كنتُ صبياً شغوفاً بالقراءة، طالعتُ ما في مكتبة المدرسة، وكتب استعرتها من أصدقاء، وجلها في الأدب وبخاصة المصري، وحين أمرّ على المكتبات والأكشاك التي تبيع الكتب تشدني كتب لكتّاب ليبيين بعضهم من طالعت لهم مقالات أو قصصاً بالجرائد، لكن ما لفت نظري كتب مكتوب على غلافها أنها فازت في مسابقة اللجنة العليا للآداب والفنون الليبية عام 1965، منها ديوان (أشواق صغيرة) للشاعر علي الرقيعي، والمجموعة القصصية (الجدار) ليوسف الشريف، وشدني الكتاب الحاصل على الجائزة الأولى، المجموعة القصصية (البحر لا ماء فيه) لأحمد إبراهيم الفقيه، ما لفت نظري عنوان المجموعة والمفارقة الظاهرة فيه، مما حيرني ولم أستوعب حينها أن ثمة بحراً لا ماء فيه.
لم أمتلك المال لقيمة الكتاب ذي الثمن البخس لأنه من طباعة الدولة، كنت أتردد على المركز الثقافي الليبي للمطالعة واستعارة الكتب، وأثناء البحث بالمركز عثرت على (البحر لا ماء فيه)، لكن شغف الصبي وشيطانه ألحا عليّ أن أسرق نسخة لأحتفظ بهذا البحر في مكتبتي الصغيرة التي كنت بصدد إنشائها، استعرت أشواق الرقيعي، ودسست تحتها بحر الفقيه، وهممت بالخروج، لكن مدير المركز الجالس على مكتبه نهض باتجاهي قبيل خروجي فارتبكت، مبتسماً طلب منى الانتظار مما خض حليب ركبي، ما أخذتا ترتعشان، اتجه إلى الداخل حيث رفوف القصص والروايات بالمكتبة، وسحب كتاباً، وجاء عندي، ومنحني النسخة التي سحب، وهو يبتسم مداعباً رأسي قائلاً: هذه قصص يوسف الشريف (الجدار) هدية مني، احتفظ بها علّ تكون لك مكتبتك الخاصة، ثم أعطاني بالظهر مكملاً كلامه: وكلما أعجبك كتاباً نادراً وينفع لمكتبتك أطلبه مني.
لم يخيب أحمد إبراهيم الفقيه القاص شغفي الذي توكد منذ اطلاعي الأول ذاك على مجموعته الأولى، بل بعد سنتين عله من مُحفزي للذهاب إلى الصحراء للعمل كطالب أثناء العطلة المدرسية السنوية، ولأخوض في (البحر الذي لا ماء فيه). ثم طالعت (اربطوا أحزمة المقاعد) المجموعة الثانية، أما مجموعته الثالثة (واختفت النجوم) فأعدها من القصص القصيرة التي لا شبيه لها، ففيها تبين المقدرة المميزة عنده في كتابة القصة القصيرة، من حيث جماليات الدلالة الخاصة والشعرية التي توحي بها الموضوعة قبل اللغة، ومن ذا فإنه كاتب قصة قصيرة قل نظيره.
رواية في السجن
وأما روايته الأولى (حقول الرماد) فقد وصلتنا في السجن مطلع الثمانينات حيث طالعتها، وكانت مثاراً لنقاش حول الرواية الليبية في انطلاقتها المميزة في السبعينات بـ (من مكة إلى هنا) لصادق النيهوم.
حين ذهبت إلى (طرابلس الغرب) للعمل كصحافي عام 1974، كان من أوائل من التقيت أحمد إبراهيم الفقيه من حينها يعمل رئيساً لتحرير جريدة (الأسبوع الثقافي)، وهي أول جريدة عربية أسبوعية مختصة في الثقافة أسسها الدكتور علي فهمي خشيم، حين وصلت المدينة كانت ليبيا تعيش حالة من الرعب، فالعقيد القذافي أعلن ما دعاه بالثورة الثقافية وزج في السجون الكثير من المثقفين ومنهم الكتاب والشعراء والصحافيين، لذا أخذني جانباً ليسألني عن بعض من اعتقل في مدينتي بنغازي بخاصة الشاعر الأشهر محمد الشلطامي، بدأ متوجساً وهو يسألني، وحين مررنا بمحطة للسيارات وقف ثم أشار إلى السيارات وقال: انتبه حين تجد رقم السيارة ينتهي– ما ذكره من الأرقام لم أعد أذكره – فإنها تتبع المباحث، وعلّ ذا لم ينسِني هذه الواقعة.
والغريب، أني في آخر زيارة له بالمستشفى، إذ توفي بعدها بأيام، وجدته حبوراً ومتدفقاً، وأخذ يحكي لي بحرارة عن مصدر لقصة كتبها، وتوقف عن السرد ليسألني هل طالعتها، ولم ينتظر جواباً: هي قصة رجل أمن قابلته عند وصولي إلى اليونان، بعد أن عُينت كدبلوماسي في السفارة الليبية هناك، جلست في مقهى للحظات حتى وجدت شخصاً يندلف نحوي مرحباً بي، لهنيهة لم أتذكره بسبب أن طلعته ولباسه الفاخر قد غيرا سحنته، لقد عمل معي كإداري عندما كنت رئيساً للأسبوع الثقافي وكان جلفاً كسولاً ولا يهتم بمظهره لذا طلبت إبعاده عن العمل بالجريدة، والآن ها هو وفي اليونان يرأس فندق الخمس نجوم وتوابعه الذي تملكه الدولة الليبية.
هذا، آخر حديث لي معه، عن القصة التي كتب، عن رجل الأمن الذي طرده، ليجده يدير مؤسسة سياحية كبرى حيث جاء ليعمل.
القاص أحمد إبراهيم الفقيه قناص دربٍ ومحنك للحدث، وهو سارد سلس يعجن الحدث ويعيد تشكيله، ما يكون اعتيادياً كرأس أغنية مثلاً (طاحن نجوم الليل... وأنت وينك) ما تحول لقصة (واختفت النجوم)، ومن ذا فإن سردياته نسج لما سمع ورأى وعاش، فهو مدون للكثير من المشافهات الليبية، والتخييل عنده في التقاط المنسي والمعتاد وما على قارعة الطريق، فجعل ما هو واقعي متخيلاً، وبهذا فإن سرده المكثف السهل السلس، والمتاح الذي لم يتح لنا مطالعته إلى الساعة لأن أحمد إبراهيم الفقيه أسهب في الكتابة، حتى أنه كتب أطول رواية في العربية حتى الآن، لكن القصص القصيرة من جمالياته الاستثنائية التي أضافت للسردية إضافة لافته للنظر الحصيف.
وبهذا فإنه جعل من الكتابة الليبية كتابة مميزة مع نفر من زملائه، منهم من سبقه في وداعنا، ومنهم الذي سائر في الدرب المضيء الذي سار في مقدمه القاص أحمد إبراهيم الفقيه.
الجدير ذكره أنّ الصديق القاص والروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه توفي الأربعاء الأول من مايو (أيار) 2019، عن عمر يناهز 77 سنة.