اقتحمت تفاعلات الانقسام السياسي الحاد حول التحقيقات في جريمة انفجار مرفأ بيروت قبل أكثر من سنة، عمل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وأدت إلى تجميد تعليق انطلاقتها، خصوصاً أن أحداثاً أمنية دموية واشتباكات مسلحة توجت هذه التفاعلات.
وأفضت هذه التفاعلات إلى سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً من مناصري ومحازبي "الثنائي الشيعي"، حركة "أمل" و"حزب الله"، نتيجة احتكاك تظاهرة دعا إليها التنظيمان ضد المحقق العدلي في الجريمة القاضي طارق بيطار، مع شباب أحياء مسيحية دخلوا إليها، وبينهم مناصرون لحزب "القوات اللبنانية" وأحزاب مسيحية أخرى.
وسعى ميقاتي إلى تنفيس أجواء الاحتقان التي ولدتها حصيلة الاشتباكات عبر دعوته إلى الإقفال العام حداداً على الضحايا وإفساحاً في المجال كي يتم تشييعهم.
هاجس الحرب الأهلية
وفضلاً عن أن الفصل الدموي الذي شهدته منطقة الطيونة، عند الأطراف الجنوبية للعاصمة بيروت أيقظت عند اللبنانيين هاجس الخوف من تجدد الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975، في تلك المنطقة بين أحياء الشياح ذات الأكثرية الشيعية، وأحياء عين الرمانة معقل أحزاب مسيحية، فإنها أضافت إلى قلق اللبنانيين اليومي من تداعيات الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية، حالة من الرعب لمجرد استعادة وقائع مشابهة لتلك التي أنتجها الاقتتال الأهلي والطائفي الذي دام أكثر من 15 سنة بنهاية القرن الماضي، والذي لم ينتهِ إلا باتفاق الطائف في عام 1989 الذي رعته المملكة العربية السعودية بمباركة وتأييد عربي ودولي.
واستعادت منطقة المواجهات هدوءها في اليوم التالي، وانشغل حزبا "الثنائي" في تشييع ضحايا الاشتباك المسلح في قراهم في الجنوب والبقاع، وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، فيما تحولت الأنظار نحو الإجراءات التي اتخذها الجيش اللبناني الذي لجم تدخله الصدام المسلح، وبات المطلب هو توقيف المتسببين فيه، من دون أن يحجب الجهود من أجل معالجة الخلاف على مطلب "الثنائي" إقالة القاضي بيطار، الذي تسبب بجلسة صاخبة لمجلس الوزراء قبل 48 ساعة، جراء الخلاف حول صلاحية السلطة الإجرائية في اتخاذ قرار من هذا النوع، نظراً إلى تعارضه مع مبدأ فصل السلطات الدستوري بين الحكومة وبين السلطة القضائية. وهو ما أدى إلى تعليق جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ثم بتأجيل ثان للجلسة بناء على طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بسبب استمرار الخلاف على صلاحية مجلس الوزراء في تنفيذ مطلب "حزب الله" ومعه حركة "أمل" بإقالة القاضي بيطار.
إلا أن المخاوف من تجدد الحرب الأهلية في لبنان تبقى ماثلة في أذهان بعض القوى السياسية، نظراً إلى اعتقاد عديد من السياسيين أن جذورها لم تُعالج، وأن الخلافات الطائفية على الصلاحيات بين الرئاستين الأولى والثالثة في عهد عون، فضلاً عن الخلافات بشأن سلاح "حزب الله"، تحمل في طياتها بذور الصدام الأهلي. وهو ما حصل في مناسبات عدة، أبرزها في 7 مايو (أيار) 2008 حين احتل الحزب بيروت وبعض مناطق الجبل وتسبب بتصاعد الحساسية الشيعية - السنية والشيعية - الدرزية، وفي مناسبات عدة حين حصلت احتكاكات بين منطقتي الشياح وعين الرمانة كان الجيش يتدخل لضبطها، وعندما اندفع مناصرو الثنائي أكثر من مرة نحو ساحات اعتصامات الناشطين في ثورة "17 تشرين" لطرد هؤلاء من وسط بيروت وكانوا يهتفون في كل مرة "شيعة شيعة شيعة"، وحين وقعت اشتباكات دامية بين مقاتلين للحزب وبين مسلحي عشائر سنية في منطقة خلدة جنوب بيروت، وعندما جرت مواجهة بين مقاتلي "حزب الله" وبين شبان دروز في قرية درزية أُطلقت منها قذائف صاروخية على إسرائيل رداً على قصفها مناطق جنوبية.
إلا أنها حوادث بقيت مضبوطة ومحدودة نظراً إلى تدخل القيادات في كل الأطراف من أجل لجمها.
الاحتقان السابق على الصدام
وسبق الاشتباك المسلح احتقان سياسي تدرج خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدءاً باعتراض حلفاء لـ "حزب الله" وحتى بعض خصومه، على ملاحقة القاضي بيطار وزراء سابقين ونواب حاليين ورئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، في جريمة انفجار المرفأ لأنهم كانوا على علم بوجود مادة نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت التي سببت الانفجار المأساوي في 4 أغسطس (آب) 2020. واعتبر هؤلاء أن هذه الملاحقة يُفترَض أن تتم عبر المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والنواب والوزراء الذي يتشكل من نواب يختارهم البرلمان ومن قضاة يعينهم مجلس القضاء الأعلى، فيما اعتبر المحقق العدلي وسلفه (القاضي فادي صوان) الذي جرى تغييره، أن من صلاحياته الادعاء عليهم في كل الأحوال، لا سيما أن البرلمان ليس في دورة انعقاد دستورية، بالتالي لا يسري على أعضائه مبدأ الحصانة النيابية أمام القانون.
لكن هذا الاعتراض أخذ أبعاداً أخرى، (بموازاة اتهام نواب الحزب وأمينه العام حسن نصر الله، بيطار بتسييس التحقيق)، حين تسربت معلومات عن غضب "حزب الله" من أن القاضي بيطار يلاحق هؤلاء الوزراء السابقين للحصول على إفادات منهم قد تسهل توجيهه التهمة للحزب بالتورط في مسألة وجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، في القرار الظني الذي سيصدره، ما أدى إلى توجيه مسؤول التنسيق والارتباط في "حزب الله"، وفيق صفا، تهديداً لبيطار بأنه سيسعى إلى "قبعه" (نزعه) من مركزه. وأثار ذلك ردود فعل نددت بتدخل الحزب في عمل القضاء، من جانب خصومه الذين يتهمونه بالهيمنة على قرارات السلطة السياسية، لا سيما الأحزاب المسيحية المعارضة له. لكن الحزب صعّد هجومه على المحقق العدلي عبر مصادره وبعض وسائل الإعلام التابعة له، مصنفاً إياه بأنه يعمل بإيعاز أميركي، ومتهماً إياه بأنه يستقبل دبلوماسيين أميركيين يتواصلون معه.
وفيما تقدم المحامون، وكلاء الوزراء الذين ادعى عليهم بيطار، بدعاوى تطلب كف يده عن تولي التحقيق في انفجار المرفأ، إلى محكمة التمييز الجزائية مرتين، ولم تتجاوب الأخيرة مع دعواهم، رأت مصادر قانونية أن الهدف من وراء تكرار الدعاوى كان إضاعة الوقت ريثما يحل تاريخ 19 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، حين يعود البرلمان إلى دور انعقاد عادي يسترجع خلاله النواب، الوزراء السابقون المدعى عليهم، حصانتهم الدستورية. فالأصول القانونية تقضي بتعليق التحقيق ريثما تبت محكمة التمييز الدعاوى وهذا يتطلب يومين أو ثلاثة، لكن المحكمة عمدت إلى رفض الطلب الثاني لكف يد المحقق العدلي في أقل من 24 ساعة، بعد أن كان بيطار أصدر مذكرة توقيف بحق معاون رئيس البرلمان نبيه بري، النائب علي حسن خليل.
فعند كل مرة جرى فيها تقديم دعاوى كف يد بيطار، تؤدي إلى تجميد تحقيقاته إلى حين البت بتلك الدعاوى، كانت تصدر بيانات متلاحقة من الخارجية الأميركية والخارجية الفرنسية، والاتحاد الأوروبي والأمانة العامة للأمم المتحدة وسفارات بعض الدول الغربية في بيروت، تعبر عن القلق من تجميد التحقيق، وتدعو إلى استمراريته على أن يكون "مستقلاً" وبعيداً من التدخلات السياسية. وفي كل مرة كان نائب أو أكثر من الحزب يرد على هذه التعليقات معتبراً إياها تدخلاً في القضاء اللبناني ومحاولةً لإملاء التوجهات عليه، فيما كان الجيش الإلكتروني للحزب يشن هجوماً على الفرقاء المحليين المعترضين على تأخير التحقيق ورافضي التشكيك بعمل القاضي. واعتمدت هذه الحملات مقولة "المؤامرة التي تستهدف المقاومة في مواجهة إسرائيل".
أبعد من الاعتراض على التحقيق العدلي
وارتسمت لوحة التوتر الداخلي والخلاف على التحقيقات في انفجار المرفأ من تسلسل الوقائع المذكورة وغيرها، فالثنائي الشيعي يرفض المسار الذي يسلكه بيطار، فيما تؤيده وترفض التدخل في عمله، أحزاب "التيار الوطني الحر" حليف الحزب، و"القوات اللبنانية"، و"الكتائب"، و"الكتلة الوطنية"، و"الوطنيون الأحرار"، وهي الأحزاب المسيحية التقليدية، إضافة إلى لجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ الـ 209 والجرحى الـ 3 آلاف، ومجموعات من انتفاضة 17 تشرين من اليمين واليسار، ساندت تحركات الأهالي في الشارع دعماً لبيطار. هذا فضلاً عن استنكار البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الحملات على المحقق بيطار، وكذلك مطران بيروت للروم الأرثوذكس الياس عودة. لكن الانقسام انعكس على علاقة الحليفين أي "الحزب" والرئيس عون في جلسة مجلس الوزراء، التي ألح خلالها "الثنائي الشيعي" على إقالة بيطار بلهجة حادة ونبرة عالية، ما دفع الأول إلى رفع الجلسة غاضباً. إلا أن مفتي الجمهورية كان له موقف متشدد إزاء ادعاء بيطار على رئيس الحكومة السني حسان دياب رافضاً ملاحقته وداعياً، مثل الموقف الشيعي، إلى إحالة الأمر إلى البرلمان وفق ما ينص عليه الدستور. وبدا أن هناك انقساماً مسيحياً إسلامياً حيال القضية. لكن تيار "المستقبل" الذي سلك طريقاً مختلفاً بالاعتراض على أسلوب البيطار، يقضي بتعديل الدستور لتعليق الحصانات من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف، فقد بقي اعتراضه منخفض النبرة، فيما أيّد "الحزب التقدمي الاشتراكي" استمرار تحقيقات بيطار من دون المشاركة في حملات إدانة المعترضين على سلوكه، مراعاة لحليفه رئيس البرلمان نبيه بري. والموقفان السني والدرزي حالا دون أن يكون الانقسام إسلامياً - مسيحياً.
ولم يفت المراقبون ملاحظة أن الانقسام السياسي حول التحقيق في جريمة المرفأ تزامن مع ما هو أبعد من ذلك في ظل تزاحم أميركي - إيراني في البلد خلال الشهرين الماضيين، تمثل بتفرد الحزب في استيراد النفط الإيراني وإدخاله من مرفأ بانياس إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية متحدياً العقوبات الأميركية على إيران وعلى سوريا، ما تسبب بحملة على هذه الخطوة لأنها تقحم البلد في الصراع الدولي - الإقليمي، بينما عاكستها الإدارة الأميركية بإعفاء لبنان من عقوبات "قانون قيصر" على استجرار الكهرباء من الأردن والغاز المصري لمعامل الكهرباء، عبر الأراضي السورية. واعتبر غير مسؤول أميركي، كان آخرهم نائبة وزير الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، أن خطوة الحزب "فرقعة إعلامية"، في ختام زيارتها بيروت في 14 أكتوبر الحالي. وفيما جاءت زيارة نولاند بعد أسبوع على زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت التي قدم خلالها عروضاً لتزويد لبنان بالمحروقات وبناء معامل الكهرباء، وإعادة إعمار المرفأ، يرى مراقبون أن توتر "حزب الله" حيال التحقيق بانفجار المرفأ ليس معزولاً عن الصراع الأميركي الإيراني، حيث تزاحم واشنطن، طهران والحزب على النفوذ في البلد، أولاً عبر علاقتها بالجيش اللبناني، الذي تزوده بالسلاح والذخيرة والطيران والتدريب والخبرات، وآخرها إعلان نولاند عن التبرع بـ 67 مليون دولار للمؤسسة العسكرية. وسبق لرئيس المجلس السياسي في الحزب هاشم صفي الدين أن لوح بأن الحزب قد يخوض معركة إخراج أميركا من الأجهزة اللبنانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي معلومات أوساط سياسية أن الحزب يحضر لخوض معركة تثبيت نفوذه في الجيش وفي القضاء، لإضعاف النفوذ الأميركي، ولا يكتفي بنفوذه على الرئاسة الأولى. وتروج أوساط قيادية فيه لمعطيات تزعم أنها تشمل تعاوناً أميركياً خليجياً مع بعض الأجهزة العسكرية، والقضائية بهدف إلصاق تهم بالحزب في انفجار المرفأ، لا يمكن أن يحتملها.
التسلح وفائض القوة وعوائق الحرب
أثبتت اشتباكات الطيونة في 14 أكتوبر أن تراكم الخلافات السياسية أسهم طوال الأعوام الماضية في تعبئة النفوس. وفي وقت يسمح شعور "حزب الله" وجمهوره بفائض القوة قياساً إلى حجم بلد صغير كلبنان، بالتفاف جزء واسع من الطائفة الشيعية حوله فينتمي كثر من شبابها إلى ميليشياه أو إلى ميليشيا حركة "أمل"، فإن إصرار الحزب على أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة في المسائل الرئيسة في البلد، بعد نجاحه في إيصال عون إلى الرئاسة الأولى، خلق رد فعل في الوسط المسيحي شجع على التسلح من قبل شباب الأحياء ومناصري حزب "القوات اللبنانية" وغيره. وكان واضحاً من صور وفيديوهات جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي عند حصول الصدام المسلح، أن مناصري "الثنائي الشيعي" الذين تظاهروا في اتجاه قصر العدل ضد القاضي بيطار، كانوا مسلحين، وحين دخلوا منطقة عين الرمانة القريبة كان بعضهم يحمل السلاح جهاراً، فيما كان مسلحون حزبيون وغير حزبيين احتاطوا لذلك واشتبكوا معهم، وهذا ما فاقم الفصل الدموي الذي شهدته العاصمة اللبنانية. وتردد أن سبب حمل المتظاهرين السلاح هو أن الخطة كانت تقضي بنصب الخيم أمام مدخل قصر العدل لمنع دخول القاضي بيطار إليه، وأن السلاح كان لحماية المعتصمين في الخيم.
وبات معروفاً أن التسلح في بعض المناطق يحصل من ضمن هاجس المكونات الطائفية أن "نتهيأ للدفاع عن مناطقنا" للحؤول دون امتداد نفوذ "حزب الله" إليها كما حصل في بعض أحياء المدن، وبعض القرى الجبلية. وفيما يُترك للجيش أن يعالج ذيول ما حصل بتوقيف حمَلة السلاح الذين تسببوا بالاشتباك من الجانبين، فإن أوساط "الثنائي الشيعي" تدعوه إلى التشدد في ذلك، خصوصاً أن الحزب و"أمل" اتهما "القوات" بأنها وراء المسلحين في الجهة المسيحية، على الرغم من نفي الأخيرة ذلك أكثر من مرة، ودعوة رئيس الحزب سمير جعجع إلى أن تأخذ القوى الأمنية التدابير اللازمة لمنع تكرار ما حصل. ويطالب الحزب في الاتصالات الجانبية الجارية معه بمحاكمة "القوات اللبنانية"، ويسعى من أجل إحالة أحداث الطيونة على المجلس العدلي، بحجة أنه لا يحتمل التجرؤ عليه في عدد من المحطات الصدامية في الأشهر الماضية.
جمود حكومي ووحدة الجيش
ومع المخاوف من بقاء الأمور معلقة بلا معالجات لتعذر بعضها، خصوصاً أن مطلب إقالة بيطار بات مستحيلاً بسبب رفضه شخصياً التنحي، وبفعل رفض عون وميقاتي اتخاذ قرار من هذا النوع في الحكومة، فإن عمل الأخيرة سيخضع للتجميد إلى حين إيجاد المخارج للقضايا العالقة كلها.
أمر واحد يتلاقى العديد من القيادات على التأكيد عليه حتى إشعار آخر، هو أن أحد أهم موانع اندلاع الحرب الأهلية هو أن الجيش اللبناني قادر على التدخل لوقف أي صدامات مسلحة حتى لو وجِد السلاح، فيما كان ممنوعاً عليه في عام 1975 أن يتدخل لوقف الحرب بحجة الخوف من انقسامه (بين مسلمين ومسيحيين)، الأمر الذي حصل لاحقاً، لأن قرار الاقتتال الداخلي كان أقوى من الحفاظ على وحدته، فيما يغلب في الظروف الراهنة الإصرار على وحدته ودوره في حفظ الأمن على أي أمر عمليات بالحرب الأهلية.