يبدو أن شركات التكنولوجيا الكبرى "بيغ تك" مقبلة على مرحلة من القيود الحكومية تختلف عن الاستقلال الذي طالما تمتعت به تحت مسمى الضوابط والسياسات الداخلية، التي جنبتها الإشراف الحكومي على المحتوى. فعقب مقابلة مديرة الإنتاج السابقة لدى شركة "فيسبوك"، فرانسيس هاوغن، مع برنامج "60" دقيقة على قناة "سي بي أس" الأميركية، التي كشفت فيها عن أن منصة "فيسبوك" تمنح الأولوية للربح على حساب الصالح العام، تعالت الأصوات السياسية في أوروبا والولايات المتحدة لفرض قواعد منظمة على منصات التواصل الاجتماعي.
وكشفت هاوغن خلال المقابلة التلفزيونية، الأحد، عن "أنها كانت وراء تسريب معلومات تتعلق بسياسات (فيسبوك) لصحيفة وول ستريت جورنال، الأميركية، التي نشرت تحقيقاً من عدة أجزاء يؤكد إخفاء الشركة الآثار السلبية للمعلومات المضللة، بالإضافة إلى الأضرار النفسية التي يسببها تطبيق (إنستغرام) للمستخدمين بخاصة الفتيات الصغيرات". وأشارت إلى أن "بحث فيسبوك الخاص يقول، عندما تبدأ هؤلاء الشابات في استهلاك هذا (محتوى اضطراب الأكل)، يصبن أكثر فأكثر بالاكتئاب. وهذا في الواقع يجعلهن يستخدمن التطبيق أكثر".
وأوضحت المسؤولة السابقة، "إن منصة (فيسبوك) كان لها دور في هجوم 6 يناير (كانون الثاني) على مبنى الكابيتول مقر الكونغرس الأميركي، كما أنه يمنح الأولوية للربح على حساب خطاب الكراهية وغيره من المضامين الضارة. كما كشفت الوثائق، التي سربتها هاوغن، عن وجود برنامج يمنح المشاهير تصريحاً مجانياً عند نشر محتوى غير قانوني وضار، وجهود لتحسين الخوارزميات لتمرير المحتوى الاستقطابي، والمخاطر التي يتعرض لها المراهقون وكذلك ضحايا الاتجار بالبشر والنشطاء السياسيون".
إشراف فيدرالي أقوى
وعقب مقابلة هاوغن التلفزيونية، دعا عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي إلى البدء في سن تشريعات تنطوي على إشراف فيدرالي أقوى في التعامل مع محتوى منصات التواصل الاجتماعي. وستدلي هاوغن بشهادتها أمام اللجنة الفرعية التجارية بمجلس الشيوخ في الكونغرس، للاستماع إلى تأثيرات تطبيقي "فيسبوك" و"إنستغرام" في المستخدمين الشباب، كما ستدلي بشهادتها أمام البرلمان البريطاني في وقت لاحق من الشهر، ويدرس البرلمان الأوروبي إرسال دعوة إليها للإدلاء بشهادتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن شركة التكنولوجيا التي لديها 2.9 مليار مستخدم وتبلغ قيمتها تريليون دولار، تسعى بشكل محموم لتهدئة المخاوف، وأكدت "أنها غيرت سياستها (بشكل جذري) لمكافحة إساءة الاستخدام على منصتها"، كما وجهت اتهامات لصحيفة وول ستريت جورنال بنشر تقارير غير دقيقة والفهم السيئ للوثيقة الداخلية، واتهمت هاوغن بـ"التضليل".
وغرد السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنثال، رئيس اللجنة الفرعية لجلسات الاستماع، على حسابه بموقع "تويتر"، قائلاً، "توضح تصرفات فيسبوك أننا لا نستطيع الوثوق بها لضبط نفسها. يجب أن نفكر في إشراف أقوى، وحماية فعالة للأطفال، وأدوات للآباء، من بين الحاجة إلى إصلاحات أخرى".
وطلب السيناتور الديمقراطي إد ماركي، يوم الاثنين، إجابات من الرئيس التنفيذي لشركة "فيسبوك" مارك زوكربيرغ بعد أن أشار بحث جديد إلى أن شركة التواصل الاجتماعي فشلت في منع عرض الإعلانات الضارة لمستخدمي "فيسبوك" المراهقين.
واستشهد ماركي بالبحث الذي أجراه "مشروع حملة مساءلة الشفافية التقنية"، الذي كشف عن أن "فيسبوك" سمح للمعلنين أخيراً باستهداف المستخدمين المراهقين الذين تقل أعمارهم عن 13 عاماً "بمحتوى غير لائق وخطير، بما في ذلك الإعلانات التي تروج لتعاطي حبوب منع الحمل، والمشروبات الكحولية، وفقدان الشهية، والتدخين وخدمات المواعدة والمقامرة". وأضاف "هذه النتائج تلقي بظلال من الشك الشديد على امتثال فيسبوك للوعود التي قطعها موظفوها علناً، وهي مقلقة بشكل خاص في ضوء التقارير الأخيرة الأخرى، التي تشير إلى أن الشركة لديها معرفة مباشرة بأن منصاتها ضارة بالشباب"، في إشارة إلى ما كشفت عنه هاوغن.
التنظيم الذاتي لم ينجح
ودخل البيت الأبيض على خط المواجهة، ففي الوقت الذي واجهت فيه شركة "فيسبوك" أزمة، أمس الاثنين، بعد تعطل تطبيقاتها "فيسبوك، وإنستغرام، وواتساب، وماسنجر"، لساعات طويلة، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، خلال مؤتمر صحافي، "إن التعليقات التي أدلت بها الموظفة السابقة لدى الشركة أثبتت أن جهود قطاع التكنولوجيا لتنظيم نفسه لم تنجح". مشيرة إلى "أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ترغب في إشراف فيدرالي أكبر عليها، إذ تقول عنها إنها تسيطر على الخطاب العنيف أو الكراهية على منصاتها".
ربما مثلت شهادة هاوغن فرصة للبيت الأبيض لفرض بعض السيطرة على عمالقة التكنولوجيا في ظل الدور الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات المضللة خلال أزمة فيروس كورونا، بحسب ما أشار إليه الرئيس الأميركي قبل أشهر قليلة. ففي يوليو (تموز) الماضي، نشب خلاف بين "فيسبوك" وبايدن إثر تصريحات أدلى بها الأخير للصحافيين، قائلاً إن "فيسبوك ومنصات أخرى تقتل الناس من خلال السماح بنشر معلومات مضللة عن اللقاحات المضادة لفيروس كورونا". وهو ما استدعى رداً مضاداً من العملاق الأزرق، الذي اعتبر أن هذه التصريحات محاولة للبحث عن "كبش فداء" لفشل بايدن في تحقيق أهداف التطعيم.
قانون أوروبي صارم
وعلى الصعيد الأوروبي حيث تتخذ الحكومات موقفاً أكثر تشدداً تجاه المحتوى الضار على منصات التواصل الاجتماعي، دعا المشرعون في الاتحاد الأوروبي إلى استدعاء هاوغن للإدلاء بشهادتها أمام برلمان الكتلة بشأن الكشف عن الممارسات السامة على المنصة، إذ يقومون حالياً بوضع قواعد جديدة مشددة لتنظيم المحتوى عبر الإنترنت.
ويعمل البرلمان الأوروبي على مشروع قانون رئيس لتعديل المحتوى يعرف باسم "قانون الخدمات الرقمية". ويستهدف المشرعون الأوروبيون اتخاذ إجراءات صارمة ضد المحتوى غير القانوني ومعالجة القضايا المنهجية على منصات التواصل الاجتماعي مثل المعلومات المضللة، وتعديل المحتوى وخوارزميات الإعلان وفتح بياناتهم للمنظمين والباحثين.
ووفقاً لمجلة "بولتيكو"، قال الاشتراكي الدنماركي كريستل شالديموس، عضو البرلمان الأوروبي الذي يقف وراء القانون الجديد الذي تحدث إلى هاوغن قبل أسبوعين من كشف هويتها، "إن ملفات فيسبوك، والكشوفات التي قدمها لنا المبلغون عن المخالفات تؤكد مدى أهمية عدم السماح لشركات التكنولوجيا الكبيرة بتنظيم نفسها".
وقالت النائبة عن حزب الخضر، ألكسندرا جيز، التي تحدثت أيضاً إلى هاوغن الأسبوع الماضي، "أنا ممتنة لشجاعة المبلغين عن المخالفات التي أعطتنا أخيراً رؤى نحتاج إليها للتشريع بشكل فعال. حتى الآن لم يتمكن الجمهور ولا المشرعون من اكتساب مثل هذه الرؤية العميقة للآليات التي أصبحت قوية للغاية". وردد زملاؤها في البرلمان تعليقاتها، إذ أشادت كل من عضوة البرلمان الأوروبي الليبرالية ديتا شارانزوفا والنائبة المحافظة أربا كوكالاري بعمل هاوغن وغيرها ممن كشفوا عن المخالفات.