نعرف أنه غالباً ما يربط بين اسمي كاتبي المسرح الإسكندنافيين الكبيرين النرويجي هنريك إبسن (1828 – 1906)، والسويدي أوغست سترندبرغ (1849 – 1912) باعتبارهما المؤسسين الحقيقيين ودائماً إلى جانب الروسي أنطون تشيخوف، لنوع اجتماعي من مسرح واقعي كان هو الرحم الحقيقي الذي ولدت منه الحداثة المسرحية في القرن العشرين الذي افتتحوا إبداعاته المسرحية معاً. ونعرف أن ذلك الربط قد جعل ثمة افتراضاً عاماً بوجود تشابه في مسرحياتهم والدينامية الاجتماعية التي كانت تحركها. غير أن هذا الافتراض ليس دقيقاً. فواقعية كل واحد منهم تختلف عن الآخر وإن كانت تصب جميعاً في اهتمام مسرحي بالقضايا العامة ومن موقع تقدمي يتحرك مع الزمن.
السويدي أشد قسوة
ولعل في إمكاننا أن نؤكد هنا أن الأشد قسوة بين الواقعيات الثلاث هي تلك التي وسمت معظم نتاج سترندبرغ الذي سيبدو لنا الأكثر انتقائية وتنوعاً ناهيك عن بعد ميتافيزيقي رمزي طبع مواضيع وأجواء مسرحه. غير أن الفارق الأساس بينه وبين زميليه الآخرين يبقى ارتباط مسرحه بذاته وبمعضلات حياته الخاصة فيما نجد إبسن يركز عموماً على المجتمع في حد ذاته وعلى قضاياه الكبرى حتى وإن كان يقترب بين الحين والآخر من ذاتيته، فيما يشدد تشيخوف على الإنسان عموماً والأبعاد السيكولوجية لنجاحاته وإخفاقاته.
بكلمات أخرى من الواضح أن مسرح سترندبرغ يبرز كمسرح شديد الخصوصية، ولو من ناحية اهتمام الكاتب فيه بالتعبير عن مشاكله الخاصة، التي طبعت حياته وإنتاجه الإبداعي بشكل لم يستطع أن يهرب منه. ولئن كان قد خص كتابه الذي سبق أن قدمناه في هذه الزاوية قبل شهور "إنفرنو" (الجحيم) للغوص أكثر وأكثر في غيبيات كادت تدمره وأوصلته إلى رهاب مرضي سيطر عليه، فإن علينا أن نسبر غور مسرحياته الكبرى، سواء كانت اجتماعية أو دينية أو رومانطيقية أو تحليل نفسية ما قبل فرويدية، حتى نعثر على الكاتب الحقيقي في ثناياها.
سيرة الكاتب في مسرحه
يمكننا أن نقول إنه ربما يكون في إمكاننا أن نعثر على سيرة ما لسترندبرغ في تلك الثنايا إن عرفنا كيف نجمعها معاً. وحسبنا هنا، على سبيل المثال أن نتمعن في واحدة من أشهر مسرحياته وهي "الأب" (1887) كي نأخذ فكرة عما نقول. وذلك بالتحديد لأن هذه المسرحية تكاد تكون الأكثر ذاتية في نتاجه، حيث تقول لنا سيرته وسيرة عمله إن النقاد والجمهور العريض الذي كان يتابع مسرحياته بشغف، فهم على الفور ومنذ العرض الأول للمسرحية أن الأب فيها لا يمكن أن يكون أحداً آخر سوى الكاتب نفسه وأن المشكلة المعروضة على الخشبة لا يمكن أن تكون سوى مشكلة حقيقية يعانيها الكاتب وأراد أن يجعل من كتابتها وعرضها نوعاً من تعويذة. فهل نضيف أنه نجح في ذلك، وأن المسرحية ساعدته على البرء مما كان يعتريه؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أن يكون نجح في ذلك، أمر لا شك فيه، حيث لا بد من الاعتراف بأن "الأب" تقف إلى جانب عدد قليل من مسرحيات هذا الكاتب الفذ والخصب الإنتاج إلى درجة مذهلة، مثل "الآنسة جوليا" و"سوناتا الأشباح" و"ثلاثية إلى دمشق" و"الحلم" بوصفها من أبرز المسرحيات التي ظهرت في أوروبا خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات الذي يليه.
البساطة أولاً
ومع ذلك يبدو موضوع "الأب" بسيطاً حيث منذ البداية يتمحور حول نقاش حاد يتحول إلى نزاع جدي بين رجل وزوجته. هو ضابط في سلاح الفرسان وهي مجرد ربة بيت. ويدور النزاع بينهما بشأن مستقبل تعليم ابنتهما بيرث. لكن هذا السجال العائلي سرعان ما يتكشف أنه أقل بساطة مما نعتقد بكثير. فالزوجة لورا إنما ترغب من خلال فرض وجهة نظرها في السيطرة على الزوج (الأب) والتقليل من شأنه مهما كلفها ذلك وهي مدركة نقاط ضعفه، فهو رغم ذكائه وهدوئه ضعيف الشخصية يمكنه أن يتأثر بسهولة. ومن هنا تصل لورا في السجال إلى حد استخدام كل ما لديها من دهاء لكي تدفع به إلى الاعتقاد بأن بيرث ليست ابنته في الحقيقة فهي، كما تخبره الآن، أنجبتها من علاقة لم يدر هو بها.
ويمكننا الآن أن نتصور قسوة هذا "الاعتراف" على رجل كنا قد أدركنا خلال ما استمعنا إليه مقدار تعلقه بالطفلة وحرصه على علاقته بها. صحيح أنه يجابه زوجته هنا بعنف وإنكار لكن ثمة شيئاً كان قد حدث بالفعل: ثمة ذلك الشك الذي بدأ ينهشه من حول سؤال بسيط نجده عاجزاً حتى عن التفوه به: ماذا لو كان صحيحاً ما "تدعيه" لورا الآن؟ من الواضح أن حياة الأب كلها باتت معلقة على حصوله على جواب قاطع. صحيح أنه ينكر ذلك و"يسخر" من لورا، لكن عقرب الشك بدأ ينخر عقله بالتأكيد! والشك الذي تسلل أول الأمر هادئاً ها هو الآن يسيطر عليه تماماً لحظة بعد لحظة. وبالتالي تتضخم هذه الرؤية القاتلة لديه ويبدأ نوع من جنون يهاجمه بل يتملكه تماماً حتى ينتهي به الأمر إلى السقوط صريعاً. على ركبتي المربية التي بالتواطؤ مع لورا كانت قد ألبسته قميص المجانين.
صراع بين أنانيتين
عند هذا المستوى يتضح لنا أن سترندبرغ قد جعل من لورا بطلة المسرحية حتى وإن كانت بطلة سلبية. فهي التي تتمكن من التحكم في الحوار والأحداث الناتجة عنه. ناهيك عن أن الضابط لن يبدو لنا بطلاً إيجابياً بما يبدو منه من طيبة وذلك لأنه لن يكون عسيراً على الجمهور أن يكتشف أن تصرفاته ليست نابعة عن تلك الطيبة التي يعتقد هو أول الأمر أنها هي ما يسير تصرفاته. بل على العكس. تنبع تصرفاته من قدر كبير من الأنانية. بل إن حبه لطفلته إنما يرتبط بتلك الأنانية التي تجعله يفقد صوابه وحياته ما إن "يكتشف"، أو يشك على الأقل في أنها ليست طفلته وقد بات به ميل لعبت عليه لورا بصورة شيطانية، لتصديق ما ترويه له وهي تعرف أنها تقتله على ذلك النحو. من هذا المنطلق من المؤكد أن سترندبرغ يقدم لنا هنا شخصية قد لا تقل شراً، مع حفظ الفوارق، عن الليدي ماكبث. وهو الأمر الذي وضعه النقاد وربما الجمهور أيضاً، في خانة تلك الكراهية للنساء التي كانت قد اشتهرت عن الكاتب وعبر عنها في العديد من مسرحياته ولكن خاصة في بعض أقوى صفحات كتابه "المتزوجون".
بين التبرير وجلد الذات
غير أن المهم هنا هو أن سترندبرغ يقدم ما يبدو، ولو جزئياً، وكأنه فصل منتزع من حياته الشخصية، وذلك ليس لكي يروي حكاية. فليس ثمة هنا حكاية بالمعنى المتفق عليه للكلمة، بل ليصور ما يمكن اعتبار الخلفيات الحقيقية التي تكمن وراء موقفه المعادي للمرأة. وفي هذا المعنى قد يمكن النظر إلى مسرحية "الأب" بوصفها (تفسيرية - تبريرية) وصولاً حتى إلى التعامل مع التوصيف الذي يرسمه للأب نفسه مشدداً على أنانيته كنوع من نقد ذاتي غايته ترسيخ قناعة متفرجيه، أو قرائه، بالشر الذي تبديه زوجته ببساطة ودهاء وتصميم إجرامي مسبق.
ومن هنا يمكننا الموافقة على ما ذهب إليه دارسون رأوا أن "الأب" ليست عملاً غايته رسم صورة ولو مواربة للصراع بين الخير والشر، بل بالأحرى تصوير الصراع وكيف يمكنه أن يكون محتدماً، وما الذي ينتهي عليه حين يقوم ويحتد بين أنانيتين، يمكن فيه للأنانية الأقوى أن تسحق تلك التي تقدم لنا بوصفها الأضعف. ويلفت هنا حقاً كون الكاتب يعطي النصر للمخلوق الأضعف، المرأة، وفقط لأنها في نظره الأكثر شراً، ولكن دون أن ننسى أنه لم يفعل هنا في نهاية المطاف سوى تسخير الخشية واللغة لعرض فصل بائس من حياته، ممارساً انتقاماً لم يسلم حتى هو نفسه من تبعاته.