أضحت مواقع التواصل الاجتماعي مصدراً مهماً لتحقيق الشهرة، وجني الأموال في المغرب، لكن من طريق اعتماد المحتوى التافه وتكريس "الانحلال الأخلاقي"، ونشر الشائعات والأخبار الزائفة، ما أدى إلى تعالي أصوات مطالبة بضرورة وضع حد لتلك الظاهرة، بزعم تدميرها قيم المجتمع.
التفاهة تثمر
وعرف المغرب خلال الأعوام الأخيرة سباقاً محموماً لتحقيق "البوز" و"الترند"، وهما آليتان أساسيتان لتحقيق أعلى كم من المشاهدات للمحتوى على شبكات التواصل، بالتالي ضمان تحقيق مدخول مادي مهم سواء من عائدات عدد المشاهدات على "يوتيوب"، أو من عائدات الإشهار على "تويتر" أو "فيسبوك"، لكن المحتوى يعتمد في الغالب على "التفاهة" و"الرداءة" اللتين أصبحتا ركيزة "النجاح".
ويتساءل الباحث المغربي المتخصص في علم الاجتماع السياسي، كريم عبد الهادي، إن كان "يحتاج تحقيق الانتشار على مواقع التواصل "البوز" إلى مستوى عال من الثقافة والفكر، أم يكفي أن تحول نفسك إلى أضحوكة موغلة في عرض التفاهة؟".
وفي تعريفه لأصل كلمة "البوز"، يشير الباحث المغربي، إلى أنها كلمة إنجليزية "Buzz" وتعني في اللغة الطنين (صوت طيران الذباب)، واصطلاحاً تعني التقنية في مجال التسويق، التي تتمثل في جعل الناس يتحدثون عن سلعة أو خدمة قبل تسويقها، معتبراً أن "البوز" "عملية تواصلية جماهيرية مخطط لها أو تلقائية، يعتمد فيها على زعماء الرأي، أي الصحافيين والمدونين المؤثرين، ويكون "البوز" محدوداً في الزمن، وينتشر بسرعة كبيرة، ويزول وينسى بالسرعة نفسها".
ويؤكد عبد الهادي أن الإشكال اليوم هو أن المحتوى الذي يحقق الانتشار يتضمن أخباراً زائفة، وغير حقيقية قد تهدم أكثر مما تبني، وبالتالي، غالبية الأحداث تتمحور حول البعد الاجتماعي أو الأخلاقي.
من جانبه، يؤكد رئيس المكتب المغربي لحقوق الإنسان، عماد جليل، أن الهدف من ذلك السباق نحو نشر المحتوى على وسائل التواصل، هو تحقيق الربح المادي فقط، من خلال نشر مواد تافهة أو كوميدية أو إباحية أو فيديوهات لعرض الأجسام كـ"روتين يومي"، معتبراً أن معشر "المؤثرين" لا علاقة لهم بتحقيق الشهرة، ولكن وجدوا أنفسهم داخل دائرة الشهرة.
"شهرة" مؤقتة
ويعتبر متخصصون أن فترة "شهرة" موجة المحتوى التافه قصيرة، باعتبار أنه بمجرد ما يحقق شخص الانتشار حتى يتم نسيانه بظهور شخص آخر، فبعد أن حقق أحد الأشخاص انتشاراً واسعاً لمجرد أنه أخطأ في حديثه عن إنفلونزا الطيور، وبدلاً من لفظ "أتش وان أن وان" بشكل صحيح، قال "إكشوان إكنوان"، ظهر بعده "نيبا" وهو شخص أمي أخذ شهرة واسعة من طريقة كلامه العدوانية التي يستخدم فيها مصطلحات نابية، ثم ظهرت "أمي نعيمة"، التي كانت ضحية تحويل أموال كانت موجهة لمساعدتها لفائدة القائمين على طلب مساعدتها، حتى أصبحت تحقق ملايين المشاهدات على "يوتيوب" ذات المحتوى الذي يتراوح بين تفاصيل حياتها اليومية، وأفلام قصيرة خالية من الإبداع، إضافة إلى آخرين غيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر الباحث كريم عبد الهادي أنه في ذلك المجال "سرعان ما يطفو كثيرون ويتحولون (بفعل بعض المواقع) من أشخاص مغمورين إلى مشاهير من دون مبرر منطقي، إلا أن هذه الشهرة تستمر فترة وجيزة قبل أن تبرز شخصية أخرى تحظى بدورها بنجومية مؤقتة"، معتبراً أن الوضع يتعلق بـ"ظاهرة غير صحية"، إذ إن بعض المواقع الإخبارية تتحمل جزءاً من المسؤولية في تكريسها، باستغلالها للانتشار الذي يخلقه محتوى معين، وتسليط الضوء على من يصنعونه سعياً وراء التصفح والمشاهدة والمشاركة والمتابعة.
ظاهرة غير صحية
ويؤكد عبد الهادي أن هناك من المتخصصين من يعتبرون هذه الظاهرة غير صحية، كونها تسمح لأشخاص بتصدر المشهد، عل الرغم من أن المضمون الذي يقدمونه لا فائدة وأهمية تذكر له، معتبراً أن من بين الأسباب التي تقف وراء بروز هذه الظاهرة، سهولة ولوج مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح لهؤلاء الأشخاص تصدر المشهد، في ظل غياب من يمكن أن يتصدروه بأفكارهم ومناهجهم وقراءاتهم.
ويضيف، "جزء من اللائمة في هذا الأمر يرجعه المتخصصون أيضاً إلى المواقع الإخبارية، إذ إن هناك مواقع عدة تخصصت في هذا النوع من الأخبار، وبمجرد ظهور "بوز" معين، الذي غالباً ما ينطلق من مواقع التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع، تتلقفه مجموعة من تلك المواقع وتنكب على صانعه وتسلط الضوء على مختلف جوانب حياته إلى أن يتحول إلى موضوع يجذب اهتمام المتلقي، مع العلم أن هذا الأخير لا يستفيد في نهاية المطاف شيئاً من كل ذلك".
ويخلص الباحث إلى وجود "مشكلة في صناعة المحتوى، وهذا يعكسه ما نراه اليوم من خلال تتبع بعض الأشخاص وتسليط الضوء على حياتهم، على الرغم من أنهم لا يقدمون أي شيء مفيد"، مشيراً إلى أن "الخطير في الأمر هو أنه يبعث برسالة مفادها بأن أي شخص مهما كان مستواه العلمي والفكري يمكن أن يصبح مشهوراً ويستفيد مادياً، على الرغم من أنه لا يقدم شيئاً سوى أنه قد يحول نفسه إلى أضحوكة مثلاً".
أهداف تكريس التفاهة
ويعتبر باحثون أن المتوخى من تكريس التفاهة هو شغل الرأي العام عن القضايا الأساسية وإلغاء آلية التفكير لديهم، ويقول الباحث المغربي في علم الاجتماع، عبد الرحيم العطري، "التفاهة تدل إلى "الحضيضية" في الوقائع والأشياء، ونظامها المتسلط سيستهدف تحديداً إفراغ المجال العام من معناه الثوري الراغب في التغيير، لأنه يرنو إلى إنتاج "وعي مُعلب" لا ينشغل أصحابه بالاحتجاج ولا المطالبة بإعادة توزيع الثروة، والمشاركة في صناعة القرار، فلا همَّ لهم سوى ترقب من يرتقي في "الترند"، وما يستجد في الفضائح التي لا تنتهي"، معتبراً أنه لا سبيل إلى مزيد من التحكم في مصائر الشعوب إلا بتكريس التفاهة والرداءة.
ويشير العطري إلى أن "التفاهة تقود إلى إنتاج شعوب "مستقيلة" غير منشغلة بالصراع السياسي، فقط همها الأساس هو، هل قامت المغنية بعمليات تجميل؟ وهل تزوج الممثل أم طلّق؟
روتيني اليومي
وتزايد بشكل هائل خلال الأعوام الأخيرة عدد القنوات على "يوتيوب" التي تظهر فيها سيدات تفاصيل يومهن في المنزل، لكن المقلق في الأمر أن غالبية تلك النساء يظهرن مفاتنهن عن قصد، والغريب في الأمر أن ذلك المحتوى الموجه للمرأة يكون معظم مشاهديه من الرجال.
ويشير الباحث في علم الاجتماع العطري إلى أنه على كل رافض لِوَسْمِ عصرنا هذا بالتفاهة، أن يلقي نظرة خاطفة على استعمالات "يوتيوب" لدى ربات البيوت المغربيات، من خلال العدوى المنتشرة حالياً تحت اسم "روتيني اليومي"، مؤكداً أن البحث عن الشهرة والانشغال بحصد الإعجاب والمشاهدات لأجل حصد الدولار في النهاية، دفع بكثيرات من النساء إلى "استعراض أشغال البيت" مع ممارسة نوع من "الاستعراء الجنسوي" أيضاً، في سباق محموم لا يُفهم منه سوى "انتصار" عصر التفاهة والتسطيح".
ويضيف العطري أن "النتيجة أن نجمات "روتيني اليومي" هنّ الأكثر شهرة ومتابعة من كل المغربيات اللاتي حققن التميز والشموخ في مسارات العلوم والآداب والفنون والسياسة والاقتصاد، وأن ما تتحصل عليه نجمات التفاهة مادياً وحتى رمزياً، لن تحققه أبرز قاصة أو روائية مغربية لن تتجاوز مبيعات أعمالها 500 نسخة في أفضل الأحوال، بينما الأخريات يحظين بالمتابعات المليونية والمداخيل الخيالية"، كما يعتبر أنه "لا حديث في المغرب وخارجه إلا عن تسليع الجسد الأنثوي و"اغتصاب" لحقه في التحرر من لعنة الروتين اليومي الذي أنتجته الميديوقراطية، وعضدته قيم الاستهلاك والتوحش الرأسمالي"، مشدداً على أنه "لا يمكن فصل ما يحدث على يوتيوب عن الروتين السياسي العام الذي يسعى لاستبعاد الفكر والثقافة من خارطة الانشغالات المواطناتية".
تقييم
لا يمكن الجزم بسلبية تحقيق الانتشار باعتماد التفاهة، ويقر مراقبون بوجود جانب إيجابي للظاهرة، ويشير عبد الهادي إلى أنه "إذا أردنا الحديث عن إيجابيات وسلبيات ظاهرة البوز، فإن الأولى تتمثل في كونها تثير أمراً إيجابياً، يتمثل في انتقال المعلومة وكيفية استثمار هذا الانتقال، بينما تتمثل الثانية في الذي يروج له هذا البوز، وكيف تتشكل العقول والعقليات من خلاله، وهنا تبدأ السلبيات"، مؤكداً ضرورة وجود رد فعل للعلماء والباحثين الذين يعلقون على تلك الأمور التي تحقق الانتشار، ووجوب القيام بدراسة عميقة جداً لطبيعة هذا "البوز" الذي ينجح، من خلال معرفة الخلل الذي وقع في المجتمعات والتغيرات التي طرأت عليه، ويؤكد الباحث وجود متخصصين ممن يعتبرون "البوز" ظاهرة طبيعية ومحتواه هو ما يثير القلق.
دعوات للتدخل
وما انفك نشطاء في مختلف المجالات من الدعوة إلى ضرورة التدخل للحد من موجة التفاهة ذات التداعيات الاجتماعية والأخلاقية الخطيرة، وكان آخر تلك التحركات تقدم "المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان والدفاع عن الحريات" في المغرب، بشكوى، في مايو (أيار) الماضي، ضد "اليوتيوبر" ندى حاسي بسبب استعمالها عبارة "استحمار الشعب المغربي" في تسجيل اعترفت فيه بتأليف قصص وسيناريوهات كاذبة هي ونزار السبتي والشرطي السابق هشام الملولي، عبر تبادل السب والاتهامات، فقط لجلب المشاهدات وكسب أكبر قد ممكن من المال.
وكان نشطاء عديدون وهيئات مدنية دعوا في مناسبات عدة إلى ضرورة وضع حد للمحتوى التافه، أو ذلك الذي يكرس الانحلال الأخلاقي، باعتبار الخطر الذي يشكله على الأجيال المقبلة وعلى صورة البلد.
من جانبه، يعتبر عماد جليل، أنه من أجل تحرر المجتمع من المحتوى التافه، يجب شن هجوم رسمي من طرف الدولة على كل المواقع والقنوات التي تقدمه، وفي المقابل دعم القنوات الجادة والأخبار الحقيقية وتمويل الإنتاجات التي لها تأثير ثقافي وتربوي واقتصادي على المجتمع.