منذ عقد مباحثات فيينا بين إيران والأطراف الموقعة على الاتفاق النووي عام 2015، المتضمنة مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة بشأن إعادة إحيائه، كانت تصريحات المسؤولين الإيرانيين والغربيين تشير إلى تفاؤلهم بشأن قرب التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين جميع الأطراف، لا سيما بين طهران وواشنطن. فكبير المفاوضين الإيرانيين، عباس عراقجي، كثيراً ما تحدث عن قرب التوصل إلى الاتفاق أكثر من أي وقت مضى.
وعلى الرغم من تغاضي الولايات المتحدة عن بعض الشروط التي كانت حددتها لاتفاق أوسع وأقوى وأشمل مع إيران، حدثت بعض التطورات أخيراً التي لا توحي إلا برغبة إيرانية في تعطيل مسار فيينا وتبطيء مرحلة الوصول إلى الاتفاق النهائي.
وإذا كان التساؤل حول نية ورغبة إيران في التزام الاتفاق النووي، فالإجابة بكل تأكيد نعم. ذلك أن إيران تحتاج إلى الاتفاق للخروج من ضائقتها الاقتصادية، والتعاون مرة أخرى مع الولايات المتحدة بشأن بعض القضايا الإقليمية، ورفع العقوبات والاستفادة من الاندماج في الاقتصاد العالمي. كما أن انتخاب رئيس إيراني ينتمي إلى الأصوليين وضمن المفروض عليهم عقوبات أميركية لم يعطل أي فرص لإحياء الاتفاق، فقد أكد مراراً رغبته في إعادة الاتفاق النووي. كما أن مجلس الشورى الإيراني وافق على تمديد الاتفاق المؤقت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية مدة شهر، وتحدث المسؤولون الإيرانيون عن أن طهران ستتمكن من الاستفادة من بيع النفط في غضون أشهر بعد رفع العقوبات الأميركية عنها.
ومن جهة أخرى، عبرت واشنطن عن أنه ليس لديها مشكلة في التعامل مع أي رئيس إيراني. وأعلن نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، أنه ستكون هناك جولة سابعة للمفاوضات. لكن لماذا يسود الانطباع الآن أن إيران لديها رغبة في تعطيل أو تجميد التطورات الإيجابية التي تحدثت عنها كل الأطراف؟ وما مؤشرات التحول الإيراني الجديد؟
منذ أيام شنت بعض الميليشيات العراقية خمس هجمات بطائرات من دون طيار وصواريخ على قواعد أميركية في العراق. ومنذ يومين، تحدثت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن أن إيران أخبرتها بنيتها تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة لإنتاج وقود نووي لمفاعل بحثي، وهذه الخطوة تعد تجاوزاً إضافياً لالتزامات إيران النووية، وقد لاقت تنديداً من وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ذلك أنها لا تتماشى مع مسار مباحثات فيينا وتوحي بتعنت إيراني. كما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية أخيراً أن طهران طلبت وقف مباحثات فيينا لحاجتها إلى وقت للتشاور داخلياً قبل بدء الجولة الأخيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الموقف الإيراني يوحي برغبة في تجميد المباحثات مؤقتاً قبل الجولة السابعة والأخيرة، التي كان متوقعاً لها أن تنطلق في الأول من يوليو (تموز) الحالي. فإيران هذه المرة وبالتزامن مع مباحثاتها في فيينا، أعطت الضوء الأخضر لهذه الميليشيات لشن هجوم ضد القواعد الأميركية.
وهذا يعني أنها أرادت توصيل رسائل للولايات المتحدة بأن لها تأثيراً في الأوضاع العراقية. لذا فقد يكون التعنت الإيراني المصطنع يستهدف الضغط على واشنطن والأطراف الغربية، لا سيما أن طهران اشترطت الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة بأنها لن تنسحب مطلقاً من الاتفاق، وهو أمر يعد معقداً وفقاً لديناميات السياسة الداخلية الأميركية، فلا بد في هذه الحالة أن يكون الاتفاق معاهدة يتم التصديق عليها من الكونغرس الأميركي، ولا بد من عرضها على مجلس الشيوخ ذي الغالبية الجمهورية.
من جهة أخرى، قد تكون إيران في ظل ممارستها الضغط على إدارة جو بايدن منذ مجيء إدارته قد اعتراها غرور القوة بأن الإدارة الأميركية تستهدف تهدئة الأوضاع الإقليمية والتوترات في الخليج العربي بأي ثمن، وأن موقفها ضعيف أمام التعنت الإيراني، خصوصاً أن واشنطن ستنسحب من أفغانستان المجاورة لإيران، وهنا لا يمكننا أن نفصل أياً من مسارات التحركات الإيرانية بعضها عن بعض، لا سيما في ظل سياسة إيران القائمة على تشبيك الملفات.
أحد التفسيرات الأخرى هو أن إيران تريد ضغطاً من الولايات المتحدة على إسرائيل لوقف الهجمات على الأهداف الإيرانية في الداخل والخارج. وكل هذه التطورات والتفسيرات لا يمكن أن تنفصل عن الداخل الإيراني، والمقصود هنا ليس أن إيران حقاً تريد تشاوراً داخلياً بشأن الاتفاق النووي، لأن الأمر محسوم من قبل المرشد ومجلس الأمن القومي الذي يتحرك ضمن خطوطه العريضة، بل السبب أن إيران تستخدم نظرية كبش الفداء، وتوجيه أنظار المواطنين الغاضبين في الداخل بشأن أزمة انقطاع الكهرباء القائمة حالياً إلى مثيرات خارجية. ولا يفوتنا هنا التأكيد أن المواطنين ليسوا غاضبين من أزمة الكهرباء فقط، بل الأمر مستمر منذ سنوات وعكسته نسب الإقبال الضعيفة والأصوات الباطلة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وقبلها الانتخابات التشريعية.
فى مجمل الأمر، تريد إيران إعادة إحياء الاتفاق، لكن ينبغى أن تدرك أنه مهما ماطلت ومهما كانت الرغبة الأميركية في تخفيف الانخراط في الشرق الأوسط، إلا أنها تتعامل مع القوى العظمى التي لا تملك أدوات القوة بكل صورها فحسب، بل كذلك أدوات الضغط والعقوبات. كما أن الاستفزازات الإيرانية قد تفقدها تعاطف الأطراف الأخرى التي كانت تتعاطف معها أمام التعنت الأميركي.