إذا كان من الوفاء وعرفان الجميل استذكار رواد نهضتنا الحديثة واستعادة مآثرهم وإنجازاتهم الحضارية التي أرست اللبنات الأولى لحداثتنا المعاصرة، فإن المعلم بطرس البستاني الذي تصادف هذا العام المئوية الثانية لولادته، هو أول من يستحق هذا الاستذكار وأكثر من يستحق لقب الريادة بين جميع رواد نهضتنا العربية الحديثة، لما قام به من إنجازات ثقافية وعلمية وحضارية ميزت بطابعها فكر النصف الثاني من القرن التاسع عشر وثقافته، ما جعل المستشرق الروسي ز.ل.ليفين يعتبره بحق "أبا التنوير العربي" ومارون عبود يصفه بـ"الفرد الذي قام بأعمال تعجز عنها الجماعات" وتقول فيه "المقتطف": "إذا أعملنا النظر في الأعمال التي اصطنعها هذا الرجل، لفاقت أعماله أعمال ثلاثة رجال من فضلاء الناس بعيدي الهمة، ماضي العزيمة، غزيري العلم والمعار".
بالفعل كان البستاني رائداً في أكثر من مجال من مجالات الوطنية والمعرفة واللغة والتقدم الاجتماعي، حتى أن أديب إسحق قال في رثائه: "أي أثر أدبي لم تكن أنت البادئ به أو الداعي إليه، وأي مشروع مفيد لم تكن أنت الشارع فيه أو المعين عليه؟ "فالبستاني" هو الذي أنشأ أول جريدة عربية غير رسمية بين قراء العربية "كما جاء في تراجم مشاهير الشرق لجرجي زيدان. ويعتبر ناصيف نصّار هذه الجريدة التي صدرت في العام 1860 تحت عنوان "نفير سورية" أول وثيقة مهمة للفكر القومي في تاريخ الشرق الأدنى الحديث. والبستاني هو "أول من تكلم باعتزاز عن دمه العربي" كما يقول ألبرت حوراني في "الفكر العربي في عصر النهضة" وأول من أسس مدرسة وطنية في العام 1863 وأول من أصدر مجلة أدبية علمية في العام 1870 هي مجلة "الجنان". والمعلم بطرس البستاني بدأ وأنجز الجزء الأكبر من "دائرة المعارف" أول موسوعة عربية أوروبية الطراز، وأصدر قاموس "محيط المحيط" من أجل تسهيل دراسة اللغة العربية وتبسيطها، وإعطائها دوراً أساساً في النهضة والتمدن لأن لا تمدن، في رأيه، من دون لغة تسايره وتواكبه. لكن اللغة العربية التي هي "شامة في وجه اللغات" وإذا ما قيست بغيرها "كانت هي كالبحر وغيرها كالجدول" يصرف أهلها الذين رضعوها مع اللبن في تعلم أصولها أكثر مما يصرفون في اكتساب اللغات الأوروبية. ما عبّر عنه في مقدمة "محيط المحيط" بقوله إن جلّ اهتمامه "أن يرى أبناء وطنه يتقدمون في المعارف والآداب والتمدن تحت لغتهم الشريفة، وأن تكون وسائط ذلك متيسرة لخاصتهم وعامتهم على أتم ما يرام". ولعل هذا بالذات ما دفعه إلى اتباع هذا القاموس بآخر "قطر المحيط" هيّن المراس، سهل المأخذ "ليكون للطلبة مصباحاً، يكشف لهم عما أشكل من مفردات اللغة التي معرفتها نصف العلم".
هذه الإنجازات الرائدة تثوي وراءها نظرة فلسفية متماسكة ورؤية حضارية تنويرية. فقد طرح البستاني الفكر الليبرالي العلماني مخرجاً واقعياً وعصرياً لأزمة المجتمع العربي في مواجهة إشكالية التخلف والسلفية والتقهقر الحضاري، وجمع في شخصيته الفذة بين الحماسة لمدنية الغرب والاعتزاز باللغة العربية والتراث العربي، ووفّق بين العلمانية وبين الأيمان، فشكّل نموذجاً ساطعاً لشخصية حضارية عربية متميزة لا تتنكر للتراث فيما هي تندفع في الحداثة، ولا تنغلق وتتقوقع فيما هي تنكب على التراث والأصالة.
تجلّت ليبرالية البستاني بشكل خاص في عقيدته الوطنية والسياسية، فدعا إلى الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، ورأى أن المزج بين الأمور الدينية والأمور المدنية ضار بالناس والأديان. فالأديان يجب أن تكون بين العبد وخالقه أما المدنيات فهي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته. من دون هذا الفصل يستحيل "الانتظام في سلك الشعوب المتمدنة" وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان والمدنيات، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعاً.
وإذ هال البستاني ما حلّ بلبنان من المآسي والويلات إبان فتنة العام 1860 الطائفية، بادر إلى إصدار جريدته الأسبوعية "نفير سورية" التي صدر العدد الأول منها في العام 1860 وهي ذات صفحة واحدة تتضمن مقالاً واحداً كتبه البستاني بتوقيع "من محب للوطن". وفي هذه الجريدة تجلّى فكر البستاني الوطني والسياسي، فرأى أن من واجبات أبناء الوطن حبه. أما الذين يبدلون حب الوطن بالتعصب المذهبي ويضحون خير بلادهم لآجل غايات شخصية، فهؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الوطن وهم أعداء له. قال مدافعاً عن الوحدة الوطنية التي صدّعتها فتنة العام 1860: "يا أبناء الوطن إنكم تشربون ماء واحداً، وتتنسمون هواء واحداً، ولغتكم التي تتكلمون بها واحدة، وأرضكم التي تطأونها فهي واحدة، ولا بد أنكم ستستفيقون من هذه الغفلة وتدركون صالحكم العمومي".
ومارس البستاني فكره الليبرالي العلماني بإنشاء أول مدرسة وطنية على مبادئ الحرية والاحترام المذهبي المتبادل "أبوابها مفتوحة لجميع أبناء الوطن وغيرهم من كل جنس وطائفة وملة من دون تعرض لمذاهبهم الخصوصية... أهدافها تربية حاسيات محبة الوطن في قلوب تلامذتها، جاعلة الوطن مركزاً لحاسياتهم وعلة الضم بينهم". لكن محبة الوطن في ذهن البستاني غير ذات صلة بالاستقلال عن الأتراك والانفصال عن الخلافة، كما تصوّر محمد عابد الجابري، فبطرس البستاني كان يكتب كمواطن عثماني، وسورية التي كان يتوجه إليها لا تعني أكثر من وحدة إقليمية ضمن الإمبراطورية العثمانية المتعددة القوميات والإثنيات والطوائف، وقد كان الجمع بين الوطنية والعثمنة الطابع الغالب على فكر البستاني ومعاصريه الليبراليين مثل المراش والشدياق وإسحق وأنطون.
وإذ كان يعلم أن تخلف العرب إنما سببه الجهل، وأن السبيل الوحيد لنهوضهم هو جعلهم مواطنين في عالم العلم والاختراع الحديث، أكبّ البستاني على وضع "دائرة المعارف" وهي أول أنسكلوبيديا عربية أوروبية الطراز، لتكون في متناول الساعين إلى العلم والمعرفة، ولكي تقوم بسد الاحتياجات العلمية المتعددة، وقد أدت هذه الموسوعة دوراً مهماً في تاريخ الثقافة العربية.
انطلاقا من هذه الأفكار والتطلعات أسس بطرس البستاني مع ناصيف اليازجي في العام 1847 أول جمعية في العالم العربي الحديث هي جمعية الآداب والعلوم، كما يذكر جورج أنطونيوس. وفي هذه الجمعية بالذات ألقى البستاني في العام 1849"خطبة في تعليم النساء" فكان أول متنور عربي حضّ على تعليم المرأة وإشراكها في النهضة الحديثة. جاء في هذه الخطبة: "المرأة لم تخلق لكي تكون في العالم بمنزلة صنم يعبد أو أداة زينة تحفظ في البيت... إذ من المعلوم الذي لا يشوبه ريب أنه لا يمكن وجود العلم في عامة الرجال من دون وجوده في النساء... فالمرأة يجب أن تكون "عضواً يليق بجماعة متمدنة ".
وعلى الأسس والمبادئ ذاتها أصدر البستاني مجلة "الجنان" في العام 1870 فعكست على صفحاتها آراء وأفكار الأنتلجنسيا العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أدخل من خلالها مفهوم روح العصر التي هي مجموعة من القيم والمبادئ التي يجب أن تسترشد بها كل أمة، وروح عصر النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحددها مبادئ الحرية والمساواة والتقدم وسيطرة الحق والنظام والقانون. ولم يكن من المصادفة أن تستقطب "الجنان" التطلعات الجديدة الآخذة في التبلور، وأن تظهر في سنتها الأولى أول مقالة لأول كاتبة في الصحافة العربية هي مريانا مراش.
هكذا تكتمل الملامح المميزة لشخصية نهضوية فذة تستحق الاستذكار والتقدير في زمن الأصوليات والتعصب والهويات القاتلة. ففي دروس البستاني ما يزال ضرورياً لتجاوز المأزق الراهن في الفكر والسياسة، وما دعا إليه لا يزال مشروعاً للمستقبل، فقد برهن أنه بالإمكان الجمع بين الأصالة والحداثة، وبين العلم والإيمان، وهذا درس يجب أن نتأمل الآن في مغزاه.