Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القاتل الأرق يخدم ضحاياه بتسريع موتهم

رواية الطاهر بن جلون ترصد أعطاب النفس البشرية بواقعيتها وغرائبيتها

الطاهر بن جلون (موقع الكاتب)

يعد الأرق مرض العصر الحديث الذي يعانيه ملايين البشر، بفعل أنماط عيشهم، وانخراطهم في حمأة السباق لتحقيق أهدافهم. وعليه، يمكن اعتبار رواية "أرق" للروائي المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون، الصادرة عن دار الساقي، بترجمة أنطوان سركيس، رواية عصرية، من حيث الموضوع، على الأقل. غير أنها ليست كذلك، بالتأكيد، من حيث طرق العلاج التي تقترحها لهذا المرض العصري.

تجري أحداث الرواية في مدينة طنجة المغربية التي عاش فيها الكاتب بين عامي 1955 و1971، تاريخ انتقاله إلى فرنسا لدراسة علم النفس، والانخراط في مسيرة كتابية لا تزال مستمرة منذ قرابة نصف قرن، تمخضت عن حصاد وفير، في الرواية والشعر والقصة القصيرة، حاز بعضه جوائز أدبية مهمة. وتنخرط فيها مجموعة من الشخصيات المصابة بأعطاب، جسدية أو نفسية، تتمحور حول الشخصية المحورية في الرواية التي يسند الكاتب إليها مهمة الروي، وهي، بدورها، شخصية مصابة بعطب نفسي كبير، وتمثل نقطة التقاطع بين الشخوص الأخرى التي لا تتشابك فيما بينها، وتكتفي بعلاقتها بالراوي، مبرر وجودها في الرواية. على أن هذه الشخصيات تتوزع بين طالبي خدمات الراوي، من جهة، وضحاياه، من جهة ثانية. وإذا كان الفضاء المكاني العام في الرواية محدداً بمدينة طنجة وبعض المدن المغربية الأخرى، فالفضاء الزماني العام يعود إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، والقرينة اللفظية الوحيدة لتحديد هذا الفضاء تتمثل في ذكر ليلة الأرق الأولى لبطل الرواية في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) 1987، لتغيب بعدها القرائن اللفظية أو المعنوية المحددة لحجم الفضاء الزمني، ما يجعلنا نسحبه تجاوزاً على العصر الحديث برمته.

الواقعي والغرائبي

في "أرق" يتجاور الواقعي المعيش والغرائبي المتخيل؛ يتعلق الأول بوجود المرض وأعراضه، ويتعلق الثاني بالعلاج المستخدم ونتائجه، ما يفتح الرواية على عالم مرجعي تتجاور فيه الواقعية والواقعية السحرية. هذا التوصيف يجد ترجمته الروائية في سلوك الشخصية المحورية والشخصيات الأخرى المتعالقة معها. فالمحورية فإن كاتب سيناريو يعاني أرقاً مزمناً، يستعصي معه النوم، حتى إذا ما أعيته الوسائل الواقعية لمعالجة أرقه، يلجأ إلى وسيلة غرائبية تتمثل بقتل المسنين ومساعدتهم على تسريع موتهم، فيعرف النوم المؤقت إلى عينيه سبيلاً.

والمفارق أن أمه تكون أولى ضحاياه. وتكر سبحة الضحايا التي يمد كل منها رصيده بليالٍ من النوم، يختلف عددها باختلاف الضحية. فكلما كانت الضحية مهمة يزداد عدد الليالي. ومع الزمن، يتحول كاتب السيناريو من قاتل بدافع الحاجة إلى النوم، ما قد يمنحه عذراً تخفيفياً، إلى قاتل مأجور، يمارس عمله دون أي شعور بذنب أو تأنيب من ضمير، ما يجعله مجرماً بامتياز. وبذلك، نكون أمام شخصية مكيافيلية، الغاية عندها تبرر الوسيلة، ولا تتورع عن ارتكاب شتى الموبقات لتحقيق غايتها.

مكيافيلية مرضية

إذا كانت المكيافيلية، في الأصل، تشكل مذهباً فكرياً سياسياً، نشأ أواخر القرن الخامس عشر، في إيطاليا، على يد نيكولا مكيافيلي في كتابه "الأمير"، ويمارسه معتنقوه من أهل السياسة، بكامل قواهم العقلية، لإحكام سيطرتهم على مقاليد الأمور، فإنها، في حالة كاتب السيناريو، حالة مرضية، يستخدمها لتبرير جرائمه، دون أي وازع أخلاقي. وهو شخصية إشكالية تعاني الانفصام الزماني والمكاني. يناضل في ماضيه من أجل حقوق الإنسان، ويقوم في حاضره بارتكاب الجرائم كي يتمكن من النوم. يقتل أمه ويظن أنه يسدي إليها خدمة بتسريع موتها، ويقوم بزيارة قبرها والتصدق على روحها، في الوقت نفسه. وهذه الوقائع هي مؤشرات على عطب الشخصية ومرضيتها. على أن القدر يسخر من هذه الشخصية المحورية في نهاية الرواية، فيكون عليها أن تشرب من الكأس نفسها، وأن تأكل السم الذي طبخته، ذلك أن كاتب السيناريو يقوم بتسريع موت المصرفي الأكثر ثراءً في المغرب، ويربح فائضاً من ليالي النوم العميق يكفيه للسنوات العشرين المقبلة، ما يجعله يتردى في غيبوبة عميقة، يفقد معها الرغبة في الحياة، ويتمنى لو أن أحدهم يقوم بتسريع موته. وبذلك، تنقلب الأدوار، ويتحول القاتل إلى ضحية. ونراه في نهاية الرواية، في مشهد غرائبي، ينتظر قطار نومه/ موته، حتى إذا ما جاء، يجد نفسه الراكب الوحيد على متنه، وينتقل من السبات المؤقت الذي كانت تمده به جرائمه إلى السبات الكبير دون أدنى مقاومة. ويعبر عن ذلك بالقول: "لا بأس، أتقبل الموت. نعم، لا مقاومة بعد الآن. السبات الكبير، الأبدي، يمكنه أن يأتي أخيراً ويرحل بي" (ص238).  

وسائل متعددة وغاية واحدة

المفارق أن القاتل لا يرى في ما يرتكبه جرائم موصوفة، بل يعتبر أنه يمد يد العون، وأنه "الملاك المبيد" الذي يقدم مساعدة صغيرة للموت، ويسدي خدمة إلى الضحية نفسها أو إلى متضرر منها أو إلى المجتمع بأسره. كأنه يقوم بواجب إنساني يستحق المكافأة عليه لا العقاب، وينصب نفسه قاضياً يصدر حكماً واحداً وجلاداً ينفذه بوسائل مختلفة.

تختلف وسائل التنفيذ التي يستخدمها القاتل بين ضحية وأخرى؛ فهو يكتم أنفاسها بوسادة كما فعل مع أمه، أو يلقي بثقله عليها ليحجب عنها الهواء كما فعل مع أخته، أو يضغط برأسه على صدرها، فيخمد أنفاسها كما فعل مع الماركيز، أو ينتزع أنابيب التنفس عن أنف الضحية كما فعل مع المغتصب، أو يقحم ملعقة الحساء داخل فمها كما فعل مع الثمانيني العجوز، أو يضع يده على وجهها كما فعل مع الثمانيني الآخر، أو يحقنها بسم قاتل كما فعل مع السفاح الخطير، أو يضغط بقوة على أحد جراحها كما فعل مع المشعوذة المطعونة، أو يعطيها الحبوب المنومة بناءً على طلبها كما فعل مع الرجل الأميركي، أو يحبس أنفاسها بكتلة قطن كما فعل مع الحاكم السابق للمنطقة الحرة، أو يكتم أنفاسها كما فعل مع أحد معارفه طوني، أو يضغط على عنق الضحية بعد منع الدواء عنها كما فعل مع زعيم العصابة والمهرب الكبير الحاج حميدة، أو يضع رأسه ويده على صدر الضحية ويضغط بقوة كما فعل مع المصرفي الأكثر ثراءً في المغرب. وفي هذه الحالة الأخيرة، ينقلب السحر على الساحر، ويدخل القاتل بفعل فائض النوم الذي حصل عليه في غيبوبة عميقة يتمنى معها لو أن أحدهم يسرع موته. ولعل هذه الواقعة في نهاية الرواية هي نقطة التحول الوحيدة في مجرى الأحداث. وهكذا، تختلف الوسائل والغاية واحدة. على أن العائد الذي يحصل عليه القاتل جراء جرائمه يتراوح بين المال في إحداها ما يدخل في باب الواقعية، والانتصاب والرغبة الجنسية اللذين يرثهما من الأخوين طوني وحمدان في اثنتين منها، والنوم في معظمها، ما يدخل في باب الغرائبية.

طالبو خدمات وضحايا

الشخصيات الأخرى في الرواية تتعالق مع الشخصية المحورية. وتتوزع بين طالبي الخدمات، بدافع الإحسان أو الانتقام أو تصفية الحسابات القديمة، وبين الضحايا التي تجتمع في التقدم في العمر والمرض، وتفترق في الجنس والجنسية والعمل والسلوك.

في الفئة الأولى، المنتدب المصري في مستشفى محمد الخامس يطلب منه مساعدة الماركيز على الموت. أحد معارفه طوني يطلب التخلص من مغتصب عجوز انتقاماً لشقيقته الصغرى وابنة أخيه، والقضاء على سفاح خطير انتقاماً لكثيرين عذبهم وأخفاهم. أخوه غير الشقيق حمدان يطلب تسريع موت الحاكم السابق للمنطقة الحرة، والمغني اليهودي المشهور مومو. أستاذ الموسيقى الأرجنتيني يطلب التخلص من يواكيم الطفيلي مثلي الجنس. عارضة الأزياء الفاتنة خدوج تطلب تقديم موعد موت زوجها السابق المثلي أندرو. الفنانة الإيطالية الشابة ليندا تطلب التخلص من زوجها السابق الحاج حميدة لرميه إياها كخرقة بالية وإجبارها على الإجهاض. وهكذا، يتحول القتل المأجور إلى "بيزنس" له سوقه وزبائنه وجلادوه وضحاياه.

في الفئة الثانية، يندرج في قائمة الضحايا: أم القاتل وأخته غير الشقيقة المريضتين، والماركيز الفرنسي، والشقيقين العجوزين المصابين بمرض ألزهايمر، والمدرس الأربعيني مغتصب الأطفال، والسفاح الخطير المسؤول عن تعذيب الكثيرين وإخفائهم، والمشعوذة التي سممت عقل زوجته، والرجل الأميركي المثلي الراغب في الموت بعد أن انفض عنه الفتيان الذين يضاجعهم، وطوني نفسه الذي كان يدله على بعض الضحايا يتحول إلى ضحية بسبب طول لسانه، والحاكم السابق للمنطقة الحرة نسيب الملك، والممثل البريطاني أندرو المثلي الجنس، والحاج حميدة زعيم العصابة والمهرب الكبير، والمصرفي الأكثر ثراءً في المغرب.

يتبين لنا من الشخصيات الواردة في الفئتين المذكورتين أعلاه أنها تعاني أعطاباً جسدية ونفسية، كما هي حال الشخصية المحورية. وإذا كانت هذه الأعطاب بعض إفرازات أنماط العيش الحديث، فإن طرائق معالجتها لم تكن من الحداثة في شيء، بل هي سلوكيات شخصية مريضة منحرفة، اختلطت عليها الأمور، ولم تعد تميز بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، بفعل مرض الأرق الذي حل بها. لعل الكاتب أراد أن يقول إن كل شيء يبدأ في الرأس ويعود إليه، فإذا سلم سلمت النتائج، وإذا أصيب كانت العواقب وخيمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صحيح أن الرواية تتسم بالسلاسة والرشاقة والتناغم بين الفصول الخمسة والأربعين التي تتألف منها، ما يجعلها سائغة القراءة، سهلة المتناول، غير أن الصحيح أيضاً أن الإطار العام للأحداث يتكرر في الفصول المتعاقبة، وإن اختلفت التفاصيل من فصل إلى آخر. دائماً ثمة قاتل أرق يبحث عن ضحية جديدة ليتمكن من النوم، وغالباً ثمة من يقترح له الضحية. وبذلك، نكون أمام مسار روائي أفقي، تتعاقب فيه الوقائع المنفصلة التي لا يوحد بينها سوى تمحورها حول بطل الرواية. ونكون إزاء مجموعة من الأحداث المتجاورة دون أن تنخرط في مجرى واحد، تنمو فيه وتتشابك وتتعقد وتبلغ ذروة معينة تؤدي إلى حل ما. ولولا نقطة التحول الوحيدة في نهاية الرواية المتمثلة في دخول البطل في غيبوبة عميقة، ما يكسر أفقية المسار، لكنا إزاء ركام من الأحداث المتعاقبة التي لا يجمع بينها سوى شهادة الراوي عليها وانخراطه فيها، ما يطرح روائية الرواية على بساط البحث.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة