إنها أكثر من زيارة تعارف، تلك الزيارة التي قام بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي إلى العاصمة الإيرانية طهران، ولقاء مدير الوكالة الإيرانية ونائب رئيس الجمهورية لشؤون الطاقة النووية محمد سلامي الذي تولى المنصب خلفاً لعلي أكبر صالحي.
زيارة غروسي لم تكن عابرة، فهي جاءت في توقيتها عشية جلسة مجلس حكام الوكالة الدولية في شأن الملف الإيراني، وخطوات طهران على صعيد رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى درجات متقدمة بنسبة 60 في المئة، مما يعتبره بعض الأعضاء انتهاكاً لمعاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ونقضاً للاتفاق النووي الموقع بين إيران والسداسية الدولية عام 2015، الذي أكده قرار مجلس الأمن الرقم (2231).
زيارة غروسي إلى طهران هي الأولى لمسؤول دولي بعد تولي الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية وقيادة المفاوضات النووية، وقد استطاع تحقيق خرق غير متوقع في الموقف الإيراني المتعلق بوقف التعاون مع الوكالة الدولية في موضوع الرقابة على أنشطة المنشآت النووية، والحصول على قاعدة البيانات المصورة لكاميرات المراقبة التابعة للوكالة الدولية.
زيارتان سابقتان لغروسي إلى طهران في زمن تولي وزير الخارجية السباق محمد جواد ظريف مسؤولية المفاوضات النووية، وقد واجه الرجلان صعوبة كبيرة ومفاوضات معقدة ومتشعبة من أجل الوصول إلى اتفاق لمدة ثلاثة أشهر تقوم بموجبه إيران بالاحتفاظ بالتسجيلات، في مقابل أن تعمل الوكالة على إلغاء العقوبات لمنع إتلاف هذه البيان، وقد مُدد هذا الاتفاق لمدة شهر نتيجة دخول إيران في الانتخابات الرئاسية.
يوم واحد لغروسي في طهران استطاع خلاله تحقيق ما لم يكن بمقدور أي من أركان حكومة الرئيس السابق حسن روحاني وفريقه المفاوض بقيادة ظريف تحقيقه، أو تحقيق ما هو أقل منه على مدى ثماني سنوات من جولات المفاوضات المتشعبة، فإلى جانب نجاحه في الحصول على اتفاق مع الوكالة الإيرانية بالاحتفاظ بقاعدة البيانات القديمة التي سجلتها كاميرات المراقبة للوكالة في المنشآت النووية الإيرانية، استطاع غروسي تمديد الاتفاق لمدة ثلاثة أشهر، وهي المدة الزمنية التي تحدثت عنها طهران لإمكان العودة لطاولة التفاوض، إضافة إلى تغيير شرائح حفظ المعلومات في هذه الكاميرات، وتوسيع قاعدة البيانات المحفوظة لدى الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية.
هذا النجاح لغروسي كشف حجم المعركة التي كان يواجهها روحاني وفريقه في مواجهة التيار المحافظ، وخصوصاً البرلمان الذي عمد إلى سن قانون يمنع الحكومة من التوقيع على أي اتفاق يسهم في تعطيل أو تعليق الأنشطة النووية، وطالب السلطة التنفيذية بالحد من التزاماتها في تطبيق برتوكول التفتيش المباغت، والحد من آليات مراقبة الوكالة الدولية في إطار قانون "استراتيجية إلغاء العقوبات وتأمين الحقوق النووية لإيران".
الاتفاق الذي توصل إليه غروسي مع الحكومة الجديدة بقيادة رئيسي، أكد أن هذه الحكومة لا تواجه أي صعوبة في الالتفاف أو نقض قانون البرلمان، وأن وظيفة هذا القانون كانت إفشال جهود روحاني ومنعه من تحقيق إنجاز على صعيد الملف النووي وإلغاء العقوبات الاقتصادية يُسجل في خانة إنجازاته، وأن المطلوب في هذه المرحلة تقديم التسهيلات للحكومة الجديدة في عقد أي اتفاق يخدم أو يصب في إطار تحسين صورة التيار المحافظ شعبياً، ويجعل منه المنقذ من الأزمات المعيشية التي تسبب فيها سياسات الحكومة السابقة.
ما حققه غروسي في زيارته إلى طهران يُسجل على أنه الاتفاق الأول بين حكومة رئيسي المتشددة مع طرف غربي في الموضوع النووي، وهو قد يحمل على الاعتقاد بوجود نيات لدى هذا الفريق الإيراني الجديد باتباع سياسات أكثر براغماتية في التعامل مع مفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي، وإمكان تقديم تنازلات أو تسهيلات مدعومة من مؤسسات النظام وأعلى الهرم، في إطار معادلة عودة الطرفين المعنيين بالأزمة، واشنطن وطهران، لأوضاع ما قبل إعلان الرئيس السابق دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق، وإعادة العمل بسياسة العقوبات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زيارة غروسي جاءت بدعوة من الوكالة الإيرانية، وقد وجهها إليه مديرها إسلامي الذي وصف المحادثات بالبناءة والجيدة، وشكلت فرصة للتفاهم في شأن توسيع آليات التعاون الإيجابي بين الطرفين في إطار مقررات الوكالة الدولية، لكن هذه الدعوة لم تكن نتيجة مبادرة إيرانية لإظهار حسن النيات والتمسك بالتعاون مع الوكالة الدولية، بل نتيجة الأجواء السلبية التي سيطرت على البيان الأخير للوكالة الدولية الذي اتهم إيران بعدم تقديم إجابات واضحة حول مصادر التلوث النووي بمستويات متقدمة تتجاوز الـ 60 في المئة التي أعلنت عنها لاحقاً، وأن الوكالة قد تلجأ إلى خطوات عقابية وإحالة الملف الإيراني إلى مجلس حكام الوكالة الذي قد يتخذ قراراً بإدانة الأنشطة الإيرانية، ومن ثم إحالة الملف إلى مجلس الأمن الذي سيكون قادراً على تفعيل آلية الزناد وما تعنيه من إعادة تلقائية لجميع العقوبات الدولية التي سبق أن أصدرها في أربعة قرارات، إضافة إلى وضع إيران تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
اللعب على حافة الهاوية الذي حاولت طهران ممارسته مع الحكومة الجديدة، والتأكيد أنها ستعمل على رفع العقوبات ولن تذهب إلى مفاوضات هدفها الاستنزاف والتسويف، وأنها بحاجة إلى أكثر من شهرين لاتخاذ قرارها بالعودة لطاولة فيينا للمفاوضات، يبدو أنها أمور لم تأت بالنتائج التي أرادتها في ابتزاز المجتمع الدولي، خصوصاً وأن اجتماع الوكالة الدولية بعد أسبوعين قد يحمل معه إجراءات لا ترغب فيها، وقد تعيدها إلى نقطة الصفر، لذلك كانت هذه الليونة الكبيرة والمتعارضة مع لغة التشدد التي سادت خلال الأسابيع الماضية على لسان رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان، وإعلان إسلامي المشاركة في اجتماع الوكالة ليستكمل خلاله بحث سبل التعاون لحل أزمة المفاوضات، ويمهد الطريق لزيارة ثانية لغروسي يلتقي خلالها رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وتكون مدخلاً لاستئناف مفاوضات فيينا بشكل جدي.
ومن المفترض أن تؤدي هذه الليونة الإيرانية إلى ليونة مقابلة في اجتماع الوكالة الدولية، تقطع الطريق أمام تصعيد دولي محتمل ضد طهران.