Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جائزة من روسيا عقدت حياتي لأسباب متعددة

لم يكن حصولي عليها حيلة هدفها تبديد الدعاية السلبية بشأن الترحيل القسري لمراسلة من "بي بي سي"، لكن العقول الماكرة فكرت بذلك

منح فلاديمير بوتين صحافية بريطانية جائزة مهنية فاضطربت حياتها في بلدها (أ ف ب)

كنت في كثير من الأعوام الـ18 الماضية، لكن ليس كلها، واحدة من عشرات المتخصصين الأجانب في الشؤون الروسية ممن تلقّوا دعوة لقضاء بضعة أيام في الاستماع إلى نظرائهم الروس ممن يعملون في مختلف مناحي الحياة، والتحدث إليهم.

وتطورت تلك الاجتماعات التي بدأت كمحاولة عابرة في تحسين العلاقات، لتصبح شيئاً أقرب ما يكون إلى مؤتمر دولي، يتيح فرصة لقاء القادة في عدد من المجالات، إضافة إلى المسؤولين والسياسيين.

واشتمل مؤتمر العام الماضي (الافتراضي) على جلسة مع أولئك الرواد في محاولة روسيا البحث عن لقاح ضد كورونا. في المقابل، تناولت جلسات النقاش هذه السنة مظاهر مختلفة من الجائحة، ودارت أيضاً حول مضي 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي، ومدينة موسكو (مع عمدتها)، وكذلك مقاربة روسيا بشأن التغيّر المناخي في المرحلة التمهيدية لانطلاق مؤتمر "كوب 26".

بعبارات أخرى، تشكّل قوام المؤتمر من مجموعة مواضيع سائدة جداً. ويجدر بي أيضاً أن أشدّد ربما على أن اجتماعات كتلك لا تقتصر على روسيا، إذ تستضيف دول أخرى فعاليات مماثلة. وإذا تحوّلت تلك الاجتماعات مادة للأخبار خارج روسيا على مر السنين، فيعود الفضل في ذلك إلى جلسات الأسئلة والأجوبة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي تجري بصورة تقليدية في آخر يوم من المؤتمر. في المقابل، أحدث الارتباط ببوتين تأثيراً سلبياً.

وفيما ظلت العلاقات الغربية الروسية تمضي في اتجاه توتر لا تحيد عنه، صار ينظر إلى من يحضرون ما يُسمّى بـ"نادي فالداي للنقاش" على أنهم أشخاص يتعاملون مع بوتين بشكل ودود، مع أننا نمثل نطاقاً واسعاً من الآراء. وقد تكون عبارة "أيدي روسيا القديمة" وصفاً أفضل [لمن يحضرون المؤتمر]، إذ يتمتع معظم المشاركين الأجانب بخبرة واسعة في شؤون روسيا، ويتقنون لغتها أيضاً. أُوردُ هذا على سبيل تحديد السياق. في المقابل، فجّر اجتماع هذا العام، مفاجأة لا تستحق الترحيب تماماً، بالنسبة لي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي التفاصيل، رُشّحتُ، بعد تحذير لم يأتِ إلا قبل قرابة عشر دقائق فحسب، في حفل الاستقبال أثناء يوم الافتتاح لـ"جائزة فالداي" السنوية هذا العام، ثم أُعلن عن فوزي بها. وألقيتُ كلمة شكر قصيرة، اختتمتها بتعليق ربما وجده البعض في غير محله، إذ ذكرتُ أنني لطالما خشيتُ أن تعقّد الجائزة حياتي حين أعود إلى لندن. والأرجح أنها ستفعل ذلك.

ومن الناحية الإيجابية، تمثل الجائزة اعترافاً بـ"المساهمات البارزة في شرح التغيرات التي تحصل على مستوى السياسة العالمية وتعزيز فهمها". ويلخّص الحديث عن الشرح وتعزيز الفهم، خصوصاً حول روسيا ولكن ليس حصراً بها بأي حال من الأحوال، الكثير مما تمحور حوله عملي كمراسلة خارجية وأخيراً كمعلّقة.

وكذلك ضمّت صفوف الفائزين بالجائزة أخيراً الخبير الروسي في شؤون الشرق الأوسط فيتالي نعومكين والمؤرخ البريطاني دومينيك ليفين، ما يعني عدم وجود خط سياسي مشترك بين من نالوها. لكن، بالطبع، ثمة حقيقة مؤلمة تتمثّل في أن الجائزة التي تمنحها منظمة روسية، تأتي مع وصمة،  خصوصاً بالنسبة إلى صحافي بريطاني. ولعل جائزة مماثلة تكون مبرراً للاحتفال وفتح زجاجة شمبانيا إذا جاءت من أي دولة أخرى. وحتى إن أتت الجائزة من الصين مثلاً، فقد تكون مناسبة بما فيه الكفاية لإثارة البهجة.

في المقابل، إن صورة روسيا في المملكة المتحدة سيئة للغاية من النواحي كلها تقريباً إلى درجة أن أي شيء تمنحه منظمة روسية ربما يثير تساؤلات معادية. أنت تشك في وجود دافع خفي، ولعل أقل تلك الدوافع في الإيحاء بأنها منحت على سبيل الرشوة، يتمثل في عبارة "لقد احتاجوا إلى امرأة هذه السنة" [بمعنى أن الهدف منها رفع تهمة اقتصار الجائزة على الذكور].

واستطراداً، ربما ترى العقول الأكثر مكراً في اختيار بريطانية وصحافية [لنَيل تلك الجائزة] مجرد حيلة هدفها تبديد الدعاية السلبية التي تكتنف الترحيل القسري من روسيا الذي طاول سارة راينسفورد مراسلة الـ"بي بي سي"، أو حتى محاولة غير موفقة في تقديم غصن الزيتون إلى حكومة المملكة المتحدة أو الكتّاب والمحررين البريطانيين.

والأسوأ من ذلك كله، أنكم ستتساءلون إذا كان الهدف من الجائزة يتمثّل في توجيه رسالة مفادها بأن إعداد التقارير الأجنبية من روسيا يجب أن يجري على طريقة ديجيفسكي [ونالت الجائزة] وليس طريقة راينسفورد. أنا شخصياً أستبعد الاحتمال الأخير. ولكن، ثمة أسباب عدة ربما تجعل أي جائزة تحمل سمة روسية مميزة، بمثابة آفة أكثر من كونها نعمة.

وعلى أي حال، تضطهد الدولة الروسية شخصيات المعارضة والصحافيين وتقتلهم، أليس كذلك؟ إنها تطارد أعداءها كألكساندر ليتفينينكو، وسيرجي سكريبال وآخرين، في البلدان التي لجأوا إليها. ويدل سجلّها [روسيا] في ميدان حرية التعبير وحرية الانتخاب، على أنها مقصرة كثيراً فيهما. إنها تتنمر على دول أصغر منها وتغزوها، وكذلك تنتهك القواعد الدولية المقبولة. ولا تزال تحت زعامة مستبد متمثّل في ذلك الجاسوس الذي يتسم بنظراته الباردة، وكان عمله الأول في جهاز الاستخبارات السوفياتية "كي جي بي"، وكذلك عمد إلى تدبير مراجعة للدستور بغرض تمكينه من البقاء في السلطة إلى ما شاء الله.

دعونا نتوقف مؤقتاً عند هذه النقطة، إذ إن هذا التسرع في إصدار الأحكام، وكذلك اللجوء إلى القوالب النمطية التبسيطية، يشكّل ما حاولتُ على امتداد أعوام، أن أشكك في سلامته. غالباً ما يكون الواقع أشد تعقيداً مما يبدو عليه، ويستحق الأمر أن يطّلع المرء، في الأقل، على كيفية العيش في البلد المغلق الذي كانه الاتحاد السوفياتي (حين أمضيت عاماً هناك كطالبة جاء في إطار برنامج تبادل يرعاه "المجلس الثقافي البريطاني" في المقاطعات الروسية)، أو تجربة تفكك الاتحاد السوفياتي (كنت حينها مراسلة موسكو في صحيفة "تايمز").

واستطراداً، تمثّل تلك المعطيات التجارب التأسيسية التي صقلت شخصيات نصف سكان روسيا اليوم، في الأقل، بمن فيهم فلاديمير بوتين، وتعتبر العدسة التي يرون بلادهم من خلالها. ويساعد ذلك على تفسير سبب تفضيل غالبية الروس، حتى الآن، الاستقرار ومعايير المعيشة التي تحسنت بصورة هائلة وباتوا يتمتعون بها في ظل بوتين، على أي بديل قد يكون متاحاً. في المقابل، ربما لا يدوم موقفهم هذا إلى الأبد.

في السياق ذاته، زرتُ روسيا بانتظام على امتداد الأعوام العشرين الماضية، ولاحظت أنها تعرضت لتطورات سيئة وأخرى جيدة أيضاً. وحينما تتجاوز الدولة خطاً أحمر على غرار انتزاعها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، أحاول أن أشرح مدى الاختلاف الممكن بين وجهات النظر في "حي وايتهول" الحكومي بلندن أو عواصم دول بحر البلطيق، وبين تلك التي يتبنّاها أصحاب السلطة في الكرملين. وفي المقابل، أنا أيضاً في منتهى الحذر من أي قصة إخبارية تمس عالم الاستخبارات على غرار أمور كثيرة تتصل بعلاقات المملكة المتحدة مع روسيا. هناك أمور كثيرة نجهلها [في ذلك العالم].

وفي رأيي، تشكّل روسيا اليوم دولة دفاعية أساساً، إذ شهدت استنزاف أراضيها مع انهيار الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى القضاء شبه الكامل على ما اعتبرته بالتأكيد حاجز أمان لها، حين توسع حلف "ناتو" والاتحاد الأوروبي إلى الشرق [باتجاه روسيا] ثم نجحا في الاستيلاء على جورجيا وأوكرانيا. واستطراداً، أرى بوتين مدافعاً عنيداً عن مصالح روسيا الوطنية، يتمثّل هدفه الرئيس في توفير حياة أفضل للروس في بلادهم، واستعادة ما رآه كثيرون منهم على أنه كرامتهم المهدورة في الخارج. وبالنسبة لي كمراقبة قديمة العهد لروسيا تتابع التطورات التي تشهدها اليوم، إن هذا أمر منطقي.

على الرغم من ذلك، ليس ما تقدّم هو التفسير الرسمي والمهيمن الذي يجري تداوله هذه الأيام في المملكة المتحدة حول روسيا. وثمة إجماع يجعل من روسيا قوة عدوانية وتوسعية في ظل زعيم هدفه الأساسي أن يقمع شعبه ويربك الغرب. ولا يقتصر ذلك الإجماع على الدوائر الرسمية في المملكة المتحدة، بل يسود أيضاً في الولايات المتحدة ومعظم أجزاء القارة الأوروبية.

ومع ذلك، ثمة أمر يميّز المملكة المتحدة عن دول أخرى، يتمثل في غياب أي جدال على المستوى العام، بل يبدو أنه افتراض راسخ تماماً، عن كون العداء وليس التقارب هو الذي يجب أن يسود العلاقات مع روسيا، حتى "تقتنع"، على غرار ما يُفعل مع طفل صعب لا يزال يحبو، بأن "تُغيّر سلوكها". بالتالي، تتجسّد المسألة بالنسبة لي في أن روسيا لن تفعل ذلك [تغيير سلوكها] ما لم تشعر بأمان أكبر مما تحس به الآن، وأخطأت المملكة المتحدة على وجه الخصوص، بشكل خطير في قراءة روسيا خلال الأعوام العشرين الماضية.

واستطراداً، تتبنّى أقلية صغيرة من مراقبي روسيا في المملكة المتحدة وجهة النظر هذه. وفي العادة، يأتي الشكر الذي نناله على شكل وصفنا بـ"عميل الكرملين" أو "مدافع عن بوتين" أو "أحمق مفيد" من دون عيون ترى [ما تفعله تلك الأقلية فعلياً].

واستكمالاً، إن كل شخص يستفسر عن مقدار لا يزيد على فاصلة أو نقطة في رواية سكريبال الرسمية البريطانية [إنه جاسوس روسي منشق قتلته الاستخبارات الروسية على أراضي بريطانيا]، يجري تصنيفه بوصفه "صاحب نظريات المؤامرة" يجدر الإلقاء به خارجاً. والآن، تأتي "جائزة فالداي"، بالنسبة لي، دليلاً جازماً على خيانتي بالنسبة إلى إولئك الذين اتهموني في وقت سابق من هذا الشهر، بعد نقاش نادر في "مركز تشاتهام هاوس" البحثي حول سياسة روسيا، بأنني أردّد بشكل ببغائي انتقادات الكرملين.

ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، إذ يأتي التطور المنطقي لهذا النوع من الهجوم متمثّلاً في اللجوء إلى حجة مفادها بأنه لو أنني "في جيب الكرملين" حول هذا الأمر، فكيف يمكنكم احترام حكمي على الأمور في أي شيء آخر؟

إذاً، دعوني أقدم إجابتين. أولاً، باعتبار أن الإجماع المعادي لروسيا بشكل مَرضيّ فشل فشلاً ذريعاً في ترويض موسكو على مر السنين، فلماذا لا نحاول، في الأقل، أن نتبع نهجاً مختلفاً؟

وتملك الإجابة الثانية نطاقاً أوسع، إذ تشتمل الأخطاء التي حددها نواب [بريطانيون] في تقريرهم الأخير بعنوان "فيروس كورونا، دروس مستفادة"، انتشار "التفكير الجماعي" في الدوائر الحكومية والعلمية، ما يقتضي وجود "فريق أحمر" تكون مهمته أن يتولّى طرح وجهة نظر أخرى. إذاً، فلينطبق الأمر ذاته على سياسة المملكة المتحدة حيال روسيا.

لقد آن الآوان منذ فترة طويلة لتفنيد هذا الإجماع بشأن روسيا. للأسف، أخشى أن "جائزة فالداي" التي مُنحت لهذه الصحافية البريطانية [ديجيفسكي] ستؤدي إلى تأثير معاكس.

© The Independent

المزيد من آراء