Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صورة باهتة للفن المصري الحديث في بينالي البندقية

"خْنُومْ... راو عبر العصور" تجهيز فني

من الجناح المصري في معرض البندقية (اندبندنت عربية)

تشارك مصر هذا العام في بينالي البندقية (او فينيسيا) للفنون عبر الجناح الرسمي بعمل قدمه فريق مكون من ثلاثة فنانين: الفنان أحمد شيحة (قيّماً) إضافة إلى الفنانَين أحمد عبد الكريم عبد النبي وإسلام عبد الله. ويعد بينالي فينيسيا أهم تجمع دولي للفنون البصرية وأقدمه، ويقام كل عامين في مدينية فينيسيا الإيطالية. الفريق المشارك هذا العام كُلّف بشكل مباشر لضيق الوقت كما قيل وقتها، أي من دون إجراء مسابقة أو أية آلية أخرى تسمح بالتنافس أو طرح الأمر للنقاش بين المهتمين بالثقافة البصرية في مصر على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، وهو ما أثار الكثير من علامات الاستفهام. لا غرابة في ذلك، فهذا التعامل الفوقي هو سلوك تلجأ إليه المؤسسة الثقافية الرسمية في كثير من المشاركات والإسهامات المصرية الخارجية، وهي وسيلة مريحة بالتأكيد، تختصر الكثير من الجُهد والتفكير، وربما التكلفة المادية أيضاً. المنطق الحاكم هنا يستند على ما يبدو إلى شعور من في يده القرار بأنه الأدرى والأحكم والأقدر على الاختيار من دون غيره. على كل حال، ما كان كان، فدعونا نلقِ نظرة على تلك المشاركة إذاً.

قبل الافتتاح الرسمي للبينالي تم تداول العديد من الصور للجناح المصري، تبعتها مجموعة أخرى من الفيديوهات كان مصدرها صفحة الأكاديمية المصرية في روما، بالإضافة إلى صفحات الفنانين المشاركين، ما وفر لنا مادة بصرية تبدو كافية للحكم على العمل، أو على جانب كبير منه على الأقل، وهو المتعلق بالفكرة أو مفهوم العمل. ترسم الصور الفوتوغرافية ومشاهد الفيديو تصوراً عاماً لطبيعة هذا التجهيز الفني والذي حمل اسم "خْنُومْ.. راوي عبر العصور" وخنوم أو غنوم هو إله مصري قديم كان يُصوّر على هيئة كبش أو رجل بوجه كبش، وله معبد شهير في مدينة إسنا جنوب مصر. العنصر الرئيسي في العمل اعتمد على هيئة الإله خنوم في صورة الكبش. وُضعت ثمانية تماثيل للإله خنوم في صفين متقابلين على غرار طريق الكباش الشهير في الأقصر (أربعة تماثيل في كل جهة) واستُبدلت وجوه التماثيل بشاشات عرض. لا نستطيع التأكد من المادة التي بُثت عبر هذه الشاشات، غير أن الشاشة الأبرز أظهرت مقطعاً يظهر فيه كل من شيخ الأزهر أحمد الطيب وبابا الفاتيكان في أحد اللقاءات الودية.

على جانبَي ممرّ الكباش هذا، ثمة رسوم وصورٌ على الجدران، وهياكل لمسلةٍ مصرية تضم تشكيلات من عناصر أخرى. ويبدو أن زائر الجناح كان عليه الولوج عبر ممرات أو مساحات منفصلة عن بعضها بعضاً، بينها بوابة على هيئة هرم. العمل بكل بساطة وكما تدلّ الكلمات والتصريحات المتناثرة والشارحة له على صفحات الفنانين أو عبر الصحف المصرية يستدعي روح الفنّ المصري القديم في إطار معاصر، من طريق المزج بين عناصر فرعونية، كالشكل الهرميّ، والمسلّة، والرسوم الجدارية، وهيئة الإله خنوم، وأخرى معاصرة كأطباق الاستقبال التليفزيوني، وشاشات العرض، والفوتوغرافيا، وأعمال الجرافيك وغيرها.

أول ما يلفت الانتباه في تلك المشاركة وما صاحبها من دعاية، هو المبالغة في توصيف العمل على نحو بدا غير مُلمٍ بطبيعة الممارسة الفنية. البيان المنشور على صفحة الأكاديمية المصرية في روما، على سبيل المثال، وهي جهة مساهمة في التنظيم يشير بكثير من التفاخر إلى تنفيذ العمل بـ "أحدث التقنيات" وهي العبارة ذاتها التي وُصف بها العمل الرسمي المشارك في البينالي السابق أيضاً، والذي كان بالمناسبة عن فكرة السلام، ويبدو أن السلام يمثل هاجساً مستمراً لدى المؤسسة الثقافية الرسمية، كما التقنيات الحديثة أيضاً.

بطبيعة الحال نحن أمام عمل فنيّ، لا يهمّ إن استُخدمت فيه أحدث التقنيات أو أكثرها تخلفاً، الأهم هنا أن نقدّم خطاباً بصرياً متوازناً ورؤية فنية تحترم عقل الجمهور والمتابع، من دون ثرثرة، أو مبالغة، والأهم من كل ذلك، من دون استعراض مخلٍ ومائعٍ للعاطفة والمشاعر، أياً كانت طبيعة العاطفة أو المشاعر التي يُعبّر عنها. بدت أيضاً لقطات الفيديو التي يتضمّنها العمل للقاء البابا بشيخ الأزهر مُغرقةً في السطحية والافتعال. يجمع العمل كما هو ظاهرٌ بين الرسم والتصوير والفيديو والنحت والجرافيك، كما يتضمّن توظيفاً لمواد سمعية وإضاءة، وجمع كذلك بين الثبات والحركة في بعض العناصر. لم يترك أصحاب العمل حيزاً في قاعة العرض إلا وحُشيَ بهذه العناصر والمفردات، ولم يتركوا وسيطاً بصرياً إلا واستخدموه، وكأننا نريد أن نثبت للعالم أننا نُتقن كل شيء، أو كأن اضطراباً نفسياً في ذواتنا يشعرنا بالنقص تجاه الآخرين، ونسعى جاهدين إلى نفيه أمامهم. ألا يعدّ حشد هذه العناصر والجمع بين كل هذه الوسائط نوعاً من الثرثرة والفوضى البصرية التي لا لزوم لها؟ ما أصاب العمل بالركاكة. ألم يكنْ من الممكن التعبير عن الفكرة من طريق وسيط واحد فقط أو اثنين؟ نحن أمام عمل استعراضيّ بالدرجة الأولى، وهو استعراض مخلٍ، ليس فقط على مستوى الشكل والبناء المُمعنِ في التكلُف، بل على مستوى الفكرة نفسها التي استند إليها العمل، والتي تدور في فلك المشاعر الوطنية والاعتزاز بالثقافة والهوية المصرية. لا غبار على هذه المشاعر الفيّاضة بالطبع، ولكن كيف وأين تُوظّف؟ هذا هو المحك الحقيقي.

فهم خاطىء

نأتي هنا إلى الجزء الأكثر فداحة، وهو المتعلق بالثيمة، فهناك نوع من الالتباس والغموض يحيطان بالفكرة نفسها وعلاقتها بالثيمة المعلنة لهذه الدورة من البينالي "May you live in interesting time" وهو تعبير ساخر باللغة الإنجليزية يشير إلى الأوقات الصعبة التي نعيشها أو التي يكابدها العالم اليوم. غير أن فريق العمل اعتمد على الترجمة الحرفية لتلك العبارة، وهي الترجمة التي تم تبنيها في صوغ الفكرة، وضُمّنت في النشرات الصحافية والأوراق والمطبوعات المصاحبة للعمل، وهي على هذا النحو "قد تعيش في أوقات مدهشة" وهي ترجمة مغايرة تماماً للتعبير الإنجليزي، ما أضاف بُعداً مأساوياً للأمر. لا أدّعي هنا أنني كنت على علم مسبق بما يعنيه هذا التعبير، حتى نبهتني إحدى الصديقات إلى ذلك، وبقليل من الجهد يمكننا التأكد من المعنى المقصود بهذه العبارة الإنجليزية. وأستغرب هنا كيف انطلى هذا الفهم الخاطىء لهذا التعبير على عشرات الأفراد ممن أسهموا في الإشراف على الجناح المصري. ما زاد الأمر سوءاً هو محاولات فريق العمل الواضحة والمضنية ليَّ الفكرة أو اعتصارها كي تعبر بشكل مباشر عن الترجمة الخاطئة للثيمة المشار إليها، وهو أمرٌ لا يثير سوى الرثاء، خلافاً لركاكته وابتذاله. يجدر التنويه هنا إلى أن إدارة البينالي تتحمّل جانباً من المسؤلية في هذا اللبس بتبنيها تعبيراً مراوغاً كهذا، وكان عليهم أن يضعوا في حساباتهم أن هناك من سيأخذ الأمور على علّاتها، من دون أن يُرهق نفسه بالبحث والتقصّي عن خلفية الثيمة المعلنة.

من المحزن هنا، مطالعة ما كتبه البعض عن شعورهم بالخجل عند زيارة الجناح المصريّ في بينالي فينيسيا، هذا الحدث الكبير الذي يجمع فنّاني العالم، ويُسلط خلاله الضوء على المشاركات المختلفة، والتي تُعد تمثيلاً للفنّ والثقافةِ البصرية في البلدان التي تنتمي إليها. غير أنه من المؤكد أن هذا الحضور الباهتَ والمبتذلَ للجناح المصري هذا العام لا يعكس بأي حالٍ من الأحوال الصورةَ الحقيقية للفنّ المصريّ المعاصر.

.

المزيد من ثقافة