كشف الاتحاد الأوروبي، الأربعاء الماضي، الخامس من مايو (أيار)، عن مسودة قواعد تهدف إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الشركات الأجنبية في أوروبا المدعومة من حكوماتها، التشريع يحتاج لموافقة 27 حكومة في الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، قبل أن يتحول إلى قانون، ولكن في حال تحوله، فإن القواعد ستمنح سلطات مكافحة الاحتكار في الاتحاد صلاحيات جديدة لمنع الشركات الأجنبية من القيام بعمليات استحواذ في أوروبا أو تلقي عقود عامة إذا أُعتُبر أنها استفادت من الإعانات الحكومية، وستواجه الشركات غرامات صارمة إذا فشلت في الامتثال لمطالب الاتحاد الأوروبي.
ولكن ماذا يعني تقييد الشركات الخليجية المدعومة من حكوماتها أو استثمارات الصناديق الخليجية في دول الاتحاد الأوروبي، لمستقبل الاستثمارات الخليجية في الكتلة الأوروبية، ولمستقبل العلاقات التجارية والاستثمارية ككل بين الكتلتين، وهل من الممكن أن ترد الحكومات الخليجية بخطوة مماثلة وتقيّد دخول كبرى الشركات الأوروبية في عطاءات النفط والغاز ومشاريع الطاقة النووية السلمية وغيرها من المشاريع العملاقة في المنطقة، إذا ما حدث ذلك وردت دول الخليج بالمثل على توجهات الكتلة الأوروبية، السجادة الحمراء للشركات الصينية للاستحواذ على عطاءات مشاريع عملاقة في المنطقة، ما يجعلنا نتساءل عما ستجنيه دول الاتحاد من هذا التوجه، بخاصة أن كل المراقبين والخبراء في العالم يجمعون على أن القرار الأوروبي يستهدف الصين بالدرجة الأولى، لكن الاتحاد الأوروبي لا يريد أن يظهر للعالم بمظهر المستهدف لدولة بعينها لأن ذلك يتعارض مع مبادئ منظمة التجارة العالمية، التي تسمح بحرية الاستثمار وتنقل رؤوس الأموال، لذلك قرر التعميم، ولكن ثمن هذا التعميم قد يكون باهظاً في حال تحول إلى قانون.
مع وجود أكثر من ثلاثة تريليونات دولار أميركي من الأصول الخاضعة للإدارة في ما بينها، تظل أكبر 10 صناديق ثروة سيادية في دول مجلس التعاون الخليجي لاعبة قوية في الأسواق العالمية وتحتل 35 في المئة من المراكز في أعلى 20 تصنيفاً لهذه الصناديق، بحسب تقرير لـ "جيوبوليتيكال مونيتور" صدر في يناير (كانون الثاني) الماضي.
الثروات السيادية الخليجية
وبالنظر إلى مستقبل توجهات صناديق الثروات السيادية الخليجية نحو الاستثمار في الخارج بسبب الصدمات المصاحبة لجائحة كورونا، والتقلبات في سوق الطاقة، والتي دفعت بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة التفكير وإعادة توجيه هذه الصناديق، ومع استمرار أسعار النفط في ترسيخ الميزانيات الحكومية، من المرجح أن يتفاقم العجز المالي بين دول مجلس التعاون الخليجي في ظل غياب مصادر أكثر استقراراً وتنوعاً للإيرادات العامة، ما قد يتسبب في تراجع زخم استثمارات الصناديق الخليجية في أوروبا، بالتالي لا تحتاج الكتلة الأوروبية للخروج بتشريع لتنفير تلك الاستثمارات الضخمة وربما عليها بذل المزيد من الجهود لجذب أكبر لتلك الصناديق التي تسهم في خلق مواطن العمل وتعزيز النمو الاقتصادي لدول أوروبا.
قعقعة تجارية ليس أكثر
واستبعد ديفيد بيرنز رئيس مجلس إدارة مجلس الأعمال الإنجليزي في الإمارات، والموجود حالياً في لندن، أن تُقدم المملكة المتحدة على خطوة مماثلة كتلك التي أعلنها الاتحاد الأوروبي عن مسودة مشروع من شأنه تقييد إعانات الحكومات الأجنبية لشركاتها في أوروبا، وحذّر بيرنز في اتصال هاتفي مع "اندبندنت عربية"، من تداعيات تبني التشريع الأوروبي من قبل دول الاتحاد الأوروبي الـ27 ، قائلاً إنه في حال تمت الموافقة عليه وتحول إلى قانون فستكون له تداعيات وخيمة على مستقبل الاستثمارات المتبادلة بين دول الاتحاد الأوروبي والبلدان الخليجية.
أضاف أن الاتحاد الأوروبي لم يوافق بعد على أن الشركات، وكذلك الصناديق السيادية التي تتلقى معونات، وتلك المدعومة من حكوماتها، لا تستطيع المشاركة في عطاءات المشاريع العملاقة في دول الاتحاد، ولكن في حال تحولت مسودة التشريع إلى قانون، فستكون له تداعيات كبيرة على حجم الأعمال بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي على كلا الضفتين، وقال بيرنز إنه لا يستطيع التخيل ألا ترد الحكومات الخليجية على خطوة من هذا النوع عبر اتخاذ موقف مماثل ووقف دعم الحكومات الأوروبية لشركاتها التي تشارك في عطاءات عملاقة في البلدان الخليجية، وهذا يعني تأثيراً في تواجد الشركات الفرنسية في مشاريع توليد الطاقة النووية السلمية في أبو ظبي على سيبل المثال، وأيضاً على دخول الشركات الأوروبية العملاقة في عطاءات مشاريع استكشاف وإنتاج النفط في الخليج، وكذلك على مبيعات الأسلحة الأوروبية لمنطقة الشرق الأوسط، ولا أعتقد أن تشريعاً مماثلاً يمكن أن يخرج للضوء في المملكة المتحدة التي ترتبط بعلاقات قوية جداً مع منطقة الشرق الأوسط والدول الخليجية بشكل خاص. وما خرج به الاتحاد الأوروبي من تشريع بشأن دعم الحكومات الأجنبية لشركاتها يمكن أن أسميه (قعقعة تجارية أكثر أماناً) بالنيابة عن الشركات في الاتحاد الأوروبي، برأيي أنها مجرد ضوضاء ليس أكثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع بيرنز أن مسودة التشريع الأوروبي تستهدف الصين بالدرجة الأولى، والاتحاد الأوروبي قام بتعميم مسودة التشريع كي لا يبدو أنه يستهدف ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والواقع يقول إنه لا يمكن تجاهل ثقل الصين كقوة اقتصادية، لذلك ينبغي إيجاد سبيل أو طريق للتعامل معها واحتوائها، لذلك أعتقد أن الاتحاد الأوروبي عليه أن يعيد النظر في مسودة هذا التشريع ويفكر جدياً في تبعاته على الاستثمارات على أراضيه، وكذلك على الشركات الأوروبية ومستقبل دخولها في عطاءات عملاقة في المنطقة.
الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون
تمثل الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والكويت والبحرين وعمان وقطر) منطقة مهمة من وجهة نظر تجارية، ويعتبر الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، وبلغ إجمالي تجارة السلع بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2020، 97.1 مليار يورو (118 مليار دولار أميركي)، وبلغت قيمة واردات الاتحاد الأوروبي من مجلس التعاون 29.6 مليار يورو (36 مليار دولار أميركي)، وبلغ إجمالي صادرات الاتحاد الأوروبي لمجلس التعاون 67.5 مليار يورو (82.1 مليار دولار أميركي)، بحسب أرقام المفوضية الأوروبية.
20 تريليون دولار أصول المؤسسات الصينية الكبرى
وقال وضاح الطه، عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، أن الحديث عن قواعد أوروبية صارمة مرتقبة تقيّد إعانات الحكومات الأجنبية لشركاتها في أوروبا، موضوع حيوي للغاية وهو لافت للنظر من الناحية الاستراتيجية، بخاصة أن هناك الكثير من الشواهد تشير إلى أن الصين ترغب في الهيمنة على صناعات استراتيجية أساسية وتستهدف قطاعات أساسية بعينها، ويدعم هذا التوجه وجود قدرة هائلة على التمويل للمشاريع العملاقة، وأضاف الطه أنه إذا ما عدنا لتصنيف الصناديق السيادية وحجم البنوك المركزية في العالم سنجد أن "المركزي" الصيني يأتي في المرتبة الثالثة بعد نظيرة الأميركي والياباني، إضافة إلى البنوك الكبيرة في الصين التي تأتي في مراتب متقدمة، وإذا ما جمعنا أصول المؤسسات الصينية الكبيرة فقط سنجد أنها تتجاوز 20 تريليون دولار، بحسب إحصاءات معهد صناديق الثروات السيادية في سويسرا، أيضاً، هناك أربعة أكبر بنوك في العالم هي صينية، بالتالي هذا النقد الهائل يعطي دفعة قوية سواء للتمويل أو الشراء المباشر أو بالاستحواذ على صناعات استراتيجية عالمية عريقة في مختلف دول العالم، وهذه الهيمنة في حقيقة الأمر تقود لنقل المعرفة وتذهب لحدّ سرقة الأسرار التجارية وبراءات الاختراع.
تأخرت كثيراً في لجم الاستحواذات الصينية
ويقول عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، إنه على الرغم من أنني أختلف مع طروحات الرئيس الأسبق دونالد ترمب، لكنه كان محقاً في سياسته المتشددة تجاه الصين، ويضيف الطه أن المسودة الأوروبية تستهدف الصين بشكل خاص، وهذا الاستهداف ليس بالجديد، فقد بدأ منذ نحو عقدين وأخذ يتسارع في صناعات استراتيجية أساسية مثل التكنولوجيا وصناعة الأدوية والطيران، وهي نماذج للقطاعات المُستهدفة من قبل السيولة الصينية الهائلة لخلق الفارق المقبل في التفوق الصيني الذي يصب في دعم اقتصادها.
وتابع أنه مع كل هذه المعطيات، هناك أداء الاقتصاد الصيني في الربع الأول من العام الحالي، والذي كان لافتاً بدرجة كبيرة إذ نما إجمالي الناتج المحلي للبلاد بأكثر من 18 وربع في المئة، وبرأيي، فإن الولايات المتحدة وأوروبا وكندا ودول أخرى متقدمة تكنولوجياً، وللأسف تأخرت كثيراً في تشخيص هذه الحالة، حيث بدأت هذه الطروحات خجولة عبر خلق معايير مختلفة متشددة مع الصناعات والقطاعات الاستراتيجية وعدم بيعها إلى مستثمرين أجانب، هذه الطروحات ووجهت مع الأسف بطروحات مقابلة تعمل تحت شعار حرية التجارة وتنقل رؤوس الأموال، لذلك أرى أن الأمور ينبغي ألا تسير في هذا الاتجاه، فمن المفترض أن هناك مصالح وطنية عليا تحمي المصالح العليا الاقتصادية لكل دولة، حيث تختبئ وراء هذه الطروحات الكثير من النوايا السيئة، وتابع الطه، أنه مع الأسف هناك تأخر كبير في اتخاذ إجراءات مناسبة في هذا الموضوع، خصوصاً أنني لاحظت في مناطق في العالم مثل أوروبا وكندا، كانت البرلمانات هي من ترصد تعمق النفوذ الصيني في اقتصادات بلدانها، ولكن، وعلى الرغم من الرصد، كان التحرك بطيئاً للأسف، فقد تمكنت الصين خلال السنوات الـ20 الماضية من الاستحواذ على (دُرر) وحصص مُسيطرة في الصناعات والشركات الأساسية في قطاعات الطيران والمركبات، وكل تفاصيل تكنولوجيا المعلومات بالكامل، وكذلك تصنيع الإلكترونيات والأدوية، وللأسف الدول المُتقدمة من ستدفع ثمن هذا التراخي والتكاسل والمُماطلة إزاء هذا التأخر في العامل مع التوسع الصيني، وقال إنه يتوقع وضع حدود تحترم السيادة الوطنية والمصالح الاقتصادية العليا للدول حتى لو تناقضت مع مبادئ التجارة الحرة، فالحقيقة أن مبدأ الصين يراد به باطل.
الصناديق الخليجية وتقليص الخيارات الاستثمارية
وقال الطه، أما على مستوى الاستثمارات العربية والخليجية في أوروبا، فإن أبرز الصناديق في الوطن العربي، صندوق جهاز أبو ظبي للاستثمار (أديا)، وصندوق "مبادلة" في أبو ظبي، وهيئة الاستثمارات في دبي، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، والصندوق الكويتي، والصندوق القطري، كلها من أكبر الصناديق على مستوى العالم من حيث الأصول، وتعتبر صناديق حكومية من وجهة النظر الأوروبية، بالتالي، وبحسب التشريعات الأوروبية المرتقبة، سيسري على تلك الصناديق ما سيسري على الصناديق الصينية.
وبرأيي أن الصناديق الخليجية ستكون قادرة على الاستمرار في ممارسة أعمالها في دول الاتحاد الأوروبي، ولكن ستكون هناك خطوط لن تسمح دول الاتحاد الأوروبي بتخطيها، وأعتقد لاحقاً أن التوجه ذاته سيحدث في الولايات المتحدة. وأضاف، في أوروبا، أُعلن عن المسودة بتعميم، فأوروبا لا تريد أن تظهر وكأنها تستهدف الصناديق الصينية بعينها، لذلك المسدودة تحدثت عن كل المشاريع المدعومة من حكوماتها في العالم، بالتالي سيؤدي ذلك لتقليص خيارات الصناديق السيادية الخليجية في ما يتعلق بالصناعات الاستراتيجية الحيوية والتي سوف تستثنى في أوروبا، وربما قد يدفع ذلك الصناديق السيادية الخليجية للبحث عن بدائل أخرى في القطاعات الاقتصادية نفسها في أماكن أخرى من العالم لن تتجه لإصدار قرارات مماثلة كتلك التي يصدرها الاتحاد الأوروبي.