تختصر كلمة البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي حال الأزمة اللبنانية عندما قال، الأحد 18 يوليو (تموز) الحالي، "لبنان بحاجة إلى أعجوبة". فبعد اعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري، دخلت البلاد مرحلة جديدة من الصعب القول إنها ستكون أفضل من الأشهر التسعة التي استغرقها التأليف، وصولاً إلى الاعتذار. فانسحاب الحريري من المشهد الحكومي لم يسهل المشكلة بل عقّدها بحيث عادت الأزمة السياسية إلى نقطة الصفر، بمجرد استحالة إيجاد بديل ربما يُصنّف فدائياً في ظل التداعيات الطائفية التي خلّفها اعتذار الحريري، فضلاً عن الواقع الاقتصادي والمالي للبلد المتجه إلى الانحدار وسط غياب الضمانات الدولية والعربية لمساعدات تتخطى الغذائية والطبية والإنسانية.
وعلى الرغم من أن الدستور يلزم رئيس الجمهورية الدعوة إلى استشارات نيابية لتسمية رئيس مكلف جديد، إلا أن موعد الاستشارات لم يحدد، وتستبعد مصادر سياسية احتمال تعيين موعد لها بعد عيد الأضحى، مرجّحة أن تكون فترة الانتظار طويلة، لأن الاتفاق على البديل لم ينضج بعد ودونه عقبات كثيرة، لا سيما مع تمنّع الحريري ورؤساء الحكومات السابقين تسهيل المهمة وتسمية مرشح سنّي للمنصب.
في المقابل، تنشط دوائر القصر الجمهوري بحثاً عن البديل، متسلحة بالإصرار الدولي على أولوية تشكيل حكومة لتقديم المساعدة، علماً أن السيناريو الأقرب إلى الواقع لا يزال باستمرار حكومة تصريف الأعمال حتى موعد الانتخابات النيابية في مارس (آذار) 2022.
القصر الجمهوري يبحث عن مكلف مقبول في بيئته
في بعبدا، لم تتظهر بعد صورة البديل عن الحريري. وتعترف مصادر مقربة من رئيس الجمهورية ميشال عون أن القرار ليس سهلاً لكنه ليس صعباً. وتصف المصادر الخطوة بالحساسة والدقيقة، لا سيما أن الخلف يجب أن يكون قادراً على تأليف حكومة بسرعة لمواجهة التحديات والأزمات التي تواجه البلد والمواطنين والأزمة الخانقة النادرة بشدّتها على الشعب اللبناني الذي لم يعتَد على انفجار الأزمات بوجهه دفعة واحدة، منها ما هو من غدر الزمان على حد وصف مصادر بعبدا، ومنها ما هو موروث ومتفاقم.
ولكن، لماذا لم تحدد بعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلف جديد طالما الأزمة تحتاج إلى سرعة معالجة؟ تنفي المصادر المقربة من رئاسة الجمهورية أن يكون سبب تمهّل عون عائداً إلى إصراره على التأليف قبل التكليف. وتؤكد أن رئيس الجمهورية ترك كما دائماً مجالاً للمشاورات بين الكتل النيابية والأحزاب لتسهيل عملية التكليف، تمهيداً للتوصل إلى أكثرية ملحوظة حول اسم معين، لا سيما أننا في أجواء حكومة إنقاذ، بالتالي يجب أن يحظى الرئيس المكلف بتوافق وطني بالحدّ الأدنى للتمكن من القيام بمهمة الإنقاذ. وتذكر المصادر أن الحريري بما يمثل حصل في الاستشارات النيابية على أكثرية عادية بلغت 65 صوتاً، وعلى الرغم من ذلك، استغرقت مهمته 9 أشهر ولم يتمكن من التأليف. بالتالي، لا ضير من تأخير الاستشارات لبعض الوقت كي تكون مجدية. صحيح أن البديل لم تتظهر صورته بعد، لكن دوائر القصر الجمهوري حددت مواصفاته الأساسية، التي تبدأ بأن يكون مقبولاً في بيئته وأن يؤلف حكومة، مع إصرار عون وفق مصادر القصر على أن لا تكون حكومة تحدٍّ أو حكومة اللون الواحد، بل حكومة كما وصفها الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون في قصر الصنوبر، أي حكومة تأتي نتيجة تشاور وطني عريض. والتشاور الوطني العريض لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يدعو إليه، بل هذا دور الأحزاب، وهو ما ينتظره عون تمهيداً لتحديد الاستشارات. ولا تبدو المهلة الزمنية الفاصلة بين الاعتذار والاستشارات الجديدة للتكليف قصيرة، وإن كانت دوائر القصر الجمهوري تأمل ذلك، معتبرة أن حكومة تصريف الأعمال أُنهكت ولن تستطيع النهوض بخطط إنقاذ بالمعنى العملي أو المعنى القوي للكلمة. وتعترف المصادر أنه لا يمكن استبدال اعتذار الحريري بحكومة حسان دياب.
لا صدمة سنية؟
تستبعد مصادر رئيس الجمهورية أن تكون الطائفة السنية في حال صدمة بعد اعتذار الحريري، وتحيلنا إلى صمت دار الفتوى والمجلس الإسلامي الشرعي، وتسأل مصادر بعبدا أين هي الصدمة السنية التي تتحدثون عنها في شوارع بيروت وصيدا وقطع الطرقات والاشتباكات مع الجيش. وكلها، بحسب مصادر بعبدا، نتيجة الوجع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي. وتكشف المصادر المقربة من عون عن عدد كبير من الاتصالات يتلقّاها مستشاروه من مرشحين لرئاسة الحكومة ومن "كبارهم"، ومع الجهات الفاعلة على الساحة اللبنانية أيضاً، ومنهم من السنّة الطامحين والوازنين في المعادلة. ولا تنكر مصادر بعبدا أن يكون الحريري الأقوى في طائفته، لكنها تستبعد أن يكون الأوحد، متسائلة هل بعد انتهاء عهد رئيس الجمهورية ميشال عون، وهو الأقوى في بيئته، سيعتبر المسيحيون أنفسهم منتكسين في ظل التنوع المسيحي الموجود؟
وتؤكد مصادر بعبدا أن لا تردد سنّياً في تولّي مهمة التكليف بعد الحريري، باستثناء ربما في صفوف رؤساء الحكومات السابقين. وقد تكون لبعض الشخصيات إشكاليات محددة، لكنها غير مترددة. وتعطي المصادر مثالاً على ذلك، سائلة مَن قال إن نواف سلام ربما يتردد في قبول مهمة التكليف إذا طلبت منه، لكن مشكلته هي أن "حزب الله" لن يقبل به، علماً أن القرار الإقليمي وازن في عملية التكليف. وهذا ما كان واضحاً في قرار اعتذار الحريري.
في مقلب السنّة
في المقلب الآخر، يتمسك الحريري ومعه رؤساء الحكومات السابقون بقرار عدم تسمية أي مرشح سني لتولّي مهمة التكليف. وسيكون صعباً على أي مرشح سني من المقربين من "التيار الوطني الحر" أو "حزب الله" القبول بمهمة التكليف التي أقل ما يمكن القول عنها إنها ستكون محرقة له، لا سيما إذا ما غابت الضمانات الدولية والعربية والداخلية، وإذا ما بقي أداء رئيس الجمهورية وتياره السياسي على حاله في فرض الشروط حول الأسماء والحقائب والحصص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتكشف مصادر مقربة من نادي رؤساء الحكومات السابقين عن اجتماع سيحصل خلال الأيام القليلة المقبلة للاتفاق على موقف واحد وعلى الخطوة المستقبلية، علماً أن القرار بحسب المعلومات لن يكون من دون تنسيق وتشاور مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. وتكشف المصادر عن أن بري يعتبر أن فترة غضب الحريري ورؤساء الحكومات السابقين ستمرّ وفي النهاية سيكون هناك قرار واحد.
من وجهة نظر الحريري ورؤساء الحكومات السابقين، فإن تسهيل مهمة التكليف يعني مكافأة رئيس الجمهورية على ضرب الطائف ونقض الدستور والتسليم بصلاحيات الرئيس المكلف السني. الرأي الغالب حتى الآن في صفوف رؤساء الحكومات السابقين هو الذهاب في اللعبة الديمقراطية حتى الأخير، وترك عون و"التيار الوطني الحر" و"حزب الله" يشكلون حكومة من لون واحد، لن تتمكّن من الحصول على المساعدات الدولية والعربية.
من هو البديل؟
على الرغم من تأكيد أكثر من مصدر صعوبة الاتفاق على بديل، وأن الأرجحية ستكون لبقاء حكومة دياب حتى موعد الانتخابات النيابية أو حتى نهاية العهد الحالي، نشطت بورصة الأسماء المتداولة لتولّي رئاسة الحكومة، فاسم الرئيس نجيب ميقاتي الذي كان الأكثر جدّية لترؤس حكومة ستحضّر للانتخابات النيابية وتضع إصلاحات بالحد الأدنى للتمكّن من البدء بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، استُبعد بعد رفض ميقاتي المهمة لقناعته بأن ما اعترض الحريري مع عون من عُقَد لن يتبدل، فضلاً عن اشتراط ميقاتي تولّي حكومة ما بعد الانتخابات، وهو ما نفته مصادره، مؤكدة أنه رفض مهمة التكليف منذ أن عُرضت عليه ولم يشترط شيئاً مقابل القبول بها.
وتكشف مصادر مقربة من السفير مصطفى أديب عن أنه تلقّى اتصالاً من رئيس الجمهورية يطلب منه القبول بترشيحه خلفاً للحريري، لكن أديب رفض للأسباب ذاتها التي جعلته يعتذر بعد أيام قليلة على تكليفه في المرة الأولى.
وتتحدث مصادر سياسية عن التداول بأسماء عدة في كواليس المشاورات غير الملزمة، ربما يكون بعضها بهدف الحرق وبعضها الآخر لجسّ النبض في شأنها. ومن بين الأسماء المقترحة، رئيس لجنة الرقابة على المصارف سابقاً سمير حمود، ونائب حاكم مصرف لبنان سابقاً محمد بعاصيري، وصاحب مؤسسة الدولية للمعلومات جواد عدرة، زوج نائب رئيس مجلس الوزراء ووزيرة الدفاع ووزيرة الخارجية زينة عكر، على اعتبار أنها يمكن أن تستخدم شبكة العلاقات الدبلوماسية في سبيل إقناع الدول الفاعلة بخيار زوجها.