يتسم التاريخ السوداني الحديث بكثرة الانقلابات العسكرية إلى حد لافت يكاد يصنف السودان على قمة الدول العربية المنتجة لها، كما يسجل مكانة متقدمة أيضاً بأفريقيا في هذا المضمار. وقد سجلت الفترة الانتقالية الأخيرة بالسودان، الذي يسجل عمرها عامين أكثر من محاولة انقلابية، أعلن عن بعضها ولم يعلن عن الآخر.
وربما تكون المحاولة الانقلابية الأخيرة والفاشلة في السودان تحمل الكثير من ملامح الانقلابات العسكرية في البلاد عبر تاريخها السياسي بعد الاستقلال عام 1956، بينما تتمايز في بعض الملامح عن باقي الانقلابات ولو بشكل نسبي.
أهم الملامح العامة والمشتركة للانقلابات العسكرية السودانية هي أنها إما أن تكون ممثلة وامتداداً لقوى سياسية أيديولوجية كانقلاب جعفر نميري، وهاشم العطا الفاشل عام 1971 وكانا انقلابان ينتميان إلى اليسار، وكذلك انقلاب عمر البشير وحسن الترابي عام 1989، وكان إسلاموياً، وإما كانقلاب كل من الفريق عبود عام 1959، وكذلك الأخير 2021، تعبيراً عن انسداد الأفق السياسي الناتج عن صراعات وانقسامات بين القوى السياسية، وأزمة اقتصادية محتدمة تجعل مستويات المعيشة اليومية غير محتملة للمواطن العادي.
وقد بدأ تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان بعد عام واحد من الاستقلال الوطني السوداني، والمنطلق من البرلمان، إذ إن مسلسل الانقلابات العسكرية في السودان 1957 قاده مجموعة من ضباط الجيش وطلاب الكلية الحربية بقيادة إسماعيل كبيدة، ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية بعد الاستقلال برئاسة الزعيم السوداني إسماعيل الأزهري، وبينما فشل هذا الانقلاب نجح آخر بعد عام فقط ضد حكومة ائتلاف ديمقراطية بين حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي يرأسها مجلس السيادة المكون من الزعيم الأزهري ورئاسة الوزارة الأميرلاي عبد الله خليل، حين احتدمت الأزمات السياسية بين أطراف الحكومة إلى حد أن الوثائق البريطانية في هذه الفترة قد رصدت إشاعات ذهبت إلى أن خليل المنتمي إلى حزب الأمة قد سلم السلطة فعلياً لعبود نكاية في غريمه الأزهري القطب الاتحادي الأكبر. وقد استمر حكم عبود لسبع سنوات، وقامت ضده ثورة شعبية عام 1964 حكمت بعدها القوى السياسية السودانية لأربع سنوات فقط.
الرئيس الراحل جعفر نميري وصل إلى سدة الحكم عقب انقلاب عسكري أيضاً عام 1969، وربما هذا ما جعله مؤهلاً لإفشال كل الانقلابات العسكرية التي حاولت أن تحرمه السلطة، منها محاولة انقلاب 19 يوليو (تموز) عام 1971 التي عرفت بانقلاب هاشم العطا، الذي استولى جزئياً على العاصمة الخرطوم لمدة يومين.
ولكن النميري استطاع أن يعيد سلطته ويحاكم الانقلابيين من المدنيين والعسكريين، وطالت كلاً من زعيم الحزب الشيوعي السوداني آنذاك عبد الخالق محجوب، ومساعده الأيمن الشفيع أحمد الشيخ، وبابكر النور وآخرين من المدنيين، وكان من الضباط قائد الانقلاب هاشم العطا وعشرات من الضباط والجنود.
المحاولة الثانية التي نجح النميري في وأدها هي محاولة انقلاب عام 1975 بقيادة الضابط حسن حسين، ولقي الانقلابيون على رأسهم المدبر حسين حتفهم رمياً بالرصاص أو شنقاً حتى الموت. في عام 1976، حاولت القوى السياسية المعارضة لنظام النميري التي كانت تنطلق من ليبيا قلب نظام الحكم، وأوكلت المهمة إلى العميد في الجيش محمد نور سعد بمشاركة واسعة من عناصر المعارضة التي تسللت إلى الخرطوم عبر الحدود مع ليبيا، وقد تعامل نظام النميري مع المحاولة بعنف كبير جعلت حكمه لا ينتهي بعد ذلك بانقلاب ولكن بثورة شعبية كبيرة في أبريل (نيسان) 1985.
وعلى الرغم من نجاح عمر البشير في القيام بانقلاب ناجح عام 1989 لصالح الإسلاميين، فإن محاولات الانقلاب عليه لم تتوقف، منها انقلاب عام 1990 بقيادة اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد، حيث انتهت المحاولة بإعدام 28 ضابطاً في الجيش، وكذلك محاولة انقلاب عام 1992 تزعمها العقيد أحمد خالد.
المفاصلة التي جرت بين كل من عمر البشير وحسن الترابي عام 1999 أنتجت بدورها محاولات انقلابية ضد البشير ولصالح الترابي، إذ حاول حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي القيام بانقلاب عام 2004، طبقاً لما قالت به الحكومة وقتذاك، على أنه يبقى أهم ما فعله الترابي ضد البشير والأكثر تأثيراً هو قيادته الصراع مع تلميذه من منصة إقليم دارفور، وهو الصراع الذي كانت نتائجه النهائية إدانة البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية متهماً بممارسة جرائم ضد الإنسانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا التاريخ الطويل من الانقلابات العسكرية جعل المحاولة الأخيرة والمنسوبة إلى سلاح المدرعات بقيادة اللواء عبد الباقي بكراوي، متوقعة إلى حد كبير من جانب الشارع السياسي السوداني الذي مارس جدلاً ساخناً حولها على منصات التواصل الاجتماعي منذ بداية سبتمبر (أيلول) الحالي وذلك لعدد من الأسباب منها:
ضرورة أن يحدث تغيير في موقع رئاسة المجلس الانتقالي الحاكم مع مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، طبقاً للوثيقة الدستورية التي تم توقيعها في أغسطس (آب) 2019 بين قيادات الثورة السودانية أي تحالف الحرية والتغيير ونواته التي كانت صلبة تجمع المهنيين، والمجلس العسكري السوداني، الذي تولى مهام خلع البشير إجرائياً، إذ نصت الوثيقة أن تتحول سلطة رئاسة المجلس الانتقالي من المكون العسكري أي الفريق عبد الفتاح البرهان إلى أحد رموز المكون المدني الذي يمكن أن يكون رئيس الوزراء.
هذا التطور المطلوب حالياً يعني أن تكون اليد العليا في صناعة القرار السياسي للمدنيين، وأن يتراجع نفوذ العسكريين، وهو ما يبدو أنه محل مقاومة كبيرة من جانب الأخيرين حالياً، على الرغم من تأكيدات الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي بفساد هذه المقولات عقب الإعلان عن فشل الانقلاب الأخير، مشيراً إلى ضرورة تخلي القوى السياسية عن اتهام العسكريين بالمسؤولية عن تعويق الفترة الانتقالية أو محاولة منع التطور الديمقراطي.
تطورات المشهد في شرق السودان سبب إضافي للأزمة السياسية الراهنة في البلاد، بما تحمله من مؤشرات بشأن انسداد الأفق السياسي بين الأطراف إلى درجة مهددة لمعطيات الأمن القومي السوداني، ومؤسسة الدولة ذاتها في السودان، وهو المشهد الذي تصاعد فيه التوتر إلى حد قيام مكونات سياسية وقبلية في شرق السودان بغلق الميناء الرئيس "بورتسودان" إلى جانب ميناء "سواكن" المرتبط بالحركة البشرية والتجارية من وإلى السعودية وباقي دول الخليج، وكذلك ميناء "بشاير" الذي يصدر بترول جنوب السودان إلى أنحاء العالم خصوصاً الصين. كما تم إغلاق أكثر من خمس نقاط، وهي الشوارع المؤدية من إقليم شرق السودان إلى باقي أنحاء البلاد خصوصاً العاصمة الخرطوم، منها محطة "العقبة" المؤدية إلى مواني البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق مع مصر، كما شمل الإغلاق منطقتين في ولاية كسلا وثلاث مناطق في ولاية القضارف، واستثنى الإغلاق حافلات السفر، ومركبات الشرطة والإسعاف والمنظمات.
وعلى الرغم من هذا الاستثناء فإن التداعيات الاقتصادية على دولتي السودان من إغلاق المواني تبدو باهظة التكاليف، ذلك أن السودان الشمالي يستورد 70 في المئة من احتياجاته عبر ميناء بورتسودان، بينما تصدر دولة جنوب السودان بترولها عبر ميناء بشاير، وهو البترول الذي يمثل جل موارد الموازنة للدولة.
ثالث أسباب المحاولة الانقلابية الفاشلة هي طبيعة الحالة الاقتصادية للسودان، التي جعلت معاناة الناس يومياً غير محتملة، ولعل ظهور الأكاديمي السوداني عصام باكين على شاشة الـ"بي بي سي"، العربية أخيراً متحدثاً عن الجوع وكفر الناس بالحكومة الانتقالية نتيجة أدائها الاقتصادي المتردي لهو مؤشر جاد على مدى الفشل السياسي الذي تمارسه النخب السياسية السودانية حالياً، نتيجة انقساماتها وصراعاتها غير المبررة.
وعلى الرغم من الأسباب الموضوعية التي كادت تطيح الحكومة الانتقالية، فإن الجدل السوداني الداخلي بشأن مدى جدية محاولة الانقلاب الفاشل كان كبيراً، إذ تم تداول مدى كون هذا الانقلاب مصنوعاً من عدمه، وذلك لركاكة التنفيذ من جهة، وعدم حدوث أي اشتباك مع المنقلبين من ناحية أخرى، سواء في معسكر الشجرة أو منطقة وادي سيدنا شمال أم درمان، إذ يذهب هذا الجدل إلى أن انقلاب بكراوي الفاشل كان مصنوعاً من أطراف ما، لاختبار الموقف الإقليمي والدولي من وقوع انقلاب حقيقي ينهي الفترة الانتقالية فعلياً.
في هذا السياق فإن ردود الفعل الإقليمية والدولية الرافضة للمحاولة الانقلابية كانت مؤشراً عن جدية الرفض الشامل للتعامل مع سلطة انقلابية في السودان، إذ صدرت حتى الآن بيانات من كل من مصر والسعودية وقطر، وكذلك الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، ولعل هذا التوافق الإقليمي والدولي يجعل إمكانية تسليم رئاسة المجلس الانتقالي في نوفمبر المقبل للمكون المدني ممكنة شرط التوافق السياسي بين مكونات المعادلة السياسية، وهو ما تمت الدعوة إليه من جانب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وهي دعوة ينتظر الجميع نتائجها خلال الفترة القليلة المقبلة.