على الرغم من حدوث عشرات حالات الاغتيال في العراق منذ اندلاع الاحتجاجات العراقية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وحتى الآن، فإن السلطات الأمنية لم تعلن حتى هذه اللحظة عن الجهات المسؤولة عن تلك العمليات، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات لدى الرأي العام العراقي، فضلاً عن تحفيزه الحراك الاحتجاجي للعودة مرة أخرى.
ويتحدث الناشطون عن جهة واحدة أو شبكة مترابطة من الجهات مسؤولة عن عمليات الاغتيال تلك، خصوصاً أنها تجري في نسق متشابه تقريباً في كل مرة. وأعادت عملية اغتيال أحد أبرز ناشطي الحراك الاحتجاجي في العراق إيهاب الوزني هذا الملف إلى الواجهة مرة أخرى، حيث حركت الرأي العام، وأثارت موجة غضب متصاعدة في محاولة لحل ما بات لغزاً كبيراً في الأوساط العراقية.
عشرات العمليات
زادت حالة النقمة الشعبية، وتحديداً بين أوساط الناشطين بعد مرور عام على نيل حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الثقة في البرلمان، حيث كانت قضية قتلة المتظاهرين في أعلى سلم تعهداتها، إلا أن أي خطوات حقيقية في هذا السياق لم تجرِ حتى الآن.
وشهد العام الأول لحكومة الكاظمي تصاعداً ملحوظاً في عمليات الاغتيال، من دون إجراءات كفيلة بالحد من تلك الظاهرة، وهو الأمر الذي دفع غالبية الأحزاب المنبثقة عن الانتفاضة العراقية في النهاية إلى اتخاذ خيار مقاطعة الانتخابات والتوجه مرة أخرى إلى التصعيد الاحتجاجي.
وكشفت مفوضية حقوق الانسان في العراق عن حدوث 89 حالة ومحاولة اغتيال منذ اندلاع الاحتجاجات العراقية، فيما لم تتم الإشارة إلى أي جهة متورطة في تلك العمليات.
وقال عضو المفوضية فاضل الغراوي، في 10 مايو (أيار)، إن حوادث الاغتيال تلك "استهدفت ناشطين واعلامين ومدونين". وحذر من "منزلق خطير للبلد يهدد الكل إذا استمر مسلسل الاغتيالات والفوضى التي تريدها قوى الشر للعراق".
تحريك ملف الاغتيالات في البرلمان
ولعل التوترات الأخيرة التي كانت نتيجة استمرار عمليات الترهيب التي تمارس على الناشطين السياسيين وتزايد وتيرة الاغتيالات دفعت كتلاً سياسية إلى الحديث عن تحرك ملف الاغتيالات في البرلمان العراقي.
وقامت كتلة "عراقيون" بالتحرك في سياق استدعاء القادة الأمنيين تحت قبة البرلمان، فيما انضمت لها كتلة "النصر" التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.
ودعا زعيم تحالف "عراقيون" عمار الحكيم، في 19 مايو، البرلمان العراقي إلى "العمل على استدعاء القادة الأمنيين للوقوف على خطواتهم في الكشف عن المتورطين في جرائم خطف واغتيال بعض الناشطين والإعلاميين، وإطلاع مجلس النواب على الإجراءات المتخذة لحماية أصحاب الرأي وضمان حرية التعبير".
في المقابل، أكد رئيس ائتلاف "النصر" في 20 مايو أن "ائتلاف النصر وباقي قوى الدولة بصدد تفعيل الاستجوابات والمساءلات البرلمانية للكشف عن طبيعة الجرائم السياسية، وممارسة الضغط للكشف عن القتلة، والوقوف تجاه تراجع اشتراطات الأمن الانتخابي وعموم الأمن المجتمعي".
مطالبات بجلسة علنية
دفع التوجه نحو استجواب القادة الأمنيين في البرلمان العراقي الناشطين إلى إطلاق حملة تطالب ببث الجلسة البرلمانية في حال الموافقة عليها، ليشاهد العراقيون إجابات المسؤولين الأمنيين. وتشير مصادر مقربة إلى أن كتلة "عراقيون" وكتلة "النصر" عازمتان على المضي في إمرار طلب الاستجواب، إلا أنهما تنتظران قراراً من رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي في هذا السياق.
وبالإضافة إلى المطالبة بجلسة علنية، يبرز الخيار الآخر الذي يتعلق بحضور ذوي الضحايا إلى البرلمان، وهو أمر يسمح به النظام الداخلي للبرلمان العراقي. ويتحرك الناشطون للتواصل مع منظمة "عوائل شهداء تشرين"، فضلاً عن مطالبة البرلمان بالسماح لذوي الضحايا بحضور الجلسة، كي يحظوا بفرصة مواجهة المسؤولين الأمنيين الذين شهدت قواطعهم الأمنية تلك الحوادث.
ويتزامن التحرك في سياق الاستجوابات مع ترقب عراقي واسع لاحتجاجات يوم 25 مايو الجاري، والتي يحضر لها الناشطون منذ اغتيال الناشط الوزني.
وعلى الرغم من الحديث عن جدوى تلك الاستجوابات فإن رؤساء أحزاب ناشئة وعدة مراقبين قللوا من تلك الخطوات واعتبروها مجرد استعراضات لن تؤدي إلى الكشف عن الجهات السياسية أو الميليشيات المتورطة بتلك العمليات.
ويقول حسين الغرابي رئيس حزب "البيت الوطني" أبرز الأحزاب المنبثقة عن الاحتجاجات العراقية، إن "الثقة باتت معدومة بالنظام السياسي العراقي، خصوصاً بعد ما جرى في الانتفاضة الأخيرة وعدم حسم كل الملفات المتعلقة بها"، مبيناً أن "على النظام السياسي أن يقوم بخطوات حقيقية لاستعادة الثقة في حال استجواب القادة الأمنيين وإحالتهم إلى لجان تحقيقية".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "مع استمرار عمليات الاغتيال والاستهداف وتفجير بيوت من غير المنطقي عدم الكشف عن حالة واحدة منها، فضلاً عن عدم تمكن القوات الأمنية من إمساك أي دليل على الجهات المتورطة".
أسلوب متشابه ولا إشارة للمتورطين
يستدل المحتجون من خلال النمط المتشابه لتلك العمليات على أنها تجري من خلال طرف واحد، إذ يلفت الغرابي إلى أن "كل الدلائل المنطقية تشير إلى تورط طرف واحد بتلك العمليات لأنه يستخدم نفس الأسلوب والأدوات والنتائج تصب في صالحه، وهذا الأمر يفترض أن يسهل عملية الكشف عن المتورطين الرئيسين".
وفي شأن المطالبات من كتل برلمانية باستجواب القادة الأمنيين، يبين الغرابي أنه "لا يمكن الحديث عن جدية الفاعلين السياسيين إلا في حال تفعيل استجوابات علنية للقادة الأمنيين، وليس ترك القضية كمساحة للكسب الإعلامي لأنه سيكون بمثابة اشتراك في تلك الجرائم".
ويرجح عدم جدية النظام السياسي في حسم تلك الملفات، فيما يشير إلى أن "الحكومة أيضاً تتماهى مع ما يجري، وعلى الرغم من فقدان الثقة فإن قوى تشرين ستنتظر ولا تستبق الأحكام".
أول اعتراف بالاغتيال السياسي
وعد ناشطون وصحافيون ما يجري التحضير له من عقد جلسة لمساءلة القادة الأمنيين عن جرائم الاغتيال السياسي بحق مناهضي النفوذ الإيراني ونشطاء التظاهرات بأنها تمثل خطوة في غاية الأهمية في سياق إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب.
ويقول الناشط والصحافي محمد حبيب، إن أهمية الجلسة تأتي لكونها تمثل "أول اعتراف من النظام السياسي ومؤسسته التشريعية بعمليات الاغتيال التي تجري في البلاد". ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، هذه الجلسة تمثل "سابقة في تاريخ النظام السياسي في العراق، حيث كانت حوادث الاغتيال لا تحظى بالأولوية بالنسبة للبرلمان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويصف حبيب التحركات الأخيرة بأنها "خطوة أولى لتصحيح المعادلة وتثبيت حرمة الدم العراقي وحق مناهضة النفوذ الإيراني والقوى السياسية والميليشيات من دون التعرض للقتل"، مبيناً أن ما يجري يمثل "إدانة رمزية تمهد لتحقيق العدالة للضحايا".
ويلفت إلى أن وسائل الإعلام المرتبطة بإيران "لعبت لعبة مريحة من خلال التحريض على النشطاء المناهضين للنفوذ الإيراني، ثم بث الشائعات بعد قتلهم بأنها حوادث ذات طابع عشائري أو اتهام السفارة الأميركية ودول الجوار بها"، مشيراً إلى أن "هذه اللعبة ستتوقف لأنها مثلت صناعة لسرديات إدامة القتل ومهزلة الإفلات من العقاب". وتنفي إيران الاتهامات بالوقوف وراء اغتيال الناشطين العراقيين.
الإفلات من العقاب
وقام ناشطون بإعداد إحصائية بالأسماء والتواريخ لتثبيت أكثر من 35 حالة اغتيال جرت منذ اندلاع الاحتجاجات في أكتوبر 2019، وتم إيصالها إلى القوى السياسية التي تنوي عقد الجلسة في البرلمان.
وينتظر الناشطون أن يكون التمثيل الأمني في الجلسة البرلمانية من أعلى المستويات، فيما يترقبون موافقة رئيس البرلمان على الجلسة للكشف عن مصير التحقيقات في حوادث الاغتيال.
ويشير حبيب إلى أن "كل جرائم الاغتيال تتبعها تصريحات من القادة الأمنيين بتشكيل لجان تحقيقية، فيما لم يعلن حتى الآن عن أي نتائج، منذ اغتيال الإعلامي هادي المهدي في 2011 وصولاً إلى الآن".
ويتابع أن "الإفلات من العقاب بات يمثل السمة السائدة للنظام السياسي في العراق، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في إطلاق يد القتلة من خلال إشعارهم بعدم القدرة على المساس بهم"، مبيناً أن هذا الأمر أدى إلى "تزايد عمليات الاغتيال بشكل شرس وهستيري بعد الانتفاضة العراقية".
غايات سياسية
في المقابل، تتباين وجهات نظر المراقبين بشأن جلسة الاستجواب المرتقبة، إلا أن التشكيك في جدوى تلك الخطوة يبدو حاضراً بشكل دائم، خصوصاً في ما يتعلق بالإشارة الصريحة إلى الجهات التي تقف خلف عمليات الاغتيال.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن "الانتفاضة العراقية طالبت بإسقاط النظام السياسي وليس الحكومة فقط، لأنها كانت تدرك أن أي حكومة جديدة ستكون من إنتاج النظام نفسه"، مبيناً أن هذا الأمر هو الذي يجعل الرأي العام العراقي "لا يعول على أن يقوم طرف من داخل النظام بإدانة أطراف أخرى من النظام ذاته".
ويوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن "ما يجري يمثل ممارسة تلك القوى دوراً مرناً لامتصاص الغضب الشعبي، إلا أنها لن تؤدي إلى أي نتائج عملية، وخصوصاً أن النظام السياسي بشكل عام مدان بدماء الشباب في الانتفاضة".
ويصف الهيتي خطوة استجواب القادة الأمنيين بأنها "لا تخرج من سياق الاستعراض السياسي"، مشيراً إلى أنها تتحرك ضمن مسارين يتمثلان بـ"حماية النظام وتخفيف الضغط عنه من جهة، وخطوة دعائية تستبق الانتخابات المقبلة من جهة أخرى". ويلفت إلى أن "الجهات المتهمة بعمليات الاغتيال باتت معروفة للعراقيين، لكن الإشارة لها تمثل أمراً مستحيلاً وهذا ما يدفع الرأي العام العراقي إلى عدم الإيمان بهذا النوع من الخطوات".
رصيد انتخابي مبكر
في المقابل، يتساءل رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري عن سر تأخر تلك الكتل عن تفعيل ملف الاغتيالات منذ أكتوبر 2019، أو حتى استقدام رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي والقادة الأمنيين في حينها، مبيناً أن "قرب الانتخابات يعطي انطباعاً بأن غايات سياسية تقف خلف تلك الخطوة".
ويوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن تلك الخطوة "لا تمثل تقدماً باتجاه إدانة الجماعات المتورطة بعمليات الاغتيال، وربما لا تعدو سوى كونها خطوة استعراضية". ويشير إلى أن "تحرك المحتجين لإعادة التظاهرات وتحول ملف الاغتيالات إلى رأي عام عراقي يطالب بالكشف عن القتلة، مثلت عوامل ضاغطة دفعت بعض الفاعلين السياسيين إلى التحرك في هذا السياق".
ويلفت إلى أن بعض القوى السياسية باتت "تبحث عن رصيد انتخابي مبكر وكسب ونقاط سياسية من خلال استخدام هذا الملف".
ومن جانب آخر، يعتقد الشمري أنها تمثل محاولة "لإحراج حكومة الكاظمي في هذا التوقيت والنأي بنفسها عن التقصير في حسم هذا الملف"، مردفاً، أن تلك الخطوة "لن تكون مجدية وتحمل أبعاداً سياسية أكثر من كونها دعوة حقيقية لحسم هذا الملف".