اهتم الروائي والشاعر والمسرحي البريطاني جون غولوزرذي (1867-1933)، في عدد من مسرحياته، بمعالجة موضوعات المظالم الاجتماعية، المتعلقة بالأحكام القضائية المزدوجة التي تفرق بين الطبقات الغنية والفقيرة، منتصرة للأولى. ومن المسرحيات "الصندوق الفضي"، و"عدالة"، وهما من أكثر مسرحياته شهرة، والتي قادت إلى إصلاح أحوال السجون في إنجلترا. أما مسرحية "الأول والأخير" وغيرها من المسرحيات فانحازت إلى الطبقات الفقيرة والمهمشة، وأبرزت صراعات العمال مع الرأسماليين، ومنها "الحلم الصغير"، "شجرة التفاح"، "أغنية البجع"، "نوافذ"، "القرد الأبيض"، "القزم"، وتوج رحلته بالحصول على جائزة نوبل للآداب عام 1932، قبل رحيله بعام واحد.
قد تكون مسرحيته "الأول والأخير" واحدة من الأعمال اللافتة التي مرر فيها موقفه من فكرة العدالة المزدوجة، بشكل سلس، ومن دون شعارات أو عبارات رنانة، من خلال قصة اجتماعية أو قصة جريمة قتل ارتكبها شقيق محام ملكي ينتظر الترقية إلى سلك القضاء، وكيف عمل المحامي على إخراج شقيقه من القضية مثل "الشعرة من العجين" كما يقولون، ليتحمل وزرها متسول ضعيف، صودف مروره بجثة القتيل فعبث بملابسه للحصول على ما فيها من أموال.
"الأول والأخير" قدمها طلاب الدراسات العليا في المعهد العالي للفنون المسرحية، ترجمة عبد السلام إبراهيم، إخراج عماد صابر، إشراف أستاذ الإخراج في المعهد نبيل منيب.
ثلاث شخصيات
ثلاث شخصيات تضمها المسرحية، كيث المحامي الملكي، لاري شقيق المحامي، واندا عشيقة لاري. يفاجأ لاري أثناء وجوده مع عشيقته بهجوم زوجها السابق- الذي لا نراه في المسرحية- فتحدث مشاجرة بينهما، يقوم لاري، على إثرها، بقتل غريمه خنقاً، ثم يلجأ إلى شقيقه المحامي، طالباً المساعدة للخروج من ورطته. يسعى هذا الشقيق إلى إخراجه من القضية، مستخدماً حيله كمحام متمرس، ليس من أجل الأخوة، ولكن من أجل شرف العائلة وعدم المساس بوضعه كمرشح للانضمام إلى السلك القضائي، ويطلب منه إخفاء بعض معالم الجريمة التي بحوزته، والمغادرة إلى الأرجنتين على متن إحدى السفن. لكن لاري، الذي صار معذباً بجريمته، يرفض المغادرة، ويصر على البقاء مع واندا، التي ترفض الابتعاد عنه غير عابئة بالتهديدات. ويتم اتهام أحد المتسولين بارتكاب الجريمة ويحكم عليه بالموت شنقاً. ولأن لاري صاحب ضمير يقظ، ولا يريد الظلم لهذا المتسول الضعيف، الذي قاده حظه العثر إلى مكان الجثة، فقد قرر الانتحار هو وعشيقته بعد أن ترك اعترافاً بأنه مرتكب الجريمة.
عنوان المسرحية، الذي اختير بحذق شديد، يحمل إدانة واضحة لهذا المجتمع الذي يمكن فيه للأغنياء ارتكاب ما شاؤوا من جرائم والإفلات من العقاب الذي يتحمله غيرهم، ممن لا حول لهم ولا قوة، حتى عندما يستيقظ ضمير أحد أبناء هذه الفئة فإن فئته ترفض اعترافه بالجريمة. وكأن لاري هنا هو الأول والأخير الذي يرفض الظلم، ويرفض أن يتحمل غيره من الضعفاء وزر جريمة ارتكبها هو. كأنها صرخة في وجه مجتمع ظالم لا يعترف سوى بمنطق القوة، ويصر على المضي في مسلكه هذا.
ذكاء الإخراج
مخرج العرض كان ذكياً في اختيار النص، فهو من ناحية، نص قصير نسبياً، يضم ثلاث شخصيات فقط، ما يسهل عليه التعامل معه كمخرج يقدم عرضه الإخراجي الأول. ومن ناحية أخرى يعالج قضية ما زالت قائمة، وربما ستظل، وبأشكال متعددة، بخاصة في المجتمعات التي لم تتخلص بعد من ميراث ثقيل يتعلق بغياب العدالة، وسيادة منطق القوة، وسحق الضعفاء والمهمشين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العرض جاء في منظرين، الأول في بيت كيث المحامي، والآخر في بيت واندا العشيقة، وتعامل المخرج مع ممثليه الثلاثة بحسابات دقيقة، سواء من حيث خطوط الحركة، التي جاءت مرسومة بعناية، أو تسكين كل منهم في دوره من حيث طبيعة التكوين الجسماني. أو من حيث طرق الأداء، التي جمعت بين العنف والقسوة والرقة واللين، بحسب طبيعة الموقف، من دون انفعالات زائدة، أو رغبة في الاستحواذ على " النجومية"، فجاء العرض منضبطاً، ومفصحاً عن موهبة إخراجية، مدعومة بالدراسة الأكاديمية، يمكنها الإضافة إلى الحركة المسرحية المصرية.
اختيارات جديدة
لعب دور كيث المحامي محمود البيطار، الذي ساعده تكوينه الجسماني المائل إلى الضخامة في أداء دور المحامي الساعي إلى تحقيق مصالحه ولو على حساب شخص آخر ضعيف. وكان واعياً لطبيعة الشخصية التي يلعبها ومقنعاً في أدائه لها، كشخص قاس وعنيف لا قلب له، وغير منشغل سوى بذاته ووضع طبقته الاجتماعية. وكذلك أبانوب لطيف، الذي لعب دور لاري شقيق المحامي، الشاب العاشق المحب، الكاره للظلم، والرافض أن يتحمل غيره وزر جريمته. وعلى رغم ما يبدو عليه من استهتار وميل إلى الشراب، فإنه، في لحظة استنارة ما، يستعيد طبيعته كإنسان سوي. وقد أدى دوره بنعومة وهدوء، ظهر ذلك بشكل واضح بخاصة في المشهد الراقص الأخير الذي أداه مع عشيقته، وكأنها بالفعل الرقصة الأخيرة لعاشقين في طريقهما إلى مغادرة الحياة. وهو ما توافقت معه مونيكا هاني، التي لعبت دور واندا العشيقة الضعيفة المطاردة من رجل قاس تلقفها منذ صباها وسبب لها من المتاعب ما لا تحتمله، ووجدت في لاري الحضن الدافئ الذي يقيها برودة العالم الذي تتخبط فيه، واختارت أن تغادره بصحبة هذا الحبيب، ليكونا معاً دائماً.
العرض الذي لم يستغرق أكثر من أربعين دقيقة، جاء منضبطاً ومحكماً، وعلى قدر عال من التكثيف، وباعثاً على التأمل في مصائر البشر الذين تمضي حياتهم- بحسب العرض- كضباب يظهر قليلاً ثم يضمحل.