إذا كان الكاتب الإيرلندي، باللغة الفرنسية في مسرحياته، صامويل بيكيت قد اشتهر خلال النصف الثاني من القرن الـ 20 بكونه واحداً من آخر كبار الكتاب المسرحيين في العالم، زعيماً للتيار الذي سُمي "مسرح العبث" حيناً و"مسرح اللامعقول" حيناً آخر، فإنه اشتهر أكثر وبصورة خاصة بكونه واحداً من أكثر الكتاب ابتعاداً من السياسة والخوض في غمارها، وهذا على الرغم من أن ثمة من بين الباحثين من يرى أن مسرحياته لا يمكن اعتبارها في نهاية الأمر بعيدة حقاً من السياسة، ولكن السياسة العميقة التي تتعلق بمسائل الوجود أكثر مما تتعلق بمجريات السياسات اليومية.
ومهما يكن من أمر، أتت قبل سنوات باحثة إنجليزية هي إيميلي موران لتؤكد عبر نص عميق يقع في مئات الصفحات كيف أن صاحب "في انتظار غودو" و "نهاية اللعبة" لم يكن أبداً وبخاصة خلال السنوات الأولى من حياته ثم من نشاطاته الكتابية، ذلك المنزه عن السياسة الذي يعتقده الجميع.
إلى جانب قضايا عادلة
ففي الكتاب المعنون بكل حذق "مخيلة بيكيت السياسية" والصادر عن منشورات جامعة كامبردج عام 2017، تؤكد مورين بالوثائق والأدلة التاريخية المستندة إلى سيرة بيكيت ومواقفه المعلنة وغير المعلنة، أنه لم يكن بعيداً من السياسة عبر تعابير واضحة كل الوضوح، ودائماً ما تقف إلى جانب القضايا العادلة، مما يكشف بالطبع عن تهافت أسطورة الكاتب المترفع عن شؤون البشر والعالم ليغوص في فضاءات الميتافيزيقا وأسئلة الوجود الكبرى.
غير أن الغريب الذي تسعى الكاتبة إلى تأكيده هو أن بيكيت تجنّب دائماً الدمج بين المواقف السياسية والفعل المسرحي لديه، بحيث يمكن لمسرحياته وحتى لرواياته مروراً بالفيلم السينمائي الوحيد الذي كتبه وأخرجه بعنوان "فيلم"، ترسيخ تلك الأسطورة التي لا تجد نقضاً لها إلا في مواقف حياتية تصل أحياناً إلى حدود التطرف، عرفت الكاتبة كيف ترصدها مصورة من خلالها صامويل بيكيت آخر لم يكن أحد ليعتقد بوجوده، ولنقل هنا مع الكاتبة أن بيكيت نفسه عمل بدوره على ترسيخ تلك الأسطورة خاصة في عام 1968 حين اندلعت في العاصمة الفرنسية باريس وغيرها تلك الأحداث الثورية الشبابية الكبرى في واحدة من أعظم الاحتجاجات السياسية والاجتماعية والتي ستعرف لاحقاً بـ"ربيع 1968".
يومها وعلى الرغم من أن بيكيت كان يقيم في منطقة سان جاك وسط باريس على مبعدة عشرات الأمتار من مركز العمل الثوري في جامعة السوربون، فإنه رفض الإدلاء بأي تصريح حول ما يحدث وكأنه يعيش في كوكب آخر، متجاهلاً حتى كون بعض الطلاب والمثقفين الثائرين قد استعانوا في شعاراتهم ببعض حوارات مسرحيات له.
في ذلك الحين كان العمر تقدم به هو الذي سيرحل في باريس نفسها بعد ذلك بأقل من عقدين، وكانت قد باتت وراءه تلك الأزمنة التي ترصدتها مؤلفة الكتاب لتستعرض عبرها صورة بيكيت السياسي، بل حتى "مخيلته السياسية" كما يقول عنوان كتابها.
من الذي خان شبكة غلوريا؟
تؤكد مورين منذ بداية كتابها أن اهتمامات بيكيت السياسية تعود إلى النصف الأول من ثلاثينيات القرن الـ 20، وتحديداً إلى عام 1934 حين تطوع لترجمة العديد من النصوص النضالية المعادية للكولونيالية والتي جُمعت تحت عنوان "نيغرو"، وأبدى حماسة لذلك المشروع لدرجة أنه أحدث تحويرات في نصوص الكتاب جعلتها أشد ضراوة في عدائها للمستعمرين. وتواكب ذلك لديه مع رغبة استبدت به للانتقال للعيش في موسكو عام 1936 تحديداً.
وتبدو غرابة هذا الأمر إن نحن تذكرنا أن ذلك العام كان عام المحاكمات الستالينية الكبرى في بلاد السوفيات، وها هو بيكيت يرغب في العيش هناك، وكان مشروعاً لم يردعه عنه سوى استنكاف المخرج إيزنشتاين عن الرد على رسالة كان بعث بها إليه عارضاً أن يتوسط له للعثور على عمل في فريق المخرج بودوفكين صاحب فيلم "الأم"، وكان المخرجان الروسيان مغضوباً عليهما ستالينياً، وربما لم يستجيبا لعرض الكاتب الإيرلندي الشاب بسبب ذلك، وهو كان على أي حال قد بدأ يخوض سلسلة احتجاجات لمصلحة أميركيين سود تعرضوا للاضطهاد العنصري في آلاباما الأميركية، وشباناً يهود تعرضوا لمعاداة السامية في أماكن عدة من أوروبا، ومع ذلك نراه يمضي نحو عامين في ألمانيا النازية بين 1937 و1938 "بحجة زيارة المتاحف" كما سيقول لاحقاً.
بيد أن الكاتبة تؤكد هنا أنه خلال تلك الزيارة أكد أن الحرب ستندلع لا محالة، وهي حين اندلعت بالفعل بعد سنوات قليلة وجد نفسه ينضم إلى المقاومة في فرنسا ولو بصورة لا تزال غامضة حتى اليوم، ضمن إطار شبكة نضالية شيوعية عرفت باسم "شبكة غلوريا"، والجدير ذكره أن تلك الشبكة انكشف أمرها بالنسبة إلى الغستابو وأفلت بيكيت من قبضة ذلك الجهاز النازي الرهيب في اللحظات الأخيرة من دون أن يعرف أحد من كان الخائن الذي وشى بالشبكة، وسيبقى بيكيت حزيناً زمناً طويلاً على رفاق له قتلوا أو اعتقلوا في المعسكرات النازية جراء تلك الخيانة.
تناقض تاريخي
ومن الواضح أن هذا الجانب من ماضي بيكيت وتاريخه يتعارض تماماً مع صورة الكاتب والمفكر اللاسياسي التي روج لها وأكدها كتّاب ومؤرخون كبار كتبوا عن بيكيت ونتاجه الأدبي، وفي مقدمهم موريس بلانشو وثيودور آدورنو، الأول في معرض الثناء على الكاتب، والثاني في معرض اعتبار الأمر مأخذاً عليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مقابل هذين نجد كثراً من مؤرخين ونقاد يبدون دهشتهم إزاء كاتب يبدي كل ذلك القدر من الترفع عن السياسة في إنتاج إبداعي كان من أبرز ما ظهر في العقود الوسطى من القرن الـ 20 الذي اعتبر بعد كل شيء، زمن التسيس الأكبر في تاريخ الإبداع، ولعل حيرة هؤلاء كما حيرة قراء بيكيت بصورة عامة تزداد حدة حين يتذكرون أن أحد الأسباب الأساسية التي دفعت بيكيت باكراً منذ بداية الحرب العالمية الثانية عام 1940 إلى مبارحة وطنه إيرلندا ومعه اللغة الإنجليزية التي كان يجب أن تكون لغة كتابته الأم، للعيش في فرنسا والتحول إلى لغتها، إنما كان سبباً سياسياً، فهو لم يكن راضياً كما أعلن بنفسه مرات عن الحياد الذي اتخذته السلطات الإيرلندية في الصراع الناشب بين نازيي أوروبا وديمقراطييها، مع ميل يتصاعد لدى تلك السلطات للوقوف إلى جانب الألمان ولو نكاية بالإنجليز لا أكثر، وسيبدو من الأمور ذات الدلالة بالطبع أن يرفض كاتب من طينة بيكيت ذلك الحياد الذي يستشفه كثر في مواقفه اللاحقة.
صراع مع الثوار
وفي السياق نفسه، تذكرنا الكاتبة كيف أن بيكيت اشتغل خلال الفترة الأخيرة التي أمضاها في دبلن قبل هجرته إلى فرنسا على وضع نص ساخر يتحدث عن تاريخ إيرلندا، ناهيك عن نشره في صحيفة "آيريش نيوز" مقالة عنيفة يسخر فيها من كبار "الثوريين" ومن بينهم زميله في الكتابة الشاعر ويليام بطلرييتس، الذي كان من السلطة والقوة بحيث تمكن من منع نشر المقالة في اللحظات الأخيرة.
وإذ انتشرت تلك الحكاية يومها كان من الطبيعي أن يسعى ييتس ورفاقه إلى تسويد سمعة بيكيت دافعين إلى الاعتقاد بأنه يقف ضد الثورة وثقافتها. والسؤال الآن هل كان لذلك الصراع الذي اندلع ضد بيكيت بدفع من ييتس صلة باندفاعه إلى محاولة الانتقال للعمل في موسكو؟ الأمر محتمل بالتأكيد.
البحث في مناطق أكثر عمقاً
المهم في الأمر، وكما تقول مؤلفة الكتاب، أن كل هذه التفاصيل إنما تتضافر لتنفي بشكل قاطع ذلك التوصيف الذي انطبق دائماً على صامويل بيكيت ليسمه بطابع مناف للتسييس، وهذا ما يجعلنا نتساءل عما إذا كان هذا كله ليس تسيّساً فكيف يكون التسيّس بالنسبة إلى واحد من كبار مبدعي القرن الـ 20؟ مها يكن فإن مؤلفة الكتاب لا تكتفي بهذا، بل تواصل التعمق في طرحها لتسبر نصوصاً وحوارات من أعمال بيكيت الإبداعية تؤكد من خلالها تسيّساً من الغريب أن كثراً لم يتنبهوا إليه من قبل.