Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف ستغير الأقمار الاصطناعية التجارية من التعامل مع قضايا الأمن القومي؟

زيادة هائلة في معدلات الإطلاق والمئات منها تصور كل بقاع الأرض لحظة بلحظة

لقطة من أحد الأقمار الاصطناعية لحمم أطلقها بركان ثائر في جزيرة لا بالما الإسبانية في 25 سبتمبر الماضي (رويترز)

بعد ساعات من اجتياح حركة "طالبان" العاصمة الأفغانية، بدأت وسائل الإعلام باستخدام الصور المأخوذة من أقمار اصطناعية تجارية لتوثيق الفوضى التي تكشّفت في مطار كابول الدولي في وقت حدوثها، كما اكتشف قمر اصطناعي تجاري في يونيو (حزيران) الماضي، صوامع صواريخ صينية باليستية عابرة للقارات، الأمر الذي يسلّط الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه صور مئات الأقمار الاصطناعية عالية الجودة التي تديرها شركات خاصة حالياً في تحديد فهم الجمهور لقضايا الأمن القومي الكبرى وتشكيل مستقبل لا يُخفي سوى القليل من الأسرار، فما تداعيات وتأثيرات انتشار هذه الأقمار في الحكومات حول العالم وفي قضايا الأمن القومي لكل دولة؟ 

مزيد من الأقمار

على الرغم من أن عدد الأقمار الاصطناعية الناشطة العاملة في الفضاء حتى أبريل (نيسان) الماضي، يتجاوز 3500 من بين نحو 7400 قمر اصطناعي يدور حول الأرض، وفق مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، إلا أن هناك زيادة هائلة في معدلات إطلاقها خلال العام الحالي مقارنةً بعام 2020، إذ أُطلق نحو 900 قمر اصطناعي حتى منتصف العام بزيادة قدرها 70 في المئة عن العام السابق، لكن المفاجأة أن غالبية هذه الأقمار ترسلها شركات خاصة لأغراض متعددة.
ويعود سبب هذه الزيادة إلى تسابق عدد من الشركات مثل "سبيس إكس" و"كويبر" التابعة لـ"أمازون" و"لايت سبيد" إلى إطلاق مئات الأقمار لزيادة مجموعاتها التي تستهدف تزويد زبائنها حول العالم بخدمات الإنترنت ذات النطاق العريض مباشرة عبر هذه الأقمار، لكن هناك أيضاً شركات تجارية خاصة أخرى، تشغّل مئات الأقمار الاصطناعية وتبيع صوراً عالية الدقة للأفراد والشركات، وتقول إنها تصوّر كل بقاع الأرض لحظة بلحظة طوال 24 ساعة، ما يوفر معلومات تفصيلية حساسة من شأنها التأثير في الأمن القومي لكل بلدان العالم، وإجبار الحكومات على تغيير المنهج الذي تتّبعه في التعاطي مع مجالات مختلفة كانت في الماضي تحتكر وحدها الاطلاع والمعرفة بشأنها.

قليل من الأسرار

وتُنبئ التطورات التكنولوجية المتسارعة كل يوم في مجال الأقمار الاصطناعية، بخاصة التجارية منها، بعدد أقل من الأسرار في المستقبل، ما يمنح الكيانات غير الحكومية، أدوات جديدة لمراقبة أداء وأفعال الحكومات والتحقق من تصريحات السياسيين بشكل مستقل، ذلك أن الحكومات خصوصاً في الغرب، تجد نفسها مع مرور الزمن أقل سيطرة على المعلومات الحساسة، لكن هذا لا يعني أن الشفافية التي توفرها التكنولوجيا المتطورة، لا تقدم في الوقت ذاته مزايا استراتيجية للحكومات مثل قدرة الجهات المستقلة على التحقق مما يقوله المسؤولون والإدارات الحكومية المختلفة، والكشف عن الأنشطة غير المشروعة وفضح الانتهاكات التي يقوم بها خصوم هذه الحكومات.
وحتى وقت قريب، تمتعت الحكومات فقط وبشكل حصري بالقدرات المالية والفنية اللازمة لتشغيل أجهزة استخباراتها الضخمة لتتبّع ومراقبة أنشطة الدول الأخرى، ولهذا احتفظت الحكومات باحتكار شبه كامل للمعلومات الاستخباراتية الحساسة، ما سمح لها بتحديد ما إذا كان ينبغي الكشف عن أسرار خصومها ومتى يمكن أن تفعل ذلك. فخلال أزمة الصواريخ الكوبية على سبيل المثال، واجه سفير الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة، نظيره السوفياتي بصور استطلاعية لمواقع الصواريخ السوفياتية في كوبا، ما كشف عن النشاط السري للاتحاد السوفياتي أمام العالم.

معلومات حساسة

لكن ابتداءً من السبعينيات، أدى انتشار الأقمار الاصطناعية التجارية إلى توسيع نطاق الوصول إلى المعلومات الاستخباراتية الحساسة التي كانت في يوم من الأيام في أيدي الحكومة بشكل حصري. وعلى مدى العقد الماضي، زاد عددها في المدار بشكل كبير، وكذلك جودة الصور التي تلتقطها والتي تكون في كثير من الأحيان في الوقت الفعلي أي في نفس لحظة وقوعها، ومن بين هذه الشركات، شركة "بلانيت" للأقمار الاصطناعية التجارية التي جمعت الصور المستخدَمة لتحديد مواقع صواريخ الصين، وهي تشغّل حالياً أكثر من 200 قمر اصطناعي.
ويعني توافر هذا النوع من المعلومات التفصيلية عبر الأقمار الاصطناعية التجارية أن الحكومات لم تعُد الكيانات الوحيدة التي تقرر متى تكشف عن معلومات ربما تكون حساسة، بعدما أصبحت هذه المعلومات متوافرة لدى مراكز التفكير والدراسات ووسائل الإعلام ومجموعات مختلفة من النشطاء، وحتى المحققين الهواة، الأمر الذي يرتب آثاراً سياسية واستراتيجية، وفق دراسة أجراها إيريك لين غرينبيرغ، أستاذ مساعد للعلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وثيو ميلونوبولوس، الأستاذ في جامعة بنسلفانيا.

تأثير خطير

وينبع هذا التأثير من قدرة الأطراف غير الحكومية في بعض الحالات على استخدام صور الأقمار الاصطناعية للتحقق من ادعاءات القادة السياسيين عبر تأكيد أو نفي البيانات الرسمية، بالتالي تكون هذه الأطراف أداة رقابة مستقلة على الحكومات، ومن ثم تشكيل الرأي العام المحلي والدولي. واتضح ذلك عام 2018 في أعقاب القمة التي عقدها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، والتي أعلن بعدها ترمب أنه لم يعُد هناك تهديد نووي من بيونغ يانغ. ففي غضون أشهر قليلة، حددت صور الأقمار الاصطناعية التجارية 13 قاعدة صواريخ مخفية في كوريا الشمالية، ما ألقى بظلال من الشك على مزاعم ترمب وربما أسهم في تآكل الدعم العام للرئيس الأميركي.
ومن الطبيعي أن تنزعج الحكومات عندما تكشف مثل هذه الصور عن أنشطتها السرية أو عن وجود انتهاكات للقانون الدولي، ما قد يدفع المجتمع الدولي إلى تنفيذ عقوبات ما. فعلى سبيل المثال، قدّمت صور الأقمار الاصطناعية التجارية عن منشآت الاعتقال الكبيرة في كل أنحاء مقاطعة شينجيانغ في غرب الصين، دليلاً على احتجاز بكين لأقلية الإيغور العرقية، ما جعل وكالات الأنباء والمنظمات الإنسانية تستشهد بهذه الصور في توجيه انتقادات ضد الصين.
ومن الممكن أن يتسبب الكشف عن أعمال عسكرية حساسة أو عمليات سرية بحدوث مشكلات أخرى، ما قد يعرّض سير هذه العمليات الجارية وآلية عملها للخطر بحسب ما يقول موقع "فورين أفيرز"، فتُجبَر الدول على الاعتراف بالأفعال التي تفضّل إخفاءها عن الرأي العام. وعلى سبيل المثال، استخدمت صحيفة "نيويورك تايمز" صور الأقمار الاصطناعية التجارية للكشف عن أن الولايات المتحدة كانت تشغّل طائرات مسيّرة من قواعد سرية في غرب أفريقيا، ما دفع المسؤولين الأميركيين إلى الاعتراف بوجود تلك القواعد، غير أنه في حالات أخرى، من الممكن أن يمنع الانتشار السريع لتكنولوجيات المعلومات، الحكومات من تنفيذ عمليات معينة، ما يقوّض من حرية تصرّفها.

أضرار ومكاسب

وعلى الرغم من أن الكشف عن المعلومات الحساسة من قبل الجهات غير الحكومية يمكن أن يشكل تحديات كبيرة للدول، إلا أنه ليس مضرّاً بشكل دائم، ففي كثير من الأحيان تكون إتاحة الصور والمعلومات لكيانات خاصة، أمراً مفيداً من الناحية الاستراتيجية، فعندما تؤكد صور الأقمار الاصطناعية مزاعم أحد القادة حول قوة عدوه أو منافسه أثناء أزمة دولية، فإن مثل هذا الكشف يمكن أن يعزز دعم هذا القائد وسياساته شعبياً، فالاستقلال النسبي للشركات الخاصة، يضفي على صور الأقمار الاصطناعية التي تطلقها مصداقية أكبر، مقارنةً بتلك المعلومات المماثلة الصادرة عن وكالات الاستخبارات الحكومية.
وربما تستفيد الحكومات أيضاً عندما تكشف شركات الأقمار الاصطناعية التجارية عن معلومات حساسة حول القوى المنافسة أو الأعداء والخصوم، ومن المحتمل أن يرغب صانعو السياسة بنشر هذه المعلومات ولكنهم يقلقون على الأرجح أيضاً من أن نشرها بأنفسهم سيعرّض مصادرهم والأساليب السرية التي يستخدمونها للخطر، بالتالي فإن الإفصاح عن المعلومات عبر الشركات الخاصة أو مراكز البحوث يمكن أن يساعد الحكومة في تعزيز مصالحها، سواء من خلال تبرير الموازنات الموسعة أو شراء أسلحة جديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


منفعة متبادلة

ولا ينبغي أن ينطوي مثل هذه العمليات المرغوبة من الحكومات على أي تنسيق بين الحكومة والجهة التي تكشف عن المعلومات، إذ يجب أن ينشر المحللون المستقلون اكتشافاتهم بحرّية، وتستفيد الجهات الحكومية من الكشف لمصلحتها، ولكن في أوقات أخرى، من الممكن أن تنسق الحكومة بدرجات متفاوتة مع كيان غير حكومي لمساعدتها في الكشف عن جانب ما. فعلى سبيل المثال، حثت الوكالات الفيدرالية الحكومية في الولايات المتحدة جهات مستقلة من أجل البحث في مناطق معينة عن صوامع صواريخ صينية أخرى.
وفي أحيان أخرى، تخطو الحكومات خطوة إلى الأمام وتقدّم مساعدة تحليلية لمؤسسات خاصة مستقلة، مثل التعاون الذي يجريه مشروع "تيرلاين" التابع لوكالة الاستخبارات الجغرافية الوطنية الأميركية، مع مجموعات غير هادفة للربح من أجل توفير صور من الأقمار الاصطناعية التجارية لدعم تحليل استخبارات للمصادر المفتوحة حول مجموعة متنوعة من المواضيع الاستراتيجية والاقتصادية والإنسانية التي تعتقد أنه لا يتم الإبلاغ عنها.
وربما يكون الكشف عن أنشطة حكومية سرية مرغوباً به من الناحية الاستراتيجية، حتى بالنسبة إلى الدولة التي يتم الكشف عن أسرارها، إذ تكهّن محللون بأن بكين تريد اكتشاف مواقع صوامع الصواريخ الباليستية التي رصدتها الأقمار الاصطناعية التجارية، نظراً إلى عدم عنايتها بإخفائها عن عدسات تلك الأقمار، فيُرجَّح أن يكون بناء منشآت جديدة جزءًا من لعبة متقنة لإخفاء الحجم الحقيقي لترسانة بكين وتعقيد الجهود لاستهداف الصواريخ الصينية.

أمس واليوم

لا يُعدّ استخدام صور الأقمار الاصطناعية التجارية للكشف عن معلومات حساسة أمراً جديداً، إذ قدّم القمر الاصطناعي الأميركي "لاندسات" صوراً لمستخدمين غير حكوميين منذ السبعينيات، وبدأت فرنسا ببيع الصور من قمرها الاصطناعي "سبوت" في الثمانينيات، وكانت الصور عالية الدقة المأخوذة من الأقمار الاصطناعية التجارية معروضة في السوق منذ التسعينيات. ولكن على الرغم من إتاحة هذه الصور للجمهور، إلا أن حجم ونطاق تغطيتها كانا نادرَين في كثير من الأحيان، كما كانت صورها باهظة الثمن، إضافة إلى أن الحكومات مارست بانتظام قدراً من التحكم والتدخل.
لكن ما يختلف اليوم هو حجم ونطاق عمل الأقمار الاصطناعية التجارية وسهولة نشر المعلومات، إذ أدى التقدم في هذه التكنولوجيا وتوافر منصات الإطلاق الفضائية التجارية، إلى جعل تشغيل الأقمار الاصطناعية الخاصة أسهل وأقل تكلفة على الشركات، كما أن تطور أجهزة الكمبيوتر وسرعة الاتصال عبر الإنترنت، أسهما إلى حد بعيد في تسهيل وصول مزيد من الأشخاص والمنظمات المستقلة والخاصة إلى الصور التي جُمعت عبر الأقمار الاصطناعية الخاصة.

صعوبة الإخفاء

ومع تزايد عدد الأقمار الاصطناعية الخاصة، سيزداد مقدار المعلومات المتاحة للمستخدمين غير الحكوميين، كما ستتضاءل سيطرة الحكومة على المعلومات، ومع استمرار التقنيات الجديدة في تقليص قدرة الحكومات على إخفاء أفعالها عن الرأي العام، سيُضطر صانعو القرار إلى تغيير سياسات الحكومة، وفي أوقات أخرى سيحتاجون إلى إيجاد طرق لاستغلال هذا الواقع الجديد وجني الفوائد الاستراتيجية للكشف عن أمور محددة عبر الشركات والأفراد المستقلين، ولكن بغض النظر عما تفعله الحكومات، لا شك في أنها ستجد صعوبة أكبر في إخفاء أنشطتها عن الأعين الخاصة المتزايدة في السماء.

المزيد من تقارير