في وقت تعصف فيه أزمة اقتصادية ومالية بتونس شلت جلّ القطاعات فيها، وأثرت على مجمل مؤشراتها الحيوية، تتخبط البلاد في موجة صراعات سياسية وارتفاع في منسوب العنف وتنامي الاحتجاجات الاجتماعية. وفي ظل هذا المناخ القاتم الذي أرهق عموم التونسيين، انطلقت سلسلة احتجاجات، زادت صعوبة عملية الاصلاح الهادفة إلى انقاذ البلاد. في الوقت ذاته، استفادت قطاعات أخرى بشكل لافت من الأزمة الاقتصادية التي عمقتها تداعيات جائحة فيروس كورونا. ولا يخفى على أحد، في ظل المشهد الاقتصادي المتأزم، أضحى القطاع المصرفي تحت مجهر التونسيين بسبب مراكمته لأرباح طائلة مقابل الخسائر الجمة التي تعترض الشركات والصعوبات التي يواجهها عموم التونسيين في النفاذ إلى القروض المصرفية. وعانت تونس من انكماش اقتصادي غير مسبوق بلغ 8.8 في المئة في 2020، ونسبة بطالة بلغت 17.4 في المئة، علاوة على إغلاق مئات الشركات وفقدان مئات الآلاف من العمال أعمالهم. وبحسب مؤشرات البنك المركزي التونسي، تمكن 16 بنكاً تونسياً من تحقيق أرباح بقيمة في حدود 547 مليون دولار في عام 2019، و178 مليون دولار في النصف الأول من العام الماضي.
توزيع الأرباح
وأصدر المركزي التونسي في مطلع عام 2021، مذكرة موجهة إلى البنوك والمؤسسات المالية للسماح لهم بتوزيع الأرباح، عن عامَي 2019 و2020. ويُشترط عند توزيع الأرباح توفر متوسط للقدرة على الاستجابة للالتزامات وأموال ذاتية (بعد توزيع الأرباح) تتجاوز المستوى الأدنى القانوني المقدر بنسبة 2.5 في المئة على الأقل، وقيمة أرباح (التي سيتم إسنادها) لا تتجاوز 35 في المئة من الأرباح المحققة من قبل البنوك والمؤسسات المالية. وتبعاً لذلك، ستتمكن البنوك والمؤسسات المالية التونسية، التي تحقق متوسط قدرة للاستجابة للالتزامات وأموال ذاتية، بنسبة 12.5 في المئة و9.5 في المئة على التوالي، وحدها، من توزيع أرباح بحدود 35 في المئة من الأرباح المحققة لعامَي 2019 و2020 .
لا للاستغلال
وانتقد "مرصد رقابة" (منظمة مستقلة) أرباح البنوك في عام 2020، "التي لا ينبغي أن تبرر استغلالها لعملائها"، مؤكداً أن "مختلف البنوك التونسية تحاول منذ مدة تبرير الاقتطاع غير القانوني الذي فرضته على العملاء في أزمة تفشي فيروس كورونا مقابل أقساط القروض التي تم تأجيل سدادها بمقتضى قرارات الحكومة والبنك المركزي، مبررةً ذلك بأوضاعها الصعبة وتضررها هي الأخرى من الجائحة". "لكن الحقيقة ليست كذلك"، وفق المرصد الذي نشر جدولاً لمؤشرات الاستغلال والأرباح الصافية للسداسي الأول من عام 2020. وأوضح "مرصد رقابة" أن "البنوك لا تعاني أزمات مالية بسبب جائحة كورونا، سواء من جهة الأرباح الصافية أو الناتج البنكي الخام، أو نتائج الاستغلال. أما الفارق في الأرباح بين نتائج السداسي الأول من عام 2019 وذات الفترة من عام 2020، فمرده مساهمة البنوك في صندوق 1818 المخصص لإسناد وزارة الصحة في مكافحتها للجائحة، وتُقدَّر تلك المساهمات بـ41 مليون دولار. أما التراجعات الطفيفة الأخرى التي سُجلت، فمردها التأثير غير المباشر للجائحة الذي شمل كل القطاعات الاقتصادية في تونس، وليس البنوك وحدها، التي تظل بعيدة عن أي أزمات خانقة تبرر لجوءها بذلك الشكل الملتوي بدعم من البنك المركزي، إلى تحميل المواطنين أعباء إضافية مرهقة نتيجة قرار فضفاض لم يُستشاروا فيه". واعتبر مرصد رقابة أن "البنوك أخلّت بواجب التضامن مع التونسيين أثناء جائحة كورونا".
شروط مجحفة
ويعتبر عدد من التونسيين أن البنوك حققت أرباحاً بالمليارات في السنوات الأخيرة، وتشتري من الفوائد العالية التي تجبر المواطن البسيط على دفعها بما أنها لا تقبل إقراضه إلا بشروط مجحفة وفوائد مرتفعة وضمانات عدة. وأمام هذه الوضعية يتساءل التونسيون منذ فترة "إلى متى ستتواصل هذه المفارقات والإخلالات، بخاصة سياسة الكيل بمكيالين تجاه المواطنين والفوائد المجحفة التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من الأرباح تحققها البنوك، ومقدرة شرائية في تدهور مستمر وتفقير منتشر في أغلب الفئات والجهات، لا يبقي ولا يذر؟".
استنكار أعضاء البرلمان
وفي سياق الانتقاد المتواصل لسياسة البنوك التونسية، استنكر عدد من النواب أخيراً، تواصل سياسة الاقتراض، ونسب الفائدة المرتفعة المعتمدة في اتفاقية التمويل المبرمة بتاريخ 18 فبراير (شباط) 2021 بين الجمهورية التونسية ومجموعة بنوك محلية، لتمويل ميزانية الدولة بالعملات الأجنبية ومنها اليورو والدولار. وطالب النواب البنوك المحلية بمراعاة الوضعية الاقتصادية الحالية للدولة، وتمكينها من شروط ميسرة وليس لغاية ربحية بالأساس، مؤكدين على ضرورة أن تضطلع هذه البنوك بدور مهم كقاطرة للتنمية، وذلك من خلال تمويل المؤسسات الاقتصادية، وما ينجم عن ذلك من تحسن في نسبة النمو. ووافقت بنوك تونسية على إقراض الحكومة لتمويل ميزانية 2021، إذ تحتاج إلى حوالى 7.2 مليار دولار، لتمويل عجز هذا العام، منها خمسة مليارات دولار من القروض الأجنبية و2.2 مليار دولار من السوق المحلية. وتواجه تونس مصاعب اقتصادية غير مسبوقة، إذ بلغ العجز المالي 11.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، وهو أعلى مستوى في قرابة أربع عقود. وتستهدف ميزانية 2021 خفض العجز المالي إلى 6.6 في المئة.
آلية متعامل بها
من جهته، يقر وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، علي الكعلي أن الحكومات المتعاقبة منذ عام 2017 تتعامل عبر الاقتراض من البنوك المحلية لتعبئة الموارد المالية، فقد اقترضت الدولة من المؤسسات المالية المحلية 5 مرات. وسبق للحكومة أن لجأت إلى الاقتراض من البنوك التونسية لتمويل الميزانية، باعتبار أن الفصل 25 من النظام الأساسي للبنك المركزي يمنعها من الاقتراض منه لسد احتياجاتها المالية. واستعرض الكعلي بالمؤشرات، أن الحكومة حصلت في مايو (أيار) 2020 على قرض بـ257 مليون يورو ( 313.6 مليون دولار ) بنسبة فائدة 2 في المئة و130 مليون دولار بـ2.75 في المئة على مدة 3 سنوات، مستدركاً بالقول "إلا أننا حالياً حصلنا على 259 مليون يورو بنسبة فائدة 2 في المئة، وطلبنا 150 مليون دولار بنسبة فائدة تبلغ 2.75 في المئة على مدة سداد 5 سنوات".
أمر غير منطقي
وصرح معز الجودي رئيس "الجمعية التونسية للحوكمة" أنه "من غير المنطقي أن تتوجه الدولة إلى البنوك للاقتراض بالعملة الأجنبية"، واصفاً المسألة بـ "البدعة التونسية". واعتبر أن "هناك ودائع للمستثمرين وللمغتربين بالعملة الصعبة تحاول الدولة الحصول عليها في شكل قروض من البنوك وبنسب فائدة تبدو مرتفعة". وقال الجودي إن "العادة في السابق، كانت أن تصدر الدولة سندات بشكل رقاع الخزينة للحصول على التمويل بالدينار التونسي"، منتقداً "تكرار الاقتراض من البنوك بشكل متواتر لتمويل الميزانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعا معز الجودي البنك المركزي التونسي إلى "إقرار إجراءات استثنائية لفائدة الأشخاص المتضررين من مسألة الشيكات والصكوك جراء تفشي أزمة كورونا". وطالب أيضاً البنك المركزي وكافة البنوك "بإضفاء مرونة في ما يتعلق بهذه الشيكات والكمبيالات والتمديد في آجالها، مراعاة لظروف الأشخاص المتضررين جراء الأزمة الصحية الراهنة". وأكد على أنه "يمكن اعتماد آليات معينة لفائدة هؤلاء الأشخاص"، مشيراً إلى أن "الظرفية الاستثنائية التي تمر بها البلاد تتطلب تظافر كل الجهود من أجل تجاوز تداعيات الأزمة".
البنوك قامت بدورها
موقف محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي كان واضحاً في هذه المسألة، وقال في آخر ظهور إعلامي له خلال جلسة مساءلة في البرلمان، إن "القطاع البنكي ككل، وبخاصة البنوك العمومية، تحملت مسؤولياتها المالية والاجتماعية على أحسن وجه خلال انتشار فيروس كورونا، في حين لم تتفاعل بعض البنوك الأخرى بسبب سياسات المخاطر العالية التي حالت دون ذلك". ومضى العباسي بالقول إنه "على الرغم من الضغوطات المسلطة بسبب الظرف الاقتصادي وانعدام وضوح الرؤية على المدى القصير، فإن البنوك أجّلت أقساط القروض الممنوحة لنحو 20 ألف مؤسسة بقيمة ناهزت 1850 مليون دولار". وأشار إلى "تخصيص إجراءات الأخرى لمساعدة المؤسسات على مجابهة تداعيات الجائحة والحفاظ على الوظائف وديمومة نشاطها، من ضمنها إحداث خط تمويل استثنائي لمكافحة الأزمة، يُسدَد على مدى 7 سنوات منها سنتان إمهال، تبلغ قميته حوالي 25 في المئة من رقم أعمال المؤسسة، إضافة إلى خفض نسبة الفائدة المديرية بنسبة 50 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول) 2020". يذكر أن اقتراض الدولة من البنوك التونسية واجه انتقادات من خبراء اقتصاديين اعتبروا أن الدولة أصبحت تزاحم القطاعات المنتجة، حيث يفترض أن تعطي البنوك الأولوية لتمويل الاستثمار وتوجيه القروض نحو المشاريع الاستثمارية.