Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل السودان مستعد لمحاكمة المطلوبين لدى "الجنائية الدولية"؟

يخشى المكون العسكري أن تجر هذه الخطوة بقية المنظومة إلى المساءلة

تشكّل محاكمة البشير عبئاً أمنياً ولوجيستياً كبيراً للجهات الأمنية والقضائية والنيابية في السودان (أ ف ب)

في الوقت الذي يمثُل فيه علي كوشيب للجلسة الأولى في المحكمة الجنائية التي سلم نفسه إليها طواعية، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، تؤكد المحكمة الجنائية عدم مقدرتها على ملاحقة المطلوبين الآخرين، وهم الرئيس السابق عمر البشير، ووزير الداخلية الأسبق عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الدولة بوزارة الداخلية أحمد هارون، حال محاكمتهم على الجرائم نفسها بالسودان، التي وصفتها المحكمة الجنائية بأنها "نمط مستمر من الجرائم التي كانت تُرتكب بتعبئة جهاز الدولة بأكمله" وأثناء وجود المطلوبين في الوظائف المذكورة.

واتسم موقف الحكومة الانتقالية بالانقسام، إذ يرى المكون المدني ضرورة تسليمهم للمحكمة الجنائية الدولية، أمّا المكون العسكري فيرى محاكمتهم داخل البلاد. ومع هذين الرأيين لم تُوجَّه إلى المتهمين الموجودين الآن في سجن كوبر بتهمة تدبير انقلاب 1989 الذي أطاح الحكومة المنتخبة آنذاك أيٍّ من التهم التي سبق ووجهتها المحكمة الجنائية في حقهم.

مطالبة الجنائية

تجددت موافقة الحكومة الانتقالية على مثول المطلوبين لدى المحكمة الجنائية التي أعلنت عنها في فبراير (شباط) الماضي، بمثول علي كوشيب أمامها أمس الاثنين. وبدأت ملاحقة المحكمة الجنائية للرئيس السابق عمر البشير ومعاونيه منذ عام 2009 بتهم ارتكاب جرائم إبادة وتطهير عرقي وجرائم حرب وضد الإنسانية في أثناء النزاع في إقليم دارفور، التي اندلعت منذ 2003 وأسفرت عن 300 ألف قتيل ونحو 3 ملايين نازح ولاجئ داخل السودان وفي دول الجوار بحسب إحصاءات الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من الإعلان باسم الحكومة الانتقالية، فإن تصريحات المكونين المدني والعسكري كل على حدة، تبين أن هناك انقساماً داخلياً. فالمكون العسكري يحرص على المحاكمة الداخلية، خشية أن تجر محاكمة عسكريين مثل البشير وعبد الرحيم محمد حسين، المنظومة العسكرية في البلاد إلى المساءلة الدولية، وكذلك لعدم المس بمنظومة القضاء السودانية. أما المكون المدني فهو مع تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية للإيفاء بأحد متطلبات اتفاق السلام الذي ينص على تسليمهم، كما يعلو الصوت السياسي المتمثل في امتصاص غضب أهل دارفور وممثليهم من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، وهم الشركاء الجدد في السلطة والسند السياسي في الانتخابات المقبلة.

مطلب معنوي

يقول المحامي حاتم إلياس لـ "اندبندنت عربية" إن "الحكومة السودانية مستعدة أكثر من أي وقت مضى لتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، ذلك أن التسليم أصبح أمراً واقعاً، لأن المحكمة الجنائية الدولية والمحاذير المتعلقة بها وقراراتها كانت في السابق أداة مهمة للتوظيف السياسي، وحشد المتعاطفين مع الرئيس السابق عمر البشير حتى من بعض الأحزاب المعارضة له".

وأضاف، "لكن، بعد سقوط النظام ودخول الحركات الدارفورية في السلطة الآن، وتفكيك خطاب السلطة السياسي المركزي، ضعفت هذه الحجة كثيراً، وأصبح صوت الضحايا وذوي القتلى في دارفور مسموعاً، وتشكّلت قناعة بضرورة التسليم. كما أن محاكمة البشير نفسها تشكل عبئاً أمنياً ولوجيستياً كبيراً للجهات الأمنية والقضائية والنيابية، ويبدو أن هنالك ضرورة أخرى نفسية تتعلق بالرغبة في طي ملف ذاكرة الانقاذ نهائياً".

وتابع إلياس "إن علاقات السودان الخارجية مع الدول الغربية وأميركا وإن لم يُطرح فيها موضوع المحكمة الجنائية الدولية، لكن من الواضح أن ملفها يُعدُّ ولو على المستوى الرمزي داخلاً في الاستحقاقات الدولية المطلوبة في التعامل مع الملف السوداني من مراكز صنع القرار الأوروبية". مشيراً إلى أن "هناك نقطة مهمة وهي أن الوجدان الشعبي الآن في السودان أصبح متقبلاً لفكرة تسليم البشير والمطلوبين، فبعد اكتشاف جرائم كبيرة وفظيعة للنظام السابق والفساد المالي، انحسر التعاطف المبني على حيثيات وطنية إلى أدنى درجاته، وبات تسليم المطلوبين مسألة وقت. وأصبح الأمر مطلباً نفسياً ومعنوياً للضحايا وذويهم من أهل دارفور".

حساسية إثنية

وأوضح إلياس "من الممكن أن يُحاكم المتهمون في الخرطوم، فالمحكمة الجنائية الدولية تشترط توفر القضاء المحلي الكفء، وهي تبحث عن التعاون والتضافر بينها وبين الأنظمة القضائية الوطنية، طالما أن النظر للقضايا يجري من قِبل القضاء الوطني في نفس المواد المفتوحة في مواجهة المتهمين من المحكمة الجنائية الدولية ويحاكموا بنفس المواد. ولا يُنظر لهذه القضية الحساسة في الشق القانوني فقط أي من زاوية القضاء والمحاكمة من غير استصحاب تأثير هذه المحاكمة على المناخ العام، وما هو اجتماعي وسياسي في السودان".

واستكمل، "هذه المحاكمة إذا جرت في السودان حتى ولو جاءت المحكمة الجنائية هنا إلى الخرطوم، فمن شأنها أن ترفع من درجة الحساسية الإثنية وإثارة النعرات العرقية والقبلية في ظل حدوث استقطاب عرقي حاد في السودان بأكمله بسبب الحرب، مما قد يؤجج المناخ الاجتماعي والسياسي الهش. لا أعتقد أن الحكومة الانتقالية ترغب في أن تُجرى هذه المحاكمة في الخرطوم، لأنها تمس قضايا حساسة وخطيرة. لكن من ناحية أخرى فهناك احتمال بحدوث ذلك، خصوصاً أن القضاء السوداني بعد سقوط النظام السابق، أصبح مؤهلاً ومستقلاً لمباشرة إجراءات هذه المحاكمة، كما أن القانون السوداني ضمَّن الجرائم ضد الإنسانية للتعديلات القانونية الجديدة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تفادي المحاكمة

أورد تقرير قدمته المنظمة السودانية لمناهضة التعذيب بالتعاون مع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ومركز الخرطوم لحقوق الإنسان بعنوان (الجنائية الدولية والسودان: الوصول للعدالة وحقوق المجني عليهم) في أكتوبر 2005 أنه من ضمن أسباب الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية هو "ضعف وهشاشة النظام القانوني السوداني، إذ إن هناك أوجه تعارض واضحة بين النظام القانوني السوداني ومبادئ ومعايير العدالة المعترف بها دولياً. فالقانون السوداني لا يتضمن الجرائم المذكورة، وفضلاً عن ذلك فالنظام القضائي لا يقدر ولا يرغب في ملاحقة هذه الجرائم. كما يتناقض عدد من القوانين السودانية مع مبادئ حقوق الإنسان ويعارضها. وبما أن السودان لم يصادق على نظام روما الأساسي، لم يكن هناك سبيل لإحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية سوى مجلس الأمن بموجب الفصل السابع".

لكن عمر سيد أحمد، عضو اللجنة القانونية بقوى الحرية والتغيير، ذكر لـ "اندبندنت عربية" أن "المشكلة في محاكمة المتهمين داخلياً وفقاً لقواعد المحكمة الجنائية الدولية هي أن الاتهامات كانت في الأحداث التي جرت خلال 2003 و2004. في ذلك الوقت لم يكن القانون الجنائي السوداني عام 1991 شاملاً للمواد التي تخص الجرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وغير منصوص عليها فيه. ثم بعد توجيه الاتهام عام 2009 أضاف النظام السابق هذه المواد للقانون الجنائي السوداني في عام 2010 حتى يتفادى المحاكمة في (الجنائية الدولية)، ويبرر لرفضه القاطع بتسليم أي متهم بدعوى التمسك بالسيادة الوطنية وغيرها من المبررات". لافتاً إلى أن "هناك مسألة مهمة، وهي أن القانون لا يحاكم المتهم بأثر رجعي. ووفقاً لذلك يصبح القانون لا يشمل المطلوبين وتصبح محاكمتهم شبه مستحيلة، لأنهم واقعون تحت ولاية المحكمة الجنائية".

ويرى سيد أحمد أن "المحكمة الجنائية توفر ضمانات كثيرة مثل ضرورة حضور الشهود وعدم اعتراضهم وتمضي بطريقة سلسة، وتتاح لهم الفرصة للمساهمة في هذه المحاكمات، إضافة إلى ذلك كان هناك اقتراح بأن تكون هناك محكمة خليط (هجين) تقوم بهذا الدور ومكونة من القضاء السوداني والأفريقي والجنائية، لكن لم يصمد هذا الاقتراح في وجه الاتفاق الذي نص على حسب تأكيد عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي بأن يجري تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية، وفقاً لاتفاقية السلام التي وقعتها الحكومة الانتقالية مع الحركات المسلحة، على أن يجري تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، وهي الأقدر على محاكمتهم بشكلٍ أفضل من محاكمتهم داخلياً".

خلط الأوراق

كان بحر إدريس أبو قردة، رئيس حزب التحرير والعدالة ورئيس تحالف القوى السياسية السودانية، الذي مثل طواعية أمام المحكمة الجنائية الدولية في الـ 18 من مايو (أيار) 2009 بتهمة ارتكاب ثلاث جرائم حرب في دارفور في أثناء الهجوم على مقر بعثة الاتحاد الأفريقي في حسكنيتة بدرافور في  سبتمبر (أيلول) 2007 الذي أدى إلى مقتل وإصابة عدد من قوات البعثة، أول سوداني يمثل أمام المحكمة الجنائية الدولية، وقد جرت تبرئته بعد ذلك. قال لــ "اندبندنت عربية"، "ما يحدث اليوم في النظام القضائي والعدلي السوداني لا يمكن أن يطمئن أحداً على تحقيق العدالة من خلاله. وأرى أن تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية محسوم الآن بحسب رغبة أهل الضحايا وكذلك رغبة المطلوبين متمثلة في مذكرة أحمد هارون، وهي خير دليل على ذلك، لكن أشك أن تفعل الحكومة ذلك لمخاوف تخصها".

وعلق إلياس على مطالبة أحمد هارون مطلع هذا الشهر بالمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بدلاً من المحاكم السودانية التي وصفها بالمتحيزة، قائلاً "يبدو أن غرض هارون في رفضه للمحكمة السودانية ومطالبته بالمحكمة الجنائية هو خلط الأوراق، لأنه يُحاكم حالياً في السودان بتهمة الضلوع في انقلاب الثلاثين من يونيو وتقويض السلطة والنظام الدستوري لنظام الحكم الديمقراطي في 1989. بينما سيواجه في لاهاي تهماً مختلفة وهي ضلوعه مع آخرين في جرائم ضد الإنسانية في دارفور، فالقضية التي تنظر فيها المحكمة الجنائية مختلفة تماماً عن القضية التي تُنظر في المحاكم السودانية".

وقال سيد أحمد في هذا الخصوص "تجيء مطالبة أحمد هارون لتحقيق كسب سياسي أكثر من حرصه على العدالة، وكطعن في القضاء الوطني بأنه لن يكون عادلاً معه، وهو يعلم سلفاً أن القضاء الوطني لن يتمكن من محاكمته بموجب القانون الجنائي".

موقف الأحزاب

ليس الانقسام بين المكونين المدني والعسكري وحدهما اللذين أعلنا عن المحاكمة واختلفا بين أن تكون داخلية أو في مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، إنما هناك انقسام بين الأحزاب السياسية. يُلاحظ تحول بعض الأحزاب السياسية من اتهام المحكمة الجنائية بأنها مُسيسة وموجهة ضد أفريقيا فقط، إلى ما بين قبول كلي وجزئي بالمحاكمة. فبينما أعلن الحزب الشيوعي تأييده تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية، لأنه أحد المتطلبات التي قامت عليها مبادئ ثورة ديسمبر، يتمسّك حزب الأمة برأي زعيمه الراحل الصادق المهدي، وهو ما أعلنه رئيس المكتب السياسي محمد حسن المهدي بأن تكون المحاكمة داخلياً عبر محكمة هجين.

وتشاطر حزب الأمة الرأي بعض الأحزاب الأخرى مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يتمسك برأيه بعدم تسليم المطلوبين للجنائية الدولية، خصوصاً بعد تحقق وجود قضاء نزيه بعد الثورة. لكن تحيط بهذا الرأي كثير من المخاوف بسبب احتمال رفض الجنائية المشاركة في محاكمة مختلطة، وأن المحاكمة نفسها لن تكون بأثر رجعي بحسب القانون السوداني، كما يمكن أن تحيط بها كثير من الآثار التي قد تؤدي إلى احتقان المشهد السياسي بوجود المتهمين وأهل الضحايا الذين يمكن أن يحتشدوا من كل ولايات دارفور في بقعة جغرافية واحدة، وهي ساحة المحكمة وما يحيط بها.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير