Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ربع قرن على رحيل كيشلوفسكي مبدع الثلاثية السينمائية "الملونة"

مهرجان الجونة كرمه وعرض خمسة من أعماله التي أولت الإنسان أهمية

المخرج السينمائي البولندي كيشلوفسكي (الخدمة الإعلامية في مهرجان الجونة)

تحية معتبرة قدمها مهرجان الجونة السينمائي الخامس هذا العام للمخرج البولوني كشيشتوف كيشلوفسكي في مناسبة مرور 25 عاماً على رحيله. خمسة من أهم أفلامه تم اختيارها لهذا الحدث، على رأسها "ثلاثية الألوان"، إضافة إلى معرض استعادي وعمل وثائقي في عنوان "أنا بين بين" لكشيشتوف فيرزبيكي. سيرة الفنان البولوني الكبير هائلة، أكانت شخصية أو مهنية، لا يمكن اختزالها في مقالة. لكن حاول مهرجان الجونة أن يرد الاعتبار إلى سينمائي معذب يحتل مكانة خاصة في قلوب عدد كبير من عشاق الشاشة. 

كيشلوفسكي ابن وارسو، حيث فتح عينيه في عام 1941 يوم كانت أوروبا تعيش فظائع الحرب. نشأ وفق التعاليم الكاثوليكية وحافظ على علاقة حميمة بالله. بعد عمله كخياط في أعمال مسرحية، حاول الالتحاق بمدرسة لودز التي تخرج فيها أمثال بولانسكي وفايدا ولكن رُفض مرتين، قبل أن يتم قبوله في قسم الإخراج. طوال عقد ونيف من الزمن، أنجز ما يقارب 50 فيلماً تسجيلياً موثقاً الحياة اليومية في بولندا الستينيات والسبعينيات. في أواخر الثمانينيات، ذاع صيته عالمياً عندما أخرج "الوصايا العشر": عشرة أفلام عن المعضلة الأخلاقية عند الإنسان. ثم، مع "حياة فيرونيك المزدوجة"، قدم أول عمل له خارج وطنه. عُرض الفيلم في مهرجان كان، ونالت عنه الممثلة إيرين جاكوب جائزة التمثيل. ثم انكب على ثلاثية الألوان، أزرق وأبيض وأحمر، التحفة التي وضعته في مصاف أعظم المخرجين في تاريخ السينما.

تحفة سينمائية

لا يخطئ الناقد الأميركي روجر إيبيرت عندما يعتبر ثلاثية كيشلوفكسي بالتحفة السينمائية الخالصة، خصوصاً "أزرق". فهي فعلاً كذلك، وهذا رأي مطابق لآراء كثير من النقاد الذين شاهدوها وحملوها على راحاتهم منذ سنوات. البعض وصل بها إلى درجة التقديس. مع "أزرق"، بلغ الكمال، نصاً وتصويراً وتمثيلاً وإخراجاً. هذا الفيلم هو فصل من ثلاثية الألوان التي أتمها ووضع فيها رؤيته الميتافيزيقية للوجود، وجود يلفه الغموض والأسرار، متماهياً مع الألوان الثلاثة للعلم الفرنسي بحيث أن كل فيلم من الثلاثة يستمد فكرته من شعار الجمهورية الفرنسية: حرية، مساواة، إخاء. قيم سامية صورها بكثير من السخرية واللبس. 

ينطلق "أزرق" من حكاية جولي (جولييت بينوش) التي فقدت زوجها وابنتها في حادث سيارة، ومذ ذاك تحاول النهوض من المأساة التي ألمت بها. سعيها للفكاك من براثن الماضي، ومن بينها الموسيقى، يصنع لها تحديات نفسية جديدة. "كيف نبني أنفسنا في حال كهذه؟"، سؤال يلح عليه الفيلم في كل لحظة.

ما هو الفيلم سوى توثيق بصري مدهش للثمن الذي ندفعه لبلوغ الحرية المنشودة. يطرح كيشلوفسكي سؤالاً فلسفياً: إلى أي حد نحن أحرار فعلاً؟ وكأي معلم تنويري، نجده يحض على الأسئلة التي لا أجوبة شافية لها. لا يمكن فصل خطاب الفيلم عن الجماليات التي تسهم في جعله رائعة سينمائية: التشكيل البصري الذي يولي اللون الأزرق أهمية قصوى. هذا الأزرق البارد الذي ينهش الروح نهشاً. مقابل هذه الجمالية الخلابة: الموسيقى، وهي ذات شأن كبير في دراماتورجيا الفيلم وتحريك الأحاسيس. الموسيقى درس في الإلحاح، تأتي بضربتها المتتالية لإيقاظ الذاكرة. مع ذلك، يترك الفيلم مساحة للصمت لتتجلى خلاله الأم جولي المصلوبة على خشبة الذاكرة. "أزرق" يتربع عرش الأفلام التي تروي الألم، ألم نحاول عبثاً الهروب منه، ولكنه في كل مكان من حولنا؟

الإعتزال القسري

والألم هذا كان رفيق كيشلوفسكي في سنواته الأخيرة. فقبل رحيله بفترة كان اعتزل السينما بعدما شعر باستنفاد الرغبة في التعبير. ثم أي فيلم كان يمكن أن يقدمه بعد "أزرق" الذي بلغ فيه ذروة التعبير السينمائي؟ توقف قلبه عن الخفقان في الرابعة والخمسين وهو في قمة المجد. هذا الذي عرف بأسلوبه العميق في سرد الحكايات، اختتم مسيرته في فرنسا حيث أنجز ثلاثيته مع ممثلين فرنسيين مثل جولييت بينوش وجولي دلبي وجان لوي ترانتينيان وإيرين جاكوب، وتطرق فيها على طريقته الخاصة، إلى قيم من وحي ما أنجزته الثورة الفرنسية، واضعاً أفكاره الإنسانية في سياق روائي شديد الابتكار شكلاً ومضموناً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يُقال إن التدخين عجل أجله. كان يشعل سيجارة تلو سيجارة. إدمان السيجارة أسهم في تلف شرايين القلب عند هذا الرجل الحساس جداً. لم يلجأ إلى الإرادة العازمة للإقلاع عن التدخين، من شدة حبه له. كان كيشلوفسكي يحمل شيئاً من "قنوط المبدع الأصيل وتشاؤمه" كما قال أحد النقاد عنه، لديه دائماً الإحساس بأنه منفي، حتى وهو مقيم داخل وطنه، علماً أن بولندا كانت منعت عديداً من أفلامه في بداية تجربته. 

شيئاً فشيئاً، انصرف صاحب "الوصايا العشر" عن المسائل السياسية الشائكة وصب اهتمامه على معاناة الفرد، وعندما سألته صحافية فرنسية عن السبب وراء هذا الخيار، قال لها: "ابتعدتُ لسببين. أولاً، فعلتُ ذلك واعياً، لأن الواقع، وقبل كل شيء جانبه السياسي، لم يعد يهمني، الواقع الاجتماعي لم يعد يهمني أيضاً. ما يهمني الآن، هو الفرد، لم يبق سواه. كل ما يحوطه زال. كما لو أنك تضع عدسة أقوى فأقوى لتصوير وجه أقرب فأقرب. كل ما من حوله يصير غباشاً. إنه أمر واعٍ. السبب الآخر، وهو حتمي كذلك، إنما غير مرتبط بخياري، إنني أعرف الواقع جيداً في شرق أوروبا، ولكن ليس الواقع الفرنسي. على الرغم من إقامتي في فرنسا منذ بضع سنوات، لا أعرف روحكم، لا أعرف عالمكم. لا أعرف فرنسا. وهذا لا نتعلمه. يسعك أن تتعلم معرفة أجزاء من حياتك، إنما لا تفهمها كلها". 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما