ماذا بعد؟
هذا هو السؤال الذي شغل الوسط السياسي اللبناني على إثر موقعة المواجهة السياسية الكلامية بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، حول المسؤولية عن تعطيل ولادة الحكومة الجديدة، والتي انتهت إلى "موقف" صدر عن البرلمان اللبناني، جدد تكليف الحريري بتأليف الحكومة خلافاً لما يضمره عون من وراء رسالته إلى النواب، بأن يتخذ موقفاً يدفع باتجاه إنهاء تكليف زعيم "المستقبل" بترؤس الحكومة.
فالرسالة الرئاسية مع ما تضمنته من اتهامات للحريري بإعاقة التفاهم على الحكومة، ورد الأخير مفنداً وقائع ترمي مسؤولية التعطيل على الرئيس عون وفريقه السياسي، أخذت المواجهة إلى ذروة جديدة، وتركت انطباعاً بأن جهود الخروج من الفراغ الحكومي أصيبت بنكسة جديدة، زادت من الصعوبات أمام أي وساطة أو مسعى يعطي أملاً بإحداث اختراق في الجمود الحاصل على صعيد تشكيل السلطة الإجرائية.
الجلسة إحدى محطات المواجهة بين عون والحريري
ومع أن طرفي المواجهة حرصا على نفي الطابع الطائفي المتعلق بصلاحيات الرئاستين الأولى والثالثة في عملية تشكيل السلطة، سواء على لسان الحريري أو على لسان رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل الذي تولى شرح رسالة عون، فإن النتائج السياسية التي ترتبت على حصيلة الجلسة النيابية لم تخل من التفسيرات الطائفية في إطار التناحر على الصلاحيات، سواء كانت صحيحة أم لم تكن، لكن النتيجة الرئيسة التي تهم المواطن اللبناني، أي تسريع تشكيل الحكومة لتدير شؤونه وتحاول إيجاد الحلول لها، كانت أبعد ما يكون عن هذه الحصيلة.
وعلى العكس، بدا أن الجلسة النيابية واحدة من محطات الصراع السياسي في البلد بدلاً من أن تكون مناسبة للبحث عن الحلول، ويمكن استنتاج بعض جوانب هذه المحطة كالآتي:
هدف مزدوج
هدف مزدوج لبري من إدارته النقاش، أن الجهود التي بذلها رئيس مجلس النواب نبيه بري من أجل أن تأتي الجلسة بأقل تشنج ممكن، سواء في كلمة الحريري رداً على قول عون إنه "يأسر التأليف بعد التكليف ويؤيّده متجاهلاً كل مهلة معقولة للتأليف"، أو في مداخلة باسيل الذي سلم باستحالة سحب التكليف من الحريري، اقتصرت على تسليم الحريري بأن "لبنان يستحق محاولة جديدة، ويستحق طريقة أخرى، ويستحق نتيجة غير الفشل"، بعدما رفع الصوت في وجه حملة عون وفريقه عليه مستعيداً ما سماه "الباع الطويل" للأخير في التعطيل، لكن هذا لم يمنع القول أيضاً إن الرئيس بري أدار الجلسة بهدف مزدوج: الحؤول من دون حصول مواجهات كلامية بين النواب، تعليقاً على المداخلات الرسمية لممثلي الكتل، وإعطاء الفرصة للحريري أن يكون آخر المتكلمين، خصوصاً أن في كلمته التي اطلع بري على معظم جوانبها سلفاً، دفاع عن صلاحيات البرلمان لجهة حقه الحصري في منح الثقة لأي حكومة، خلافاً لما جاء في رسالة عون من أنه يرفض التوقيع على مرسوم حكومة ليس مضموناً حصولها على ثقة الكتل النيابية، الأمر الذي توافق بري والحريري على اعتباره مصادرة لحق البرلمان بمنح الثقة أو حجبها. كما تردد أن بري نصح الحريري بتلطيف بعض عبارات خطابه وخفض نبرتها في مواجهة الفريق الرئاسي.
إلا أن جهود بري التي عاونه فيها "حزب الله" باتصالات مع باسيل، حالت من دون تطور السجال إلى تبادل للحملات بين نواب كتلتي "المستقبل" و"التيار الحر"، فهؤلاء هيأوا أنفسهم من أجل الرد بقسوة كل على خصومه، لو حاول فريق منهما مقاطعة زعيمه أو تهجم عليه، وكان يمكن لهذا الأمر لو حصل أن يحوّل الجلسة إلى مسرح هرج ومرج، وقطع بري الطريق على هذا الاحتمال بأن أعطى الكلمة لباسيل قبل الحريري، حتى لا يتكلم من بعده ويرد عليه وتتوتر الأجواء، وبهذا المعنى نطق الحريري باسم بري ومعظم الكتل وليس باسمه فقط.
التفسير الطائفي
البرلمان كسب جولة، والتفسير الطائفي للحصيلة أن صياغة الموقف الذي خرج به البرلمان أعاد التأكيد على فصل السلطات من جهة، في رد على إيحاءات الرسالة الرئاسية التي اعتبرتها مصادر نيابية إملاءات، وعلى ثبات أكثرية البرلمان على تكليف الحريري، وعلى استبعاد أي تعديل دستوري يضع مهلة للرئيس المكلف من جهة ثانية، مما شكل صفعة لفريق الرئاسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن نواباً في "التيار الحر" وجدوا في إدارة بري للجلسة انحيازاً متعمداً إلى الحريري، وأخذ بعضهم يتحدث عن "غدر" تعرضوا له بأن طلب إليهم التهدئة، فجاءت كلمة باسيل أقل من "مدوية" كما كان وعد، في وقت ترك للحريري الكلمة الأخيرة، وأخذ بعضهم يتحدث عن تعاون سني - شيعي ضد الرئيس المسيحي وفريقه السياسي في تطييف للمشكلة، وقالت أوساط نيابية إن بري ليس في هذا الوارد، ولو صح ذلك لكان ممثلو كتل نيابية مسيحية اعترضوا، في وقت كانت مداخلة كتلة نواب "المردة" التي تحدث باسمها النائب طوني سليمان فرنجية رافضة لأن ينطق "التيار الحر" وباسيل باسم المسيحيين، بينما لم تقف كتلة "القوات اللبنانية" مع عون، بل على العكس هاجم النائب جورج عدوان باسمها الأكثرية الحاكمة المقصود بها تحالف "التيار الحر" و"حزب الله"، مؤكداً استحالة معالجة الأوضاع في ظلها وطالب بالانتخابات المبكرة للتخلص منها.
الراعي وإصراره على الحريري أن يبادر
في مقابل هذه الأجواء المتشنجة برز موقفان لافتان، غداة الجلسة التي ظهر فيها الحريري رابحاً تأييد البرلمان لمهمته، في مواجهة الموقف السلبي لعون منه، الأول دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي الرئيس المكلف إلى "المبادرة، وتقديم تشكيلة محدثة إلى رئيس الجمهورية في أسرع وقت، والاتفاق معه على الهيكلية والحقائب والأسماء على أساس معايير حكومة من اختصاصيين غير حزبيين لا يهيمن أي فريق عليها". وأضاف، "وإذا لم يتفقا فليستخلصا العبر ويتخذا الموقف الشجاع الذي يتيح عملية تأليف جديدة"، وفي العبارة الأخيرة تلميح إلى أنه إذا لم تنجح محاولته قد يكون عليه الاعتذار، إذ إنه ليس مطروحاً أن يتنحى رئيس الجمهورية في حال فشله في الاتفاق مع الحريري.
وفي تفسير سياسيين مطلعين على خلفيات موقف البطريرك الراعي، أنه على الرغم من تفهمه لمواقف الحريري وأن العرقلة للحكومة تأتي من الفريق الرئاسي، يعتقد رأس الكنيسة المارونية أنه كان على الحريري ألا يصعد موقفه في خطابه في الجلسة النيابية حتى لو كان على حق، باتهاماته لعون، لأن النبرة العالية تقطع الطريق على تفاهمه المفترض مع رئيس الجمهورية على صيغة حكومية تنهي الفراغ، كما أن هؤلاء السياسيين كشفوا لـ "اندبندنت عربية" عن أن الراعي كان تلقى وعداً من الحريري خلال اتصالات جرت بينهما، أكثر من مرة خلال الأسبوعين الماضيين بعيداً من الأضواء، بأنه سيتقدم بمشروع حكومة جديد، غير اللائحة التي كان تقدم بها في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي من 18 وزيراً، والتي رفضها عون، إلا أن الحريري أجّل ذلك بعد توجيه عون رسالته إلى البرلمان التي كال فيها اتهامات له بتعطيل التأليف، وبأنه "عاجز" عن تشكيل الحكومة.
موقف بري بين الحريري وباسيل
أما الموقف الثاني فهو إعلان بري في كلمة ألقاها في 23 مايو (أيار)، عشية "عيد التحرير" في ذكرى الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان العام 2000، فأكد "ضرورة الاعتراف بأن مشكلتنا الحكومية الراهنة مئة بالمئة محض داخلية وشخصية"، و"سوس الخشب منو وفيه، وأن نملك القدرة على أن نضحي من أجل لبنان لا أن نضحي بلبنان من أجل مصالحنا الشخصية".
ورأى بري أن "المدخل الالزامي للإنقاذ أن يبادر المعنيون بالتأليف والتشكيل، وبعد ذلك التوقيع (المقصود به رئيس الجمهورية)، اليوم وقبل الغد، ومن دون شروط مسبقة ومن دون تلكؤ، إلى ازالة العوائق الشخصية التي تحول من دون تشكيل حكومة وطنية أعضاؤها من ذوي الاختصاص غير الحزبيين لا أثلاث معطلة فيها لأحد"، وحرص على القول إنه يعيد ويكرر "ما قاله البطريرك بأن لا أثلاث معطلة لأحد ووفقاً لما نصت عليه المبادرة الفرنسية، برنامج عملها الوحيد إنقاذ لبنان واستعادة ثقة ابنائه به وبمؤسساته، حكومة تستعيد ثقة العالم به وبدوره وبخاصة ثقة أشقائه العرب كل العرب".
وأبلغت مصادر نيابية مقربة من بري "اندبندنت عربية" بأن موقف رئيس البرلمان صيغ بدقة استناداً إلى محادثة جرت بينه وبين رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، الذي اجتمع به على إثر انتهاء الجلسة النيابية يوم السبت 22 مايو، فباسيل حاول أن ينقل إليه رسالة من الرئيس عون حول الأزمة الحكومية، فكان رد فعل بري أن رفض الاستماع، محيلاً إياه إلى معاونه النائب علي حسن خليل، وقال له، "80 في المئة من تخريب جهود تأليف الحكومة أنت سببها، ويجب أن تعدل من موقفك"، لكن بري عاد فالتقى الحريري أيضاً، وعلى الرغم من تعاطفه معه في مواجهة الفريق الرئاسي، أبلغه بـ "أنك تتحمل جزءاً من مسؤولية العرقلة ولو بنسبة 20 في المئة، ويجب أن تقوم بخطوة ما للخروج من الجمود".
وجاءت ملاحظة بري للحريري على خلفية رفض الأخير محاولة رئيس المجلس النيابي عقد اجتماع بين رؤساء الكتل النيابية على هامش جلسة البرلمان العامة التي انعقدت الأسبوع الماضي، كان الهدف منه أن يلتقي الحريري وباسيل للتفاهم على الحكومة، ويعول بري على أن يتقدم الحريري باقتراح جديد للحكومة بعد عودته من أبو ظبي، التي غادر إليها فور انتهاء الجلسة النيابية.
وتنتهي المصادر إلى القول إن ما حصل في جلسة مناقشة رسالة عون إلى البرلمان، إما سيقود البلد إلى تعميق الانقسام أكثر، أو يكون عاملاً مساعداً وضاغطاً من أجل تسريع ولادة الحكومة، والأيام المقبلة ستكون حاسمة.