إن مأساة أفغانستان هي مأساة الإنسانية جمعاء. وسوف تخلد الذاكرة صور المواطنين الأفغان وهم يسقطون من الطائرات والأمهات اللاتي يرمين أطفالهن فوق الأسلاك الشائكة، أثناء محاولاتهن اليائسة للهرب قبل أن تطبق عليهن أسوار "طالبان" القاتمة، باعتبارها صوراً من أقسى أيام هذا الزمن. وسوف تلاحقنا لعنات أجيال المستقبل بسبب تقاعسنا وخيانتنا [للوعود].
وفيما يبدأ الأفغان باستيعاب ما ارتكب بحقهم، ويرتجف الملايين منهم يأساً خلف جدرانهم وستائرهم، يتخلى عنهم أكثر من توقعوا أنهم سيساندونهم.
يوم 16 أغسطس (آب)، وقف جو بايدن على رفات الأفغان القتلى ليعلن أنهم الملامون لعدم رغبتهم بالرحيل في وقت أبكر. بينما تعهد الرئيس ماكرون في فرنسا بإغلاق الأبواب في وجه أي أفغاني حالفه الحظ الكافي للبقاء على قيد الحياة خلال الرحلة التي توصله إلى أبواب أوروبا.
يحمل كل أفغاني معه اليوم قصة مأساوية- كما ملايين الرجال والنساء والأطفال الذين لا صوت لهم لكي يخبروا العالم عن محنتهم.
وفي معرض دفاعه عن قراره بالانسحاب من أفغانستان بالطريقة التي جرى بها، أعاد الرئيس بايدن التأكيد على أنه لم يرد توريث خلفائه الحرب. لكن لو ألقى مجرد نظرة خاطفة على تاريخ أفغانستان المضطرب والدموي- وجغرافيتها وشعبها بقومياته وطبقاته المتعددة- لعرف كم هو مخطئ.
لم يعرف البلد حالة سلام داخلية ولا مع جيرانه، أقله منذ تاريخ تأسيس الإمبراطورية الدُّرانيانية في 1747. أسس الأمير عبد الرحمن خان الدولة الأفغانية الحديثة- بمساعدة الهند البريطانية- وتربع على عرشها منذ عام 1880. وقد تعرضت قومية الهزارة، التي تواجه الآن موجة جديدة من الاضطهاد والاعتداءات، إلى التدمير أو التهجير الذي طال أكثر من نصف أعضائها.
ومنذ وفاة خان في عام 1901، تولى السلطة في أفغانستان 14 حاكماً، تعرضوا جميعاً، ما عدا واحد فقط، إما للاغتيال أو الخلع. وحده حامد كرزاي، الذي تمتع بدعم عسكري ومالي هائل من الغرب، نجح في إنهاء فترة حكمه. وقد نجا من عدة محاولات اغتيال، فيما قتل والده وأخوه على يد حركة "طالبان".
يطلعنا ماضي أفغانستان على مسار البلاد المستقبلي. ما نشهده الآن ليس نهاية الصراع الأفغاني، بل هو مدخل إلى مرحلة جديدة. ويمكن أن تكون هذه المرحلة أكثر فتكاً من المرحلة الفائتة حتى.
سوف تظل أفغانستان تشكل معضلة بالنسبة للمجتمع الدولي. إذ فقدنا، مع الانسحاب الأميركي، فرصة تفادي هذا المستقبل القاتم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يأمل كثيرون، إما عن سذاجة أو يأس، أن يروا علامات تغيير في حركة "طالبان". لكنهم يخطئون كثيراً- فحركة "طالبان" عاجزة عن التغيير.
لقد قاتلت في سبيل تطبيق عقيدتها المتطرفة؛ وهذا ما دفع بعناصرها لتفجير أنفسهم داخل المدارس والمستشفيات. وهذا هو محرك الفظائع التي ارتكبتها: من مجازر واغتصاب وتعذيب. وسيؤدي أي انحراف عن الهدف إلى ولادة تمرد داخل الحركة. "طالبان" المختلفة ليست "طالبان"؛ بل هي شيء آخر.
حتى أن الحركة، في سعيها للتمسك بالسلطة والحفاظ على تماسكها، قد تصبح أكثر تطرفاً. خلال مؤتمر صحافي عقد في كابول في 18 أغسطس، سُئل الناطق باسم الحركة، ذبيح الله مجاهد- الذي كشف عن وجهه للمرة الأولى وهو يجلس إلى مكتب رجل قتلته الحركة قبل أسابيع فقط، وسارع مجاهد إلى تبني عملية اغتياله- إن كانت الحركة قد تغيرت "من حيث القيم والعقيدة". وكان جوابه "كلا".
خلافاً للوعد الذي قطعته، استولت "طالبان" على السلطة بالقوة. على المجتمع الدولي أن يظل ملتزماً بتعهده بعدم الاعتراف بحكومة كهذه. وفيما تستعد الجماعة للحكم، سوف تدفع في اتجاهات مختلفة من الداخل ومن رعاتها الإقليميين، الذين كان هدفهم الوحيد حتى الآن إخراج الغرب من البلاد.
وبما أن هذا الهدف قد تحقق، سوف تتباين مصالح واهتمامات كل جهة. وليس النفوذ الحقيقي في الحركة في قبضة الناطقين باسمها أو الزعماء السياسيين، بل القادة العسكريين الذين خاضوا المعارك إلى الآن. الحكم سيكون بأيديهم.
وسوف يضع إغواء السلطة كما أسلوب تقسيم الغنائم في ما بين هؤلاء القادة ضغوطاً إضافية على هيكلية الحركة فيصعب عليها مسألة الحفاظ على وحدتها. وحتى لو حافظت عليها، ستواجه صعوبة في الحكم.
لن تقدر حركة "طالبان" على تأمين السلام والازدهار لشعب أفغانستان الذي تسعى إلى حكمه بالخوف. فـ"طالبان"، التي فاجأها مدى تساهل الغرب مع استيلائها على الحكم، لا تعلم كيف تتصرف، في ما عدا جعل مقاتليها يحومون في أرجاء كابول وأفغانستان ليبثوا الذعر وينتقلوا من باب إلى آخر بحثاً عن الصحافيين والناشطين والمواطنين الذين عملوا مع الحكومة السابقة.
خلال الأيام الأخيرة، بحسب تقرير مسرب للأمم المتحدة، كثفت "طالبان" بحثها عن الأفراد الذين عملوا مع الغرب ومع الحكومة الأفغانية.
60 في المئة من سكان أفغانستان ليسوا من أقلية البشتون: وهم يكرهون حركة "طالبان" جداً. شهدنا بالفعل انتشار الاحتجاجات المناهضة لـ"طالبان" في كل أنحاء أفغانستان- وبدأ أحمد مسعود، نجل قائد قوات تحالف الشمال أحمد شاه مسعود، بتنظيم قوات مقاومة في وادي بنجشير، المكان الوحيد الذي لم يقع في قبضة "طالبان". عجزت حركة "طالبان" عن السيطرة على الوادي في المرة الماضية كما عجز السوفيات عن ذلك قبلها.
لم يعتقد أحد أن "طالبان" ستعود. لكنها عادت. لا يؤمن كثيرون بأنها ستزول. لكن نظرة واحدة إلى تاريخ أفغانستان تخبرنا العكس.
إنما في هذه الأثناء، وفيما يكتفي الغرب بالمشاهدة والانطواء على نفسه، تشعر الحركة أنها قادرة على التصرف كما يحلو لها، فيما تحتفل منظمات إرهابية أخرى مثل "حماس" في فلسطين و"أحرار الشام" في سوريا، وتهلل. ناهيك عن الصين وإيران وروسيا.
روح يعقوبي لاجئ سابق، ومعلق وزميل مساعد في مركز أبحاث السياسة الخارجية، مركز الأمن الإنساني (Human Security Centre)
© The Independent