خسر العالم ما يزيد على 39 مليار وجبة مدرسية منذ تفشي وباء "كوفيد-19" لأن ملايين المدارس أغلقت أبوابها أو قلصت الساعات الدراسية. ومع الإغلاق والتقليص، توقفت الوجبات المدرسية التي هي أكثر بكثير من صحن رز وقطعة لحم وثمرة فاكهة. ما حدث هو أن 370 مليون طفل خسروا نحو 40 في المئة من الوجبات المدرسية التي كانت العماد الرئيس اليومي في الغذاء للملايين منهم، ووسيلة ذويهم الوحيدة لإبقائهم أصحاء لأن قدرتهم على توفير هذه الوجبة بمكوناتها الصحية منعدمة.
تقرير "كوفيد-19: خسارة أكثر من مجرد الصفوف المدرسية"، الذي صدر قبل أشهر عن مركز "إينوشينتي للبحوث" التابع لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) حذّر بشدة من أثر إغلاق المدارس في صحة الأطفال وغذائهم، وهو التحذير الذي سبق مخاوف تأثير الإغلاق في مسار التعليم.
المدرسة للتعليم والغذاء
الإجابة المنطقية لسؤال "لماذا ترسل ابنك إلى المدرسة؟" هي "ليتعلم"، لكن حين تأتي الإجابة "ليضمن وجبة مغذية"، فإنها تبدو غريبة أو محرجة، لكنها واقعية جداً، ولا تقتصر على بلد من دون آخر، لكنها قادرة على مد يد الإنقاذ الرئيسة لأطفال بلد من دون آخر.
آخر ما وصل إليه جدال "الاقتراب" الملغوم للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من "رغيف العيش المدعم"، وتوقعات بقرب تحريك سعر الرغيف ذي القروش الخمسة هو ملف التغذية المدرسية الذي قلما يتطرق إليه أحد إلا لو تعرّض طالب أو طلاب فصل أو مدرسة للتسمم جراء تناول "بسكوت تغذية مدرسية" منتهي الصلاحية أو فاسد أو غير صالح للاستهلاك الآدمي.
حبر على ورق
عقود طويلة ظلت خلالها التغذية المدرسية إما حبراً على ورق أو سياسة يُعلن تطبيقها، ثم يجري إلغاؤها من دون إعلان عن أهداف التطبيق أو أسباب الإلغاء. ولذلك ظل ملايين المصريين يتعاملون معها باعتبارها "كلام جرائد" أي حبراً على ورق.
لكن الورق الذي طُبع عليه نص قانون 25 لعام 1942 وكذلك الخبر كانا أكثر من مجرد حبر على ورق. كان إلزاماً للدولة المصرية توفير كلفة التغذية الصحية لطلاب مراحل التعليم الأولية في ربوع البلاد. وهو ما أسفر عن تزويد وزارة المعارف العمومية (وزارة التعليم) الوجبات الغذائية للمدارس في جميع المحافظات. وقتها، كان السببان الرئيسان هما: تحفيز الصغار على الذهاب إلى المدارس ومساندة الأسر الفقيرة.
وبين أربعينيات القرن الماضي والعقد الثالث من الألفية الثالثة، تغيّر الكثير في مصر. لكن السببين الرئسين لتقديم وجبات غذائية لطلاب المدارس (سواء قُدّمت بالفعل أو لا) لم يتزحزحا، بل أضيف إليهما في الأعوام القليلة الماضية عامل بالغ الأهمية، ألا وهو محاربة السمنة والأنيميا والتقزم الشائعة بين طلاب المدارس.
عدد طلاب المدارس في مصر نحو 25.3 مليون تلميذ وتلميذه غالبيتهم في مدارس حكومية، إذ لا تزيد نسبة الطلاب في المدارس الخاصة على 11 في المئة. هذه الملايين الغفيرة ظلت أعواماً طويلة متأرجحة بين وجبة مدرسية تدوم شهراً ثم تختفي، أو بسكوت بتمر يتم توريده مرة بجودة عالية ومرات من دون جودة وأحياناً مصحوباً بنتائج كارثية، فتسمم أو نزلات معوية. هذه الملايين أيضاً، وغالبيتها تنتمي لأسر متواضعة الحال، بعضها لا يأكل إلا الوجبات مرتفعة السعرات عديمة الفوائد رخيصة الثمن، والبعض الآخر يتسرب من التعليم للانخراط في سوق العمل للمساهمة في شراء الغذاء، والغالبية تظن أنها بخير لكنها ليست كذلك.
أنيميا وتقزم وسمنة
المبادرة التي أطلقتها مصر عام (2018-2019) لرصد السمنة والأنيميا والتقزم بين طلاب المدارس ضمن حملة "100 مليون صحة" الرئاسية أثبتت أن الأمور ليست على ما يرام. وزارة الصحة والسكان بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني أعلنتا قبل أيام أن الكشف على طلاب مدارس مصر الابتدائية من المصريين وغير المصريين أسفر عما يزيد على ثمانية ملايين طالب مصابين بالأنيميا، ونحو مليون و297 ألفاً يعانون التقزم وما يزيد على ثلاثة ملايين يعانون السمنة. وزيرة الصحة والسكان هالة زايد قالت إن الطلاب المصابين بهذه الأمراض يخضعون للعلاج بالمجان عبر 225 عيادة تأمين صحي.
وحيث إن العلاج وحده لا يكفي لضمان جيل خالٍ من الأمراض المتعلقة بالغذاء، ولأن قاعدة بيانات علمية وبحثية عن الحالة الصحية لطلاب مدارس مصر الابتدائية توافرت للمرة الأولى في تاريخ البلاد، فإن خير وسيلة للعلاج هي الوقاية بالوجبات المغذية. ولأن ضمان حصول ملايين الطلاب على وجبات مغذية وليست مسمنة أو مشبعة فقط لا يتوافر لدى الكثير من العائلات، كان قرار فتح ملف الوجبات المدرسية من دون حبر أو ورق، ولكن بكثير من البروتين والألياف والفيتامينات، وبعض النشويات والدهون الصحية وقليل من السكريات.
وداعاً للشوكولاتة والمربى
السكريات الكثيرة والدهون المشبعة التي يقبل عليها طلاب المدارس من دون ضابط من الأهل أو رابط من الوعي والمعرفة تنتظر ما ستسفر عنه خطة التغذية المدرسية الكبيرة والطموحة الجاري وضع معالمها الأخيرة حالياً. الشوكولاتة والمربى والبطاطا والذرة المقرمشة والحلوى المصنعة صديقة كل طالب مدرسي في مصر. ويندر ألا تجد كشك حلويات على مرمى حجر أو أقل من غالبية المدارس، بما في ذلك المدارس الموجودة في القرى حيث محتويات الأكشاك تتحدث عن نفسها.
وكذلك محتويات حقائب الطلاب تتحدث عن نفسها. المحتويات الغذائية تكاد تكون مستنسخة. إنها الوجبات الفارغة من حيث الفائدة الملغمة بسعرات ومكونات لا تحمل سوى أضراراً. بطاطا مقرمشة وذرة مقرمشة وشوكولاتة وبسكويت وحلوى وفقط. وعلى الرغم من المليارات التي تتكبدها موازنة الدولة كل عام تحت بند "كلفة الوجبات المدرسية"، إلا أن صحة الصغار لا تعكس هذه المليارات. وزارة التربية والتعليم تقول إنها توفر في كل عام 170 مليون وجبة بسكويت و250 مليون وجبة مدرسية ممثلة في فطائر وبسكويت "بالعجوة" (التمر)، يؤمّنها المشروع الخدمي للتغذية المدرسية في وزارة الزراعة المصرية والحاصلة على موافقة "الهيئة القومية لسلامة الغذاء".
سلامة الغذاء
سلامة الغذاء، تحديداً الوجبات المقدمة للصغار في المدارس، تظل شوكة في حلق الأهل والمسؤولين والدولة. فبين جودة المنتج، وسلامة التغليف والتخزين والنقل، وأرشيف حوادث التسمم والنزلات المعوية تدور أحاديث عدة في الشارع المصري.
البعض يتخوف من تكرار حوادث التسمم، والآخر يتشكك في محتوى الوجبات التي أُعلن عنها قبل أيام، وفريق ثالث يلازم موقعه حيث التنكيت وتحويل كل همسة وكلمة وخطة إلى مادة للدعابة والسخرية. لكن هذه المرة، لم تجد السخرية منفذاً مناسباً بعد. فملايين الأسر المصرية تنتظر الوجبة المدرسية لأبنائها وبناتها بفارغ الصبر. كما أن المطالب الشعبية التي جرى توجيهها للحكام على مدار ما يزيد على نصف قرن تمثلت في تقديم رعاية صحية أفضل ومستوى تعليمي أعلى ومحاربة الفقر بطريقة مستدامة، لا سيما في المجتمعات والمدن والقرى المنسية.
لذلك جاء افتتاح "المدينة الغذائية" في منطقة الصناعات في مدينة السادات (شمال مصر وتابعة لمحافظة المنوفية) والإعلان عن قيامها بتنفيذ برنامج التغذية المدرسية الذي يستهدف 13.2 مليون طالب مدرسي في مصر تفعيلاً لكلام ظل حبراً على ورق وبعيداً من التخطيط والتدبير لأعوام.
جيل من الأصحاء
وزير التربية والتعليم طارق شوقي قال إن برنامج التغذية المدرسية تقدمه الوزارة منذ أعوام بهدف إعداد جيل من الأصحاء مع تقليل هامش الأمراض التي تمثل ضغطاً على النظام الصحي، كما أنه يضع في الحسبان نتيجة الكشف على 25 مليون طالب مدرسي ونسب السمنة والتقزم وفقر الدم التي رُصدت ووُثّقت لبناء البرنامج على أساسها، وتصنيف الوجبات ومكوناتها بحسب المحافظات وأوضاعها الصحية والاجتماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشار إلى أن برنامج التغذية المدرسية الجديد يُعدّ أحد أدوات الحماية الاجتماعية وضمان نظام تعليمي فاعل من حيث الاستيعاب وتقليص نسب التسرب لأسباب تتعلق بالفقر أو عدم القدرة على التحصيل أو كليهما.
ولأن حالة الطالب المدرسي في القاهرة أو الإسكندرية تختلف عن زميله في مرسى مطروح أو شمال سيناء أو سوهاج، فإن مكونات الوجبات المدرسية في نظام التغذية الجديد ستحوي نحو 400 سعرة حرارية ولكن ستختلف المكونات من محافظة إلى أخرى، وربما في داخل المحافظة الواحدة من منطقة إلى أخرى، بحسب قاعدة المؤشرات والإحصاءات الصحية والاقتصادية والاجتماعية التي تم بناؤها في خلال الأعوام السبعة الماضية.
وجبة "شيك"
منسق المبادرة الرئاسية للقضاء على أمراض سوء التغذية تامر سمير، قال في تصريحات صحافية إن "الرئيس المصري مهتم بتسلّم التلاميذ وجبة شيك تفتح نفسهم". وإضافة إلى فتح النفس و"شياكة" الوجبة، ستكون الأولوية للمحافظات التي يعاني طلابها سوء التغذية. فمثلاً، كما أوضح سمير، "الوجبة المدرسية المقدمة في محافظات البحر الأحمر والوادي الجديد وأسيوط ستحوي معدلات من الحديد قادرة على محاربة سوء التغذية المرتفع بين الطلاب. وفي محافظات مثل مرسى مطروح حيث رُصدت نسب تقزم أعلى من بقية المحافظات، سيُصار إلى إعداد الوجبات بمحتوى يراعي ذلك. وفي محافظات ترتفع فيها نسبة السمنة بين الطلاب مثل القاهرة والإسكندرية ودمياط، ستُجهز الوجبات لتراعي زيادة الوزن".
زيادة الوعي وشرح الفكرة من التغذية المدرسية والغرض منها للمستفيدين لا تقل أهمية عن البرنامج نفسه. ولذلك، فإن حملات توعية إعلامية عدة قيد التحضير لإطلاقها بغية الوصول إلى كل بيت مصري لديه أبناء وبنات في المدارس، لا سيما الحكومية منها.
منظومة الدعم
الحكومة المصرية كغيرها مثقلة بمسؤوليات إطعام وتعليم وعلاج الملايين ومن يستجد غيرهم من ملايين إضافية. مسؤولة بالفطرة منذ نشأة منظومة الدعم الغذائي والتعليمي والصحي عن الغالبية، إضافة إلى أن نحو 2.5 مليون تُضخّ كل عام ما زالت سارية. وبرامج تنظيم الأسرة وإقناع القاعدة العريضة بأن "أسرة صغيرة تساوي مستقبلاً أفضل" وأن "عيلين (طفلان) كفاية" جانبها النجاح. ونسبة غير قليلة من المصريين واقعة تحت تأثير إما فتاوى متطرفة تفيد بأن تنظيم الأسرة حرام، أو معتقدات قوامها أن "العيال عزوة" وأن "العيل بييجي برزقه". لذلك، باتت مواجهة القنبلة السكانية وما نجم عن تفجرها من آثار سلبية أبرزها انتشار عدد من أمراض سوء التغذية بين الصغار، واستمرار التسرب من المدارس ليتم الزج بالصغار في سوق العمل لدعم أسرة كبيرة العدد، حتمية.
حتمية المواجهة
حتمية المواجهة تشير إلى أن واحداً زائد واحد يساوي اثنين. استمرار دعم رغيف الخبز والإبقاء على سعره خمسة قروش منذ ما يزيد على 33 عاماً مع إهدار جزء غير قليل منه كعلف للبهائم ورواج فكرة استبداله من قبل المستحقين بصابون وزيت وسكر أصبح في حكم المستحيل. ولذلك فإن عملية الإحلال والتبديل التي يطرق بابها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حالياً تهدف إلى علاج الجذور بديلاً من مداواة الأفرع. قال السيسي قبل أيام إن الوجبة المدرسية الواحدة تتكلف سبعة جنيهات (نحو 45 سنتاً أميركياً)، وأنه سيجري توفير المخصصات المالية اللازمة عن طريق "خصم الفلوس (الأموال) من الوزارات". لكنه ربط كذلك "اقترابه" من رغيف العيش المدعم بخطة تحسين التغذية المدرسية، مضيفاً "أننا في بلد يحترم مواطنيه ويحافظ على مصالحهم، بالتالي لا يجوز أن أبيع رغيف العيش بعملة غير معروفة لأبنائنا ’5 صاغ‘".
الخمسة صاغ أو القروش الخمسة بالفعل غير معروفة لدى الغالبية المطلقة من أطفال المدارس المستحقين للتغذية المدرسية، سواء كانت مزوّدة بالحديد لعلاج الأنيميا أو مليئة بالألياف لمواجهة السمنة. عملتهم الدنيا هي الجنيه وربما نصفه. وجدير بالذكر أن أقل سعر لـ"كيس التشيبس" (البطاطا المقرمشة) الملازمة لأيدي الصغار هو جنيهان (0.1 دولار أميركي).
من جهة أخرى، فإن الفرصة الذهبية لم تفُت على المرابطين على الجانب الآخر حيث منصات جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم، لدرجة قول بعضهم إنه سيجري حشو "العجوة" (التمر) بعقاقير تمنع الإنجاب أو تسبب الأمراض أو تؤدي إلى التخلف أو كل ما سبق.