Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اللحوم تهجر المطابخ اللبنانية

مخاوف من أن يطاول رفع الدعم جميع القطاعات في وقت تغيب فيه الخطط الحكومية عن الساحة

"الدعم توقف فعلياً"، وبانتظار إعلانه بصورة رسمية، وطرأ كثير من التغييرات على سلوك المواطن اللبناني. وليس أدل على هذا التغيير سوى التعبير بـ"خروج اللحوم من قائمة طعام المواطن اللبناني"، وهو التعبير الذي يبشر بأن الأمور التي اعتبرها المواطن اللبناني في فترة من الفترات بمثابة البديهيات ودخلت في صلب هويته الثقافية، يُدفع الآن إلى التخلي عنها دفعاً تحت وقع إكراه الأزمات. 

الدعم توقف

وفي معلومات خاصة، تكشف مصادر وزارة الاقتصاد، عن أن الوزير راوول نعمة تلقى في السابع من أيار (مايو) الجاري كتاباً من مصرف لبنان، طلب منه وقف كافة آليات الدعم بانتظار آلية جديدة ستعتمد على "الموافقة المسبقة من مصرف لبنان". وتفيد المصادر المطلعة لـ"اندبندنت عربية" بأن "الشركات الأربع الكبرى التي تستورد اللحوم في لبنان، سحبت ملفاتها من وزارة الاقتصاد"، وعليه لا يوجد أي طلب لدعم اللحوم في الوزارة، الأمر الذي يعني أن "اللحوم أصبحت خارج دائرة الدعم". وتعيد مصادر وزارة الاقتصاد انسحاب الشركات من دائرة طلب الدعم إلى خوف فعلي بأنهم لن يستعيدوا الأموال التي أنفقوها من أجل شراء اللحم المدعوم. ويمكن تفسير الخطوة التي اتخذتها الشركات، بأنها لا تريد تكرار تجربة الشركات المستوردة للدواء التي تضطر لحبس الأدوية في المستودعات بانتظار "صرف فواتير الدولار المدعوم من قبل المصرف المركزي". 

اللحم من الماضي

لطالما اشتهر اللبناني بالمازة الغنية باللحوم والشحوم، إلا أنه يجد نفسه مضطراً اليوم لأن يتحول إلى "نباتي"، ويعود السبب في ذلك إلى عدم قدرته على استهلاك اللحم البلدي "غير المدعوم". وفي هذا المجال يمكن استعراض تجربتين لسيدتين إحداهما من عكار، وأخرى من طرابلس، حيث تشير ماريا (ربة منزل أربعينية كانت تعيش في البرازيل) إلى أن "اللبناني بات يستحيي من إقامة وليمة لأي أحد، فقد أصبحت مكلفة جداً، لأن كيلو لحم الغنم مثلاً أصبح بـ125 ألف ليرة، وكيلو سفن الدجاج بـ50 ألف ليرة". 

ارتفعت الأسعار، فاضطرت ماريا التي تنتمي إلى طبقة "وضعها جيد" لمسايرة التطورات، ولكن ماذا عن حال المعدمين؟ ففي منطقة السويقة نلتقي السيدة آمال، التي تقول إنها "تنوّع بطبخ البطاطا"، وإن "اللحم هجر مطبخها وبطون عائلتها إلى أجل غير مسمى"، موضحة أنها "عندما تستغني عن البطاطا، فإنها تلجأ إلى المجدرة". وعلى سبيل المزاح، تشير إلى "أنهم يريدون جعل المواطن اللبناني نباتياً"، علماً بأن الخضراوات في لبنان ارتفعت أسعارها بصورة مطردة وغير مسبوقة. 

على الطلب

لحظ تجار اللحوم في سوق العطارين في طرابلس أثر ارتفاع ثمنها على السلوكيات الغذائية، كما تأثر بذلك اللحام. العاملون في هذا المجال ضمن الأسواق الشعبية لا يملكون قدرات مالية كبيرة، وعليه لا يمكنهم المخاطرة بشراء ذبيحة كاملة، ووضعها ضمن البرادات لأيام بسبب تراجع القدرة الشرائية للمواطنين. يلفت فواز عبد الله صاحب ملحمة، إلى أنهم يعتمدون حالياً على "البيع على الطلب"، حيث يجمع الجزار الطلبات، ويتفق مع زبائنه على يوم محدد. يروي بعض الصور من الحياة اليومية للفقراء، "يأتي البعض ويطلبون لحماً بألفين أو ثلاثة آلاف، وهو مبلغ لا يشتري إلا القدر القليل جداً، ولا يتجاوز الملعقة"، ويجد نفسه مضطراً لترجيح الميزان. 

يؤكد أن صاحب الملحمة الملتزمة بالمعايير الصحية، يجد نفسه بين خيارين، إما اللجوء إلى تقنين بيع اللحم بطريقة البيع على الطلب، وإحضار "شقة" (جزء من الذبيحة)، أو اللجوء إلى الغش من خلال "دمج اللحم المثلج، مع قوانص الدجاج المفرومة والصباغ الوردي"، وهذا أمر شائع في الأسواق الشعبية، ويقبل عليه الفقراء. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالانتقال إلى منطقة السويقة، يقدم لنا وضاح الرافعي صورة عن العلاقة الجدلية بين الملحمة وقاطني الأحياء المتواضعة، ويؤكد أن "الملاحم القديمة حافظت على موقعها المكاني في الأحياء الشعبية"، إلا أنها تستقطب الزبائن من خارج المنطقة، وذلك من بين الزبائن الذين اعتادوا طوال 50 سنة على الشراء من هذه المنطقة، ناهيك عن أثر السعر لأن "سكان المناطق الشعبية ليس باستطاعتهم شراء كيلو لحم بـ100 ألف، حتى يترددوا بشراء أوقية لقاء 20 ألف ليرة، وهو مبلغ كان يكفي لشراء كيلو ونصف الكيلو من اللحم قبل الأزمة الحالية. 

ويؤكد أنه "لم يعد هناك لحم مدعوم، وأن التجار تلقوا اللحم المدعوم لآخر مرة في بدايات رمضان"، كما أن ثمن العجل لا يقل عن 20 مليون ليرة، وهو مبلغ كبير جداً، ويشكل عبئاً على صاحب الملحمة إن لم يكن لديه طلبات. 

لحم الدجاج

في رحلة البحث عن اللحم، ننتقل إلى سوق القمح الأثرية القديمة، وهناك نُصادف أحد بائعي اللحوم، الذي بدأ بالتكيف مع الأزمة. ويشير إلى أنه كان يبيع اللحم المثلج الذي "يكشف عنه صحياً"، وكان ثمنه متيسراً للفقراء الذين يشترونه بفعل الفارق الكبير مع اللحم البلدي، حيث "أصبح ثمن كيلو رول اللحم المثلج 65 ألف ليرة". وينطلق من هذا الأمر، ليتساءل، "ماذا سيأكل الفقير؟"، و"هل هو قادر على شراء اللحم المثلج بهذا السعر المرتفع؟"، وأمام هذا الواقع قام ببيع "لحم الدجاج"، حيث يتم فرمه بنفس آلات اللحم البقري والغنم، ويأخذ نفس الشكل، ولكن من دون لون، كما يمكن استخدامه في "الكفتة، والكبة، والصفائح. ويتحدث صاحب الملحمة عن مذاق لذيذ ومُغذٍ، وغني بالبروتين، وأنه "يأكل منه في بيته شخصياً"، وعليه لا يوجد مبرر للحذر من هذا النوع من اللحم الغذائي، بحسب البائع. 

موسم عيد الأضحى

خارج طرابلس، يحاول بعض أصحاب المزارع تغطية النقص في السوق، والبيع انطلاقاً من القواعد التي تحكم العرض والطلب. في منطقة الفوار في قضاء زغرتا، يُقر أحد تجار اللحوم، سمير خضر، بأن أسعار اللحم البلدي ارتفعت مقابل اللحم الذي كان يتم تسويقه على أنه مدعوم. ويتفاوت الثمن بين 120 ألف ليرة ثمن كيلو لحم الغنم، و75 ألف ليرة ثمن لحم العجل المفروم، و50 ألف ليرة ثمن اللحم بعظمه وشحمه. ويؤكد أن الإقبال يأتي من أناس يقطنون في أماكن خارج المنطقة، وأحياناً بعض أصحاب المطاعم الفاخرة، فيما يستمر المواطن العادي بشراء كميات محدودة، تزداد في المناسبات والأعياد، وذلك بعد التراخي في السوق، ويُعوّل سمير خضر على موسم عيد الأضحى المقبل. 

وتؤكد أوساط دائرة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة، أن "الإنتاج المحلي اللبناني من المواشي غير كافٍ لتحقيق اكتفاء السوق المحلية منذ قيامة لبنان، لذلك فإن الحاجة دائمة لإستيراد العجول الحية، واللحوم المبردة، أو اللحوم المجمدة، وهذا الأمر ليس بجديد. من هنا، سيتأثر سعر اللحم بصورة مباشرة بسعر صرف الدولار الذي أدى حتى الآن لمضاعفة أسعار السلع المستوردة بأضعاف متعددة". من هنا، فإن رفع الدعم عن اللحم سيجعل المواطن أمام خيارات مرة: الاستغناء أو التقشف أو دفع ثمن غالٍ لقاء لحظات من المتعة. 

يتضح أن اللبناني الذي اعتاد على الأزمات، يعيش أزمة إضافية، ولكن هذه المرة تمس صحته بصورة مباشرة. فهو يودع حالياً مرحلة من مراحل الرفاه، ليستقبل مرحلة من التقشف والمحدودية في الخيارات. كل ذلك يجري في ظل المخاوف من أن يطاول رفع الدعم جميع القطاعات، في وقت تغيب فيه الخطط الحكومية عن الساحة، ويتم إلهاء المواطن بلقمته، وبمشادات سياسية وطائفية لا تُغني ولا تسمن من جوع. 

اقرأ المزيد

المزيد من اقتصاد