لبنان هو السابق، والعراق هو اللاحق في مدرسة السياسة المذهبية. وليس قليلاً ما بينهما من نقاط تشابه، وخصوصاً بعد الغزو الأميركي لبلاد الرافدين. فما حاولته أميركا بعد الغزو هو بناء عراق جديد بحجارة مذهبية قديمة تجيد إيران هندستها أكثر من واشنطن. وما حاولته في لبنان هو التغيير ضمن مشروع "الشرق الأوسط الواسع" الذي عملت له كوندوليزا رايس، ووظفت حرب إسرائيل على "حزب الله" فيه، ففشلت، وتقدم المشروع الإيراني في الوطن الصغير. اليوم يضغط ملالي طهران بالسياسة وبصواريخ الميليشيات العراقية التابعة للحرس الثوري على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وأميركا من أجل انسحاب كامل للقوات الأميركية من العراق. ويعود الكاظمي من البيت الأبيض معلناً عن "تفاهمات اقتصادية وسياسية وثقافية" ضمن الحوار الاستراتيجي، كما عن "نقل العلاقة الأمنية إلى التدريب والمشورة وعدم وجود قوات قتالية في نهاية العام الحالي"، فترد الميليشيات بالكاتيوشا على السفارة الأميركية، وترى في الاتفاق مجرد "تلاعب في الألفاظ". وبالمقابل في لبنان، يعترض "محور الممانعة" على الدعم الأميركي للجيش اللبناني، ويترك البلد بلا حكومة من أجل ألعاب محلية بين رئاستي الجمهورية والحكومة، وكورقة في المفاوضات النووية بين أميركا وإيران. لا، بل يدفع البلد أكثر فأكثر داخل المشروع الإيراني في غياب الدور العربي.
وكما اندفع الجيل العراقي الجديد في حراك أكتوبر ضد التركيبة الحاكمة والهيمنة الإيرانية والمطالبة بالتغيير، اندفع الجيل اللبناني الجديد في حراك أكتوبر ضد كل التركيبة السياسية في السلطة وخارجها. الكاظمي لاقى الحراك في نقاط، وعجز عن ملاقاته في نقاط أخرى، لكن الرهان بقي على الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في الخريف المقبل. والفراغ في بيروت واجه مطالب التغيير، فازداد الانهيار الاقتصادي والمالي والسياسي بمقدار ما صار "حزب الله" ممسكاً بمفاتيح السلطة في رئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة. أميركا والدول العربية دعت إلى حكومة من دون "حزب الله" تفتح باب الإنقاذ بمفتاح الإصلاح، لكن إدارة الرئيس جو بايدن بدت كأنها مشغولة بأمور أكبر من الشرق الأوسط هي اللعبة مع الصين وروسيا. ولا شيء يوحي بأنها أخذت بالرأي الذي قدمه الدكتور هنري كيسينجر، وهو أنه "يجب التركيز على الأهمية الجيواستراتيجية للعراق، لأنه إذا تمكن الراديكاليون الشيعة من السيطرة على السنة والكرد بالتحالف مع إيران، فسنشهد عملية تحول وجودي في المنطقة لها انعكاسات على السعودية والخليج ولبنان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن الرهان المحلي والعربي والدولي على الانتخابات النيابية في لبنان والعراق تعرض لصدمة في بغداد. قوى وازنة قررت الانسحاب من المشاركة في الانتخابات: الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذي كان يخطط للحصول على الأكثرية، و"حركة المنبر العراقي" بزعامة إياد علاوي، و"جبهة الحوار الوطني" بزعامة صالح المطلك، و"التجمع الجمهوري العراقي" بزعامة سعد عاصم الجنابي، و"الحزب الشيوعي"، وائل عبداللطيف، وثوار أكتوبر. والسبب هو المناخ غير الملائم لانتخابات نزيهة في ظل فوضى السلاح والميليشيات وهيمنة "قوى ما قبل الدولة". وهذا السبب قائم في لبنان أيضاً، حيث الفوضى، وهيمنة "حزب الله" وسلاحه، لكن الخيار مختلف. القوى العراقية اختارت الانسحاب. والقوى اللبنانية الحالمة بالتغيير اختارت تركيز كل الجهود على النجاح في الانتخابات المفترضة في ربيع العام المقبل. فأي الموقفين هو الأصح؟ الانسحاب وترك الساحة للقوى المشكو منها بحجة أنها ستعمد إلى النجاح بالتزوير أم مواجهة الأحزاب المهيمنة والمسؤولة عن الأزمات العميقة في البلد بتيارات واعدة جديدة؟
الجواب ليس بسيطاً كما يبدو، ولا من نوع أسود وأبيض. فلا نتائج مضمونة. ولا فوز مرشحي "النقابة تنتفض" على كل الأحزاب في انتخابات نقابة المهندسين في لبنان هو مقياس مسبق. فالفارق كبير بين انتخابات في نقابة النخبة وبين انتخابات نيابية تلعب فيها العصبيات الطائفية والمذهبية والأموال دوراً كبيراً. والمواجهة في العراق ولبنان ليست مجرد مواجهة انتخابية، بل مواجهة مع قوى مصممة على مشروعها الإقليمي ومستعدة من أجله لاستخدام كل الأسلحة.