذ 3500 سنة عملية "إقصاء ممنهج للنساء من مشروع إنشاء الأنظمة الرمزية والفلسفات والعلم والقانون، عبر حرمانهن من التعليم وصياغة النظرية"، فجهل المرأة بتاريخ صراعها وإنجازاتها هو وسيلة لإبقائها خاضعة.
وهي تؤكد أن تاريخ الكتابة عند المرأة العربية قصير جداً، في حدود قرن من السنوات، في حين أن تاريخ الكتابة باللغة العربية يمتد لما يقارب أربعة عشر قرناً! والكتابة التي تقصدها هي "النصوص التي ألّفتها امرأة بإرادة منها في أي موضوع كان، شرط ألا يكون شرحاً أو تلخيصاً لكاتب آخر... وألا يكون شعراً...". وعدا ذلك لا توجد "مؤلفات" للنساء في التراث العربي، إما لأن المرأة لم تؤلف، بسبب عدم اهتمامها بالكتابة، وانشغالها بأمور أخرى، أو بسبب منعها عن ذلك... أو أن النساء ألّفن كتباً لم تصل إلينا "لأنه تم إهمالها واستبعادها بسبب عدم تقدير كتابات المرأة، واعتبار العودة إليها نوعاً من العجز والإهانة".
ولتعزيز وجهة نظرها حول الموقف من كتابة المرأة، تستشهد الباحثة بكتابات من شتى المراجع العربية وأشهرها، ففي "صبح الأعشى" للقلقشندي آراء تؤكد أن الثقافة العربية عملت على إبعاد النساء عن الكتابة، حيث نقرأ العبارة الصريحة بأن "الذكورة صفة ضرورية (للكتاب)، وأن النساء غير مستحبات في الكتابة"، ونقرأ ما روي عن عمر بن الخطاب من قوله في النساء، "جنبوهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، واستعينوا عليهن بـ"لا"، فإن "نعم" تضريهن في المسألة"، والأغرب ما قاله شاعر يدعى السلمي "ما للنساء وللكتابة والعمالة والخطابة/ هذا لنا، ولهن منا أن يبتن على جنابة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولمواجهة ما يرد في كتاب "الإصابة في منع النساء من الكتابة" لمؤلفه نعمان خير الدين الآلوسي، (عام 1897م)، الذي يقول، "أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى أضرّ منه بهن، فإنهن لما كُنّ مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد. وأما الكتابة فأول ما تقدر المرأة على تأليف الكلام بها، فإنه يكون رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمر وبيتاً من الشعر إلى عزب... إلخ"، تستعين الباحثة بقول الناقد محمد أفاية، "توجد في لا وعي الرجل فكرة تقاوم الاعتراف بقدرة المرأة على الكتابة، إذ يعتبر أنها... تحمل وتلد فقط..."، وإذا فرضت امرأة نفسها بكتابتها "ينعتها الرجل بأنها ليست امرأة ولا تستجيب لخصائص الأنوثة".
كما لا تنسى الباحثة "الاستثناءات في كتابات الرجال"، خصوصاً الذين درسوا في الغرب، وهي استثناءات ناقصة ومشروطة، فالطهطاوي مثلاً كتب كتاباً "تربوياً موجهاً لتربية الناشئة، ولم يكن ثورة لتخليص المرأة من قيود العادات البالية أو السطوة الذكورية المستبدة... انطلق من خلفية دينية، ولم يستطع التخلص منها..."، ثم إن كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"، بحسب الباحثة، "لم يصل إلى درجة الدعوة لتحرر المرأة العربية كما هو حال (نظيرتها) الغربية". وهي إذ تؤكد "قليلاً ما نجد الرجال... يدعون المرأة للثورة على قدرها والتمرد على العادات والتقاليد جهراً..."، فإنها وبلا تردد ترى أن نزار قباني هو الأكثر ثورية في قوله، "ثوري، أحبك أن تثوري"، فضلاً عن كونه تغزّل بزوجته ورثاها بعد موتها في قصيدته الرائعة "بلقيس"!
بين الكتابة والحكي
وإذ تتساءل الباحثة، "ماذا لو أن شهرزاد استخدمت الكتابة بدل الحكي؟"، فهي تستعير ما يقال عن "الحكي" بوصفه "ميزة نسائية"، وتقدم شهرزاد مثالاً على ذلك ببراعتها في الحكي، لنسج حكايات عجيبة أنقذت بها نفسها من الموت المحتم، لكنها تستند إلى رأي نوال السعداوي حول شهرزاد، من حيث كونها امرأة "بلا عمل، ولا شيء يشغلها إلا تلهية زوجها بالحكايات مثل الجواري والإماء"، وتستعين بالشاعرة جمانة حداد التي كتبت، "هكذا قتلت شهرزاد: اعترافات امرأة عربية غاضبة"، ثم تفترض ما يشبه التمني، "لو أن المرأة تولت بنفسها صياغة التاريخ وساهمت منذ البداية في الكتابة لقرأنا اليوم تاريخاً مختلفاً تماماً عن ذلك الذي وصلنا".
في الفصل الرابع والأخير "فقه النساء كما كتبته النساء"، تعتبر الباحثة أن عبارة "تمكين المرأة" شعار غير صحيح، وأنه لا أحد "مكّنها، بل هي تمكنت بنفسها!"، وهنا تنتقل إلى ما يسمى "النسوية الإسلامية" في مواجهة الذكورية، وتتحدث عن "كاتبات في الفقه"، وتأخذ مثالاً من كتابات المغربيتين نظيرة زين الدين وفاطمة المرنيسي، وغيرهما، متكئةً على فهمي جدعان وبعض ما جاء في كتابه "خارج السرب"، حول تجارب النسوية الإسلامية.
قضايا وتفاصيل كثيرة تتناولها الباحثة، في بحث يقارب الدراسة الأكاديمية، لجهة القراءة والمراجع والاستشهادات والتحليل، وهو الجهد الذي يستحق المتابعة وتقديم الخلاصات الجديدة في هذا الحقل الشائك من الدراسات النادرة، في عالم محكوم بالمحظورات والمحاذير والرقابات متعددة المستويات والتوجهات، الاجتماعية والدينية والثقافية عموماً.