في الانتخابات الرئاسية عام 2005، كانت أنظار الشارع الإيراني، الشعبي والسياسي، تتجه إلى المرشح الآتي من القوات الجوية لحرس الثورة وقيادة قوى الأمن الداخلي والعام في النظام محمد باقر قاليباف، باعتباره المرشح الأوفر حظاً في الوصول إلى رئاسة السلطة التنفيذية خلفاً للرئيس محمد خاتمي. في وقت لم يكن كثيرون ينظرون إلى عمدة طهران حينها محمود أحمدي نجاد كمرشح قادرعلى المنافسة خصوصاً أنه وصل إلى منصبه من خارج كل السياقات والتوقعات على أنقاض التجربة الإصلاحية، وفي تحد لأحد أقطاب السلطة حينها الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الذي انتهت علاقته مع أحمدي نجاد إلى نوع من القطيعة والتوتر على خلفية إقالته من منصب محافظ أردبيل.
استطاع حينها قاليباف أن يعطي انطباعاً مختلفاً لدى الشرائح الاجتماعية الإيرانية، معتمداً على أدبيات تبتعد في مفرداتها عما هو سائد في خطاب القوى المتشددة من دون الخروج عن الأطر التي تعرف قوى اليمين الموالي للنظام. سواء كان في الحديث عن الحريات أو التعددية السياسية بلغة تحاول الإيحاء بمخزون ثقافي وفكري واجتماعي مختلف، ليكون متسقاً مع الخطاب والمستوى الفكري الذي فرضه خاتمي في موقع الرئاسة وعلى مرشحي هذا الموقع لاحقاً.
والمواكب لتلك المرحلة، لم يكن يداخله الشك بأن هذا الجنرال هو ما يراهن عليه النظام ليكون خليفة لخاتمي على رأس السلطة التنفيذية، ويؤسس لإعلان انتهاء مرحلة الإصلاحات وعودة الأمور إلى نصابها في الإطار الذي يريده النظام، خصوصاً في ظل معلومات شبه مؤكدة بأن خطوة ترشح قاليباف لم تأت من فراغ، أو من دون تنسيق مع أعلى مستويات القرار، كونه يشغل موقعاً متقدماً في الأجهزة الأمنية حينها، وأن الصفقة قد جرت بينه وبين مجتبى خامنئي ومؤسسة حرس الثورة ليكون مرشحهما.
دخول الشيخ رفسنجاني حينها على خط الانتخابات وإعلان ترشحه للسباق الرئاسي، دفع النظام إلى إعادة حساباته، بخاصة أن المعركة قد لا تكون مجدية، ولن يكون قادراً على الصمود أمام منطق رجل يوصف بأنه جنرال الإصلاحات وإعادة البناء، لذلك كان لا بد من تغيير استراتيجية المعركة، وأن يتم التخلي عن دعم قاليباف لصالح مرشح أكثر شعبوية وقادر على كسر كل القواعد المتعارف عليها في السلوكيات الأدبية والسياسية، وأن يكون قادراً على مهاجمة رفسنجاني وإسقاطه سياسياً وإدارياً ومالياً، واتهامه بالفساد واستغلال السلطة ومؤسسات الدولة لمصالحه الشخصية والعائلية والحزبية. من هنا، جاء الانقلاب في موقف مؤسسات النظام وحرس الثورة ومجتبى خامنئي في الأيام الثلاثة الأخيرة قبل الانتخابات، ورسا خيار هذه القوى على تبني ترشيح أحمدي نجاد الذي يحقق فوزه على حساب رفسنجاني كثيراً من الأهداف "رصاصة واحدة بـ100 هدف"، حسب المثل الإيراني.
ولعل أبرز هذه الأهداف تهشيم موقع ودور ونفوذ رفسنجاني، وإنهاء ثنائية في رأس الهرم مكرسة في الوعي الجمعي لدى الإيرانيين بينه وبين المرشد الأعلى، تمهيداً لإخراجه نهائياً من دائرة التأثير والمشاركة في القرار.
ولم يكن خروج قاليباف وقبوله بأن يكون الضحية في هذا الصراع، من دون مقابل أو جائزة ترضية، فكان أن أسند إليه منصب رئاسة بلدية طهران الذي استمر فيه حتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ولم يتخل عن محاولاته في الترشح للانتخابات الرئاسية ما بعد رئاسة أحمدي نجاد، أي في الدورتين اللتين وصل فيهما حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية.
وكان قاليباف أحد أبرز الأسماء المطروحة في الانتخابات الأخيرة، إلا أنه خضع لإرادة النظام وأعلن انسحابه لصالح مرشح الإجماع للتيار المحافظ والنظام، إبراهيم رئيسي، واعداً بأن يضع كل قدراته ونفوذه في خدمته لإنجاح تجربته وتسهيل مهماته من موقعه في رئاسة البرلمان الذي انتقل إليه ممثلاً العاصمة طهران بأقل عدد ممكن من الأصوات لم يصل إلى المليون صوت، مكرساً نفسه شريكاً في القرار وصاحب النفوذ الأكبر داخل المؤسسات الدستورية والممسك بمفاتيح اللعبة البرلمانية القادرة على تسهيل أو عرقلة عمل حكومة رئيسي وبرامجها ومخططاتها في المرحلة المقبلة التي من المفترض أن تقوم على أنقاض تجربة روحاني، وتقدم الحلول السحرية للأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية وحتى الخارجية والنووية التي فشل الرئيس السابق في تحقيقها.
في التحضيرات التي سبقت الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، سيطرت على المشهد السياسي مسألتان لهما دلالات سياسية واضحة، قد تشكل مؤشرات على ما يدور من صراعات داخل التيار المحافظ وقوى النظام والسلطة. فإذا ما كان قرار الدولة العميقة هو تقليل نسبة المخاطرة في الانتخابات الرئاسية إلى دائرة الصفر، بعدم السماح لأي مرشح محسوب أو مقرب أو يشك بقربه من التيار والقوى الإصلاحية والليبرالية بالترشح للسباق الرئاسي، فإن الأبرز في إجراءات وقرارات مجلس صيانة الدستور، كان قرار استبعاد أو إخراج علي لاريجاني من هذا السباق، في حادثة تذكر بقرار استبعاد رفسنجاني قبل ثماني سنوات. وإذا كان رفسنجاني قد كشف عن الأسباب التي اعتمد عليها مجلس صيانة الدستور في قراره وهي "السن المتقدم" كاسراً بذلك السرية المكرسة في عدم الكشف عن الأسباب، فإن لاريجاني حتى الآن لا يزال متلزماً هذه السرية، ولم يكشف عن الأسباب التي أدت إلى استبعاده، على الرغم من إبقائه لهذه القضية مفتوحة، مطالباً برفع السرية فيها.
خروج أو إخراج علي لاريجاني وتحطيم طموحاته بالوصول إلى رئاسة السلطة التنفيذية بعد توليه السلطة التشريعية، جاء بمثابة الطلقة الثانية التي أصابت عائلة لاريجاني بعد توريط شقيقه صادق لاريجاني بملفات فساد خلال توليه لرئاسة السلطة القضائية، التي كانت بمثابة إنهاء لطموحاته بأن يكون أحد الأسماء المرشحة لتشغل منصب المرشد الأعلى أو على الأقل عضوية المجلس الانتقالي، بالتالي فإن القوى المحافظة والدولة العميقة من خلال التصويب على الشقيقين لاريجاني استطاعت التخلص من منافس حقيقي قد يملك تأثيراً على مستقبل العملية السياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انسحاب قاليباف من السباق الرئاسي لصالح رئيسي، لم يكن من باب "الكرم أو التكرم"، لأن ما كشفته الأحداث اللاحقة وآليات تركيب السلطة، وتوزيع الحصص يكشف عن وجود صفقة واضحة بين الرجلين المشهديين (نسبة إلى مدينة مشهد شرق إيران)، أو بالأحرى بين جناحين داخل التيار المحافظ، واحد منهما يؤيد رئيسي، والآخر يقف خلف قاليباف. ولعل أولى بوادرها ما مارسه الأخير (قاليباف) من ضغوط ولوبيات وما فيها من مخالفة للقانون، بتسهيل عملية انتخاب النائب عن مدينة قم، وأحد مرشحي الانتخابات الرئاسية علي رضا زاكاني لمنصب عمدة العاصمة. وهو اختيار لعبت فيه ثلاثة عوامل دوراً بارزاً. الأول، أن زاكاني كان له التأثير الواضح إلى جانب ذوي النوري في إخراج علي لاريجاني من الحياة البرلمانية بعد استبعاده من لائحة مرشحي التيار المحافظ عن مدينة قم، ما دفع الأخير إلى إعلان انسحابه. ثانياً، الدور الذي لعبه زاكاني بالتمسك في الاستمرار في السباق الانتخابي حتى النهاية وعدم الانسحاب لصالح رئيسي، ما أدى إلى تشتيت الأصوات داخل المعسكر المحافظ إلى حد ما، على الرغم من محاولة النظام توظيف الأمر كنوع من التعددية والديمقراطية وإبعاد الاتهام عن وصف الانتخابات بأنها "تعيين" لرئيسي. وثالثاً، يأتي دعم قاليباف لزاكاني بالوصول إلى منصب عمدة العاصمة في إطار جهود القوى المحافظة، والجناح الذي يقف وراء قاليباف لإقفال كل الملفات التي سعت البلدية السابقة ذات الطابع الإصلاحي والمعتدل إلى فتحها بعنوان الفساد الذي ورثته من إدارة قاليباف المزمنة في هذا الموقع.
نفوذ ودور قاليباف لا يقف عند حدود "عمادة العاصمة"، بل تجاوزه ليكون شريكاً في رسم السياسات الخارجية لحكومة رئيسي، من خلال تعمده الكشف عن أنه حصل على موافقة المرشد الأعلى للنظام على الأسماء الـ19 التي قدمها رئيسي إلى البرلمان طالباً الثقة على توليهم المناصب الوزارية في حكومته، ما سمح لرئيسي بقطع مسافة في إقناع النواب بالثقة. ولعل المؤشر ذا الدلالة على دور ونفوذ قاليباف هو تعيين مستشاره للشؤون الدولية والسياسة الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في منصب وزير الخارجية خلفاً للوزير محمد جواد ظريف.
وإذا كان النظام والدولة العميقة لا يعارضان وصول عبد اللهيان إلى هذا الموقع، إلا أن هذا الاختيار جاء على حساب علي باقري كني المقرب من رئيسي، الذي شغل منصب مساعده للشؤون الدولية في السلطة القضائية، وكان حاضراً في المفاوضات النووية عندما كان مساعداً لسعيد جليل. فضلاً عن أن عبد اللهيان يعد أحد أبرز العرابين داخل البرلمان لنص القانون الذي أقر نهاية عام 2020 حول استراتيجية رفع العقوبات وتطوير البرنامج النووي، التي اعتبرها روحاني وظريف إحدى أبرز المسائل التي أعاقت مفاوضات وجهود إعادة إحياء الاتفاق النووي مع واشنطن.
التمدد الذي يبدو أن قاليباف بدأ في ترجمته عملياً داخل دائرة صنع القرار، يكشف عن وجود صراع تحت الرماد بين أقطاب التيار المحافظ للسيطرة على مراكز القرار كمقدمة لفرض نفسها شريكة في صناعة سياسات النظام في المستقبل. وهي مؤشرات على إمكانية أن تصل حدة التنافس بين هذه الأقطاب إلى الانفجار على خلفية المصالح والهيمنة على القرار ورسم مستقبل السلطة في النظام. ويرى قاليباف والفريق الداعم له داخل الدولة العميقة إمكانية لتحقيق تفوق على الآخرين، أو على الأقل محاصرة رئيسي في المستقبل إذا وصل أو تولى موقع قيادة النظام حتى كمرحلة انتقالية، مستغلين ضعفه في عدم امتلاكه فريقاً متنجانساً أو خاصاً قادراً على الإمساك بمفاصل الدولة والمؤسسات، وهو ما أجبره على الاعتماد في تشكيل فريقه الوزاري والإداري على الفريق الذي سبق أن عمل مع الرئيس السابق أحمدي نجاد.
بعد استبعاد أي خطر أو تهديد سياسي وسلطوي قد يشكله التيار والقوى الإصلاحية والمعتدلة والليبرالية، وإخراجها من دائرة التأثير السياسي والاجتماعي، هل تحمل المرحلة المقبلة بذور صراع جديد، وهذه المرة داخل البيت الواحد (المحافظ)، وأن تبدأ حرب بين أجنحته على المكاسب وتوزيع الحصص والسيطرة على مراكز القرار المالي والاقتصادي والسياسي، خصوصاً في ظل ما تحمله المرحلة المقبلة من وعود بانفراجات إذا وصلت المفاوضات النووية إلى خواتيمها الإيجابية وما فيها من عودة الانفتاح على المجتمع الدولي، بالتالي فإن من يستطيع تكريس موقع وتثبيت دوره في هذه المرحلة، سيكون قادراً على الإمساك بمستقبل النظام والسلطة لاحقاً؟ تساؤلات قد تقدم السنوات وربما الأشهر المقبلة إجابات واضحة عنها!