تشهد مخازن السلع في تونس وبخاصة منها المواد الغذائية ومخازن التبريد، حملة رقابة مشددة من قبل الفرق المتخصصة بعد النداء الذي أطلقه رئيس الجمهورية قيس سعيد لمحاربة المحتكرين الذين وصفهم بـ "المتلاعبين بقوت التونسيين"، في إطار ما أطلق عليه الحرب على الفساد.
وقد اتهمهم بجني الأرباح من طريق المضاربة والاحتكار والترفيع في الأسعار مما أدى إلى زيادة أسعار المواد الاستهلاكية وتجويع التونسيين، وذلك إثر زيارة له إلى مخزن تبريد للخضراوات منذ أيام.
وشنت أجهزة المراقبة التابعة لوزارة التجارة حملة لمراقبة المخازن المنظمة والعشوائية للوقوف على مدى امتثالها للقانون بعد أن سجلت تجاوزات تخص احتكار بعض المواد الاستهلاكية، وذلك بتخزينها ثم بيعها في السوق بأسعار مرتفعة.
وإن لاقى نداء الرئيس سعيد استحسان التونسيين والمنظمات المدافعة عن المستهلك، فإن ذلك لم يمنع المتخصصين في هذا المجال من انتقاد منظومة توزيع السلع وتزويد السوق في تونس، حيث تشوبها ثغرات عدة توفر للمضاربين فرصة الهيمنة على السوق، إضافة إلى ضعف الدولة وعدم تدخلها لردع أباطرة الاحتكار المتحكمين في مسالك توزيع السلع.
وفي إطار تنظيم تزويد السوق والتصدي بصفة استباقية للممارسات الاحتكارية، أطلقت وزارة التجارة برنامجاً خصوصياً لمراقبة مخازن التبريد أسفرت عن القيام بـ 191 زيارة رقابية خلال اليومين السابقين، وجرى تحرير 24 مخالفة ورصد المنتوجات الغذائية المخزنة التي تقدر بـ 28936 طناً.
تطبيق رقمي
وأعلنت وزارة التجارة وتنمية الصادرات تطبيقاً رقمياً يعنى بمتابعة عمليات التصريح بمحتوى مخازن التبريد، وتسجيل حركة معاملاتها اليومية بالمنتوجات المخزنة، وذكرت الوزارة أنه العمل انطلق به بداية من 16 أغسطس (آب) الحالي، وبلغ عدد المسجلين خلال اليومين الأولين 103 مخازن تبريد.
ويتحتم على مستغلي مخازن التبريد الانخراط في هذا التطبيق والتسجيل فيه وتوفير المعطيات المطلوبة بالبوابة المخصصة.
كما نبهت الوزارة إلى أن كل ممارسة لنشاط التخزين خارج الأطر القانونية ومن دون التصريح والانخراط في التطبيق الرقمي يعرض مرتكبه لتبعات قانونية تشمل حجز البضائع المخزنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعت الوزارة أصحاب مخازن التبريد والمنتوجات الفلاحية طبقاً لأحكام الفصل 17 من القانون عدد 86 لسنة 1994 إلى تزويد السوق عبر المسالك القانونية، أي أسواق الجملة، ونبهت إلى ضرورة أن يتم التوزيع بصفة منتظمة وبالكميات الكافية من المنتوجات المخزنة من خضراوات وغلال ولحوم حمراء وبيضاء وأسماك وبيض، وحذرت من عمليات الخزن المفرط وإخفاء البضائع وترويجها خارج المسالك القانونية.
واعتبرت ذلك احتكاراً من شأنه المساس بالنسق العادي لحسن تزويد السوق، وتحديد الأسعار وفقاً لمقتضيات حرية المنافسة وباعتماد قاعدة العرض والطلب.
وكشف رئيس "المنظمة الوطنية لإرشاد المستهلك" لطفي الرياحي خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن التطبيق الإلكتروني المذكور لتسجيل السلع بالمخازن وضع منذ أكثر من سنة، وعرض على مجلس وزاري ولم يتم تفعيله، في إشارة واضحة إلى غياب الإرادة السياسية الراغبة في الضرب على أيدي المضاربين، بل والتورط في منظومة الفساد نفسها، ويضاف إلى ذلك عدم تناول ملفات عدة لدى وزارة التجارة، أهمها تنظيم مسالك توزيع السلع الاستهلاكية بأنواعها، مما ينبئ بغياب الإرادة السياسية للإصلاح.
غياب خطة استراتيجية
ويمثل عدم سيطرة الدولة على دائرة الإنتاج والتسويق عاملاً أساساً في عجزها عن التحكم بالأسعار، ويؤدي غياب السلطة إلى تحكم اللوبيات في السوق، ويأتي هذا نتيجة عوامل عدة، إذ يعجز 80 في المئة من الفلاحين في تونس عن تسويق إنتاجهم بسبب تواضع نشاطهم وانتمائهم إلى فئة المزارعين الصغار، مما يفتح المجال أمام الوسطاء الذين يتولون نقل السلع إلى السوق وينشطون في هذا المجال بمقتضى رخص تاجر متجول، ثم يتحولون إلى مضاربين باحتكار السلع وتغييبها من السوق والتحكم في الأسعار من طريق اعتماد آلية التخزين والتبريد وتزويد السوق بالكميات التي تناسب أجنداتهم.
كما يعمدون إلى توزيع السلع بالمسالك غير القانونية، أي بعيداً من أسواق الجملة المرخصة، وتمثل المواد الغذائية من خضراوات وغلال ولحوم ومعلبات أبرز السلع المتداولة لديهم، وبناء على ذلك يتحكمون في الأسعار بحكم أن 97 في المئة من السلع محررة السعر باستثناء المواد المدعمة.
ويضيف الرياحي أن غياب استراتيجية واضحة من قبل السلطات لتنظيم مسالك توزيع السلع "يمثل الثغرة التي يمر منها هؤلاء، ولا ينحصر الأمر لدى التجار المتجولين، بل يتجاوزهم إلى المساحات التجارية الكبرى وموردي النسيج الذين يحددون هذه الأسعار بحكم حجمهم في السوق، ليغدو المستهلك ضحية لهم بالتساوي مع الفلاح أو المنتج الصغير الذي يعجز عن المنافسة".
ويتحتم على السلطة المعنية، وزارة التجارة، وضع استراتيجية تراقب المنتوجات من حيث الكمية ومسالك التوزيع وكميات التخزين والتبريد والعرض بالسوق.
نصوص تشريعية
كما لاحظ الرياحي غياب النصوص التشريعية المحددة لهامش الربح الخاص بالمنتوجات المحررة السعر، مما أدى إلى تفاقم ظاهرة غلاء الأسعار المرتبط أساساً بالتجاوزات المذكورة آنفاً، وهي التخزين والاحتكار.
وتعجز السلطات تبعاً لذلك عن التحكم في حركة السلع على الرغم من الإجراءات الجديدة، مثل التطبيق المذكور، لأن الأمر لا يتوقف على التخزين، بل يتجاوزه إلى التخزين التعديلي ومراقبته والتحكم في مسالك توزيع السلع وسن القوانين المحددة لسقف الأرباح، إضافة إلى ضرورة وضع عقوبات رادعة للمخالفين، وبالتالي التحكم في تزويد السوق وهيكلة الأسعار.
رقابة مفقودة
وذكر عضو "المجلس الوطني للنقابة التونسية للفلاحين" فوزي الزياني في تصريحه لـ "اندبندنت عربية" أن الشبهات تحوم باستمرار حول مخازن التبريد الخاصة بالسلع المتنوعة وغير المقتصرة على المواد الفلاحية، إذ يفلت أصحابها من العقاب بسبب غياب الرقابة.
وتلعب هذه المخازن دوراً محورياً في المنظومة الفاسدة التي يذهب ضحيتها المنتج والمستهلك على حد سواء، إذ يتزود أصحاب المخازن بالسلع بأبخس الأسعار من المنتجين، ويقومون بتخزينها ثم تسريبها للسوق بكميات ضئيلة مما ينتج منه ارتفاع أسعارها.
وتمثل الرقابة الحلقة المفقودة في هذه الدائرة، وتتعلل إدارة المنافسة بوزارة التجارة، وهي المكلفة مراقبة هذه المساحات، بنقص في الموظفين المراقبين بينما يرتع المضاربون ويتحكمون في السوق.
ويفتقر 80 في المئة من التجار الوسطاء إلى الرخص، ويعود ذلك لاستقالة الدولة من دورها المنظم والمهيكل للسوق وفق الزياني، والنتيجة ضرب القطاع الفلاحي وإضعافه بسبب تغول الوسيط وتفقير المنتج.
ويوفر القطاع الفلاحي حالياً ثمانية في المئة من الناتج القومي الخام، والحال أنه كان يمثل 14 في المئة من الناتج الإجمالي قبل 11 عاماً، في حين أنه القطاع الوحيد الكفيل بتحقيق الأمن الغذائي وتحقيق الموازنة في أسعار المواد الغذائية الأساس للتونسيين.