وحيدة، وفي مأوى للعجزة، توفيت الممثلة اللبنانية الكبيرة رينه ديك عن 78 سنة، بعدما فقدت منزلها وتخلى عنها الجميع في شيخوختها. حتى نقابة الفنانين لم تمدّ لها يد العون، ولا وزارة الثقافة اللبنانية سألت عنها، هي التي ساهمت في نهضة بيروت المسرحية، مؤدية أهم الأدوار، مثلما ساهمت في إحياء الفن التشكيلي لسنوات، عندما عملت عارضة للرسامين، متحدية التقاليد الاجتماعية كلها. ممثلة كبيرة تحمّلت ظلم العائلة وظلم الحياة وظلم ذوي القربى الفنية، خصوصاً الرسامين الكبار الذين استوحوا جسدها وتعلّموا عليه منهج رسم الجسم البشري والأنثوي، ثم نسوها أو تناسوها. ولولا بعض التبرعات التي قدّمها لها أصدقاء أوفياء لها، مثل النائب الراحل جان عبيد والطبيب العالمي فيليب سالم وسواهما، لما تمكّنت من إجراء جراحات دقيقة أنقذتها من الموت.
ليست رينه ديك ممثلة كبيرة فقط، بل كانت مثقفة تتقن الفرنسية والإنجليزية، درست الفن المسرحي في الجامعة العالمية للمسرح في باريس، وهناك تعرّفت إلى طلاب تونسيين أصبحوا من أهم المخرجين المسرحيين في بلادهم ومنهم المخرج فاضل الجعايبي الذي أدت معه أدواراً في مسرحيات فرنسية. ومن باريس الستينيات، انتقلت إلى بيروت التي كانت حينذاك تتهيّأ لإحياء نهضة مسرحية حديثة في إطار الحركة الثقافية والأدبية والتشكيلية الشاملة التي كانت تشهدها العاصمة، مؤدية دور المختبر الحداثي العربي، فكرياً وفنياً وأدبياً. ثم سافرت إلى تونس وتزوجت من الفنان حميدة بن عمار وشاركت في عروض تونسية عدة، منها "الخادمتان" للكاتب الفرنسي جان جينيه.
محترف بيروت
وكان من الطبيعي أن تنضم رينه الممثلة القديرة، الحاملة شهادة أكاديمية فرنسية في فن التمثيل المسرحي، إلى "محترف" المخرج اللبناني الرائد منير أبو دبس وتشارك في الأبحاث والتمارين المسرحية، مع نخبة من الممثلين الذين أصبحوا نجوم المسرح اللبناني مثل أنطوان كرباج وميراي معلوف ورضا خوري وميشال نبعة وتيودورا راسي ومادونا غازي وسواهم. وقدّمت في إدارة أبو دبس، مسرحيات عدة منها "الذباب" لجان بول سارتر، و"الملك يموت" لأوجين يونسكو و"هاملت" لشكسبير و"الإزميل" للكاتب اللبناني أنطوان معلوف. لكنها عملت في الوقت ذاته مع مخرجين آخرين، فشاركت في مسرحية "رومولوس الكبير" التي أخرجها شكيب خوري و"لعبة الختيار" التي أخرجها برج فازليان...
ثم توالت أدوارها المسرحية والسينمائية والتلفزيونية: "ضاعت الطاسة" و"زيارة السيدة العجوز" للمخرجين أنطوان ولطيفة ملتقى، و"حياة ميخائيل نعيمة" للمخرج يعقوب الشدراوي، و"جزيرة الماعز" للمخرج ألان بليسون، و"فيلم أميري طويل" لزياد الرحباني و"الخادمتان" للمخرج العراقي جواد الأسدي، وهذه المسرحية لقيت نجاحاً كبيراً وجالت طوال ثلاث سنوات على مسارح عربية وأوروبية (1994- 1996)، وأدت فيها دور سيدة المنزل ببراعة تامة وإلى جانبها الممثلتان الكبيرتان رندة الأسمر وجوليا قصار في دورَي الخادمتين. وأطلت رينه الديك في أعمال مسرحية شبابية كثيرة منها "قذيفة في القلب" و"منمنات" للمخرجة الشابة لينا أبيض. سينمائياً، كانت لها أدوار عدة وأولها كان في أول فيلم صُوِّر بعد الحرب الأهلية هو "الملجأ" للمخرج رفيق الحجار، وفيه أدت دور المرأة في قلب المعارك وبين خطوط التماس. ومثلت أيضا ً في فيلم "بيروت اللقاء" لبرهان علوية وأفلام أخرى لجوسلين صعب ورندا الشهال.. أما تجربتها التلفزيونية، فافتتحتها في مسلسل "السنوات الضائعة" في السبعينيات وهو من إخراج سمير نصري واقتباس الشاعر بول شاوول، ثم أدت دوراً في مسلسل "نساء عاشقات" من إخراج نصري. لكن رينه أطلّت في مسلسلات وبرامج تلفزيونية شعبية عدة لا تحصى، وحصدت من خلالها شهرة لدى الجمهور العريض، لا سيما في أدوارها الكوميدية. وظلت تطلّ تلفزيونياً حتى السنوات الأخيرة من عمرها ولو عن غير قناعة، والغاية أن توفر مدخولاً يَقيها ويلات الفقر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الدور الآخر والمهم الذي أدته رينه، فهو عملها كعارضة للرسامين الرواد من أمثال ميشال المير ورشيد وهبي وعارف الريس وبول غيراغوسيان وأمين الباشا ورفيق شرف... وهذا الدور الجريء الذي قامت به ساهم في تذكية نار الفن التشكيلي اللبناني، خصوصاً أن العارضات كنّ نادرات نظراً إلى التقاليد الاجتماعية، وغدا جسدها ملهم الرسامين الذين تعلّموا عليه طرق رسم الجسم وتشريحه الفني. ولم تكتفِ رينه بجيل الرواد، بل عرضت جسمها أيضاً لطلاب معاهد الفنون، الذين كانوا يحترمونها ويقدرون دورها وجرأتها والمهمة الفريدة التي تؤديها للفن اللبناني.
كانت رينه ديك ممثلة كبيرة وقديرة جداً، تأخذ من المخرجين وتعطيهم، فهي صاحبة خبرة طويلة في المسرح، درست كل مناهجه، لا سيما منهج الروسي ستانيسلافسكي والألماني بريخت ومناهج المسرح الفرنسي الحديث. وكانت مثقفة وقارئة نهمة، تدلّ المخرجين في أحيان إلى نصوص مهمة في الريبرتوار المسرحي العالمي.