Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبدالوهاب محمود الشيخ والدكتور

أدرك أن مكانة الإنسان لا تتحقق بالموقع الوظيفي

عبدالوهاب محمود (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - مواقع التواصل الاجتماعي)

ما كان لوفاة الدكتور عبدالوهاب محمود أن تمر من دون إثارة مشاعر حزن عند كل اليمنيين الذين عرفوه أو سمعوا عنه، فقد كان واحداً من قلة من الساسة اليمنيين الذين لم يتلونوا، ولم تتلوث سمعتهم، سواء كانوا داخل السلطة أو خارجها، ولم يكن مهماً عنده أنه كان من الأسر المعروفة بعراقتها ومكانتها الاجتماعية في تعز، ولكنه كان يحتفي بلقب "الدكتور" الذي حصل عليه بجدارة من إحدى الجامعات في تشيكوسلوفاكيا. لم يكن ذلك تعففاً منه، لكنه كان رجلاً يسعى للخروج عن دائرة التشبث بالألقاب المتوارثة إلى ساحة العلم والتنافس في فروعه.

مارس الدكتور عبدالوهاب العمل الحزبي في نطاق حزب البعث، وعلى الرغم من إيمانه العميق بأفكار حزبه، إلا أن ذلك لم يمنعه من الانفتاح على كافة التيارات السياسية والتعامل معها بترفع وتوازن منطلقاً من قاعدة كان يؤمن بها، وهي أن الأوطان أهم من الانحيازات والاستقطابات التي ينغمس فيها كثير من الحزبيين في العالم العربي. ومكنه هذا بأن كان من أندر الحزبيين الذين يلجأ إليهم الجميع للتعرف على موقفه أو جذبه إلى مواقفهم.

على الرغم من تقلب الدكتور عبدالوهاب في مواقع رسمية كثيرة، وعمله سفيراً في عدد من الدول، حين كان الرئيس علي عبدالله صالح يريد استبعاده خارج البلاد، إلا أن ذلك لم يغير من طبيعة شخصيته البسيطة في مظهرها، ومنحه فرصة اكتساب خبرات مختلفة، والاقتراب من ثقافات متعددة تمكن من التعامل معها وعزز منها إرثه الأسري، وعلى الرغم من الابتسامة التي لم تكن تفارقه، إلا أنه كان صلباً في الدفاع عن كرامته وقادراً على الاحتفاظ بهدوئه في الأوقات الصعبة.

بعد رحيل رئيس مجلس النواب الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر كان الجميع مقتنعاً أن الدكتور عبدالوهاب هو المرشح المناسب الأجدر والأكفأ ليصعد إلى الموقع، لكن الرئيس صالح لم يقبل كل الأسباب المنطقية والوطنية التي قدمها له كثيرون، وفضل ترشيح اللواء يحي الراعي الذي أصبح رئيساً للمجلس في 2007، ورضخ أعضاء المجلس لرغبة صالح التي بررها في حينه، بأن الموقع من حق حزب الأغلبية المؤتمر الشعبي، ذلك على الرغم من أن الشيخ الأحمر كان زعيم حزب المعارضة.

والواقع أن صالح كان يدرك أن عبدالوهاب لن يكون أداة طيعة، ولن يكون بمقدوره أن يعزله، فترك الأمر مرارة شديدة في نفسه، لأن حجب الموقع لم يكن متعلقاً بجدارته في نيله، وإنما لأسباب شخصية ومناطقية بحتة، وكان الجميع يعلم قدراته الإدارية والسياسية وقيمته الشخصية والاعتبارية والوطنية التي لا تقل عن مكانة الشيخ الأحمر. 

كانت تلك آخر مرة مارس فيها عبدالوهاب محمود مهمته عضواً في مجلس النواب، معتبراً أن ما حدث هو انتقاص من قدراته ومكانته، ورفض كل المحاولات التي جرت لإعادة المياه إلى مجاريها بينه والرئيس صالح، وكان يعبر في مجالسه الخاصة عن سخريته من الذين خذلوه خوفاً على مكاسبهم وإذعاناً لأوامر تأتيهم من خارج المجلس.

نشأت بيننا علاقة ود امتداداً لعلاقة الأسرتين، ولما كان يكنه من احترام وتقدير لوالدي رحمه الله، وكنت أحرص على زيارته في منزله في (مدينة الأصبحي)، وكان قريباً من منزلي في الحي نفسه. كان يبث أحزانه على ما يدور ويبدي قلقاً على مستقبل البلد، واعتبر أن التغيير السلمي صار ضرورة وطنية، فنشط من خلال "اللقاء المشترك" الذي تم إعلانه في فبراير (شباط) 2003، وجمع كل أحزاب المعارضة اليمنية التي كان هدفها إسقاط الرئيس صالح سلمياً (حزب الإصلاح، والحزب الاشتراكي، وحزب الحق، والتنظيم الناصري، وحزب البعث، والتنظيم السبتمبري، واتحاد القوى الشعبية).

اعتدت أخيراً في كل مرة التقي فيها مسؤولاً، أن يقفز إلى ذهني سؤال "كيف تريد للناس أن يتذكروك بعد رحيلك؟"، وهو ما يجعل الدكتور عبدالوهاب في مرتبة متقدمة جداً عن أقرانه في أنه رحل بذكرى رجل دولة من طراز رفيع، وأن خصومه السياسيين أحبوه، لأنه أدرك أن مكانة الإنسان لا تتحقق بالموقع الوظيفي الذي تعامل معه كواجب وليس كمغنم، وأضاف هو إلى قيمته المعنوية لأنه كان يشعر بالامتلاء الداخلي بقدراته.

لا يعلم كثيرون من جيل الشباب ماذا قدم عبدالوهاب محمود لوطنه في كل موقع شغله، لأنه لم يكن يحب الضجيج والأضواء، ولم يكن سياسياً انتهازياً ولا منافقاً ولا متزلفاً، ولم يكن ينفق على فرق لتحسين صورته، فلم يكن بحاجة لكل ذلك، ولم ينشغل بالتنقل بالمواكب ليلتفت إليه المارة، وقرر مقاطعة جلسات مجلس النواب ورفض المشاركة في كل نشاطاته انتصاراً لكرامته الشخصية أولاً، ولشعوره بأنه الأحق بالموقع كفاءة وتجربة، لكن ذلك لم يحجبه عن التواصل مع محبيه وأصدقائه وخصومه.

ازداد المرض على الراحل ولم يتمكن من لعب الدور النشط الإيجابي الذي كان مؤملاً منه خلال أحداث 2011 وما جرى بعدها، ثم اختفى عن الساحة تماماً، وانقطع عن التواصل مع الناس نتيجة وضعه الصحي، وكانت أخباره ورسائله الشخصية تصلني من طريق نجله رامي الذي رافقه في سنواته الأخيرة، وكانت تعبر عن حزنه وألمه لما آلت إليه أوضاع اليمنيين في الداخل والخارج.

الدرس الأهم الذي سيتركه الراحل هو أن موقع المرء الوظيفي لا يعني الناس كثيراً، ولا يهتمون به ولا يترك لوحده الأثر الإيجابي عندهم، وإنما هو بحاجة بداية إلى توازن نفسي داخلي وثقافة حقيقية تمنح شاغر الوظيفة القدرة على القيام بها، إلى جانب التجربة التي تساعده على تطوير الأداء بما يفيد المواطنين.

رحل الدكتور بهدوء من دون خصومات، ليحصد دعاء الجميع له بالرحمة بينما تنتظر اللعنات كثير من زملائه.

المزيد من آراء