خاضت السعودية حراكاً متسارعاً في السنوات الخمس الماضية على مستويات عدة، إلا أن الشق الفكري والديني منه ظل محفوفاً بعدم اليقين، خصوصاً من بعض المحافظين وجماعات الإسلام السياسي التي تُمني نفسها بالعودة إلى ما كانت عليه ولو بعد حين.
لكن المحور الفكري في الحوار الأخير مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كشف عن ملامح مشروع الدولة في هذا السياق، وجاء منسجماً مع تحولات عدة بدأت بها رؤية السعودية 2030 مثل إلغاء نفوذ "هيئة الأمر بالمعروف" والتصالح مع الفن والسينما والترفيه بعد عقود من الرفض والتحريم.
إلا أن رجل الرياض القوي ظل كل الفترة الماضية يكتفي بتطبيق ذلك عملياً من دون التوسع في التنظير للنهج الذي يمضي عليه، قبل أن يبسط ذلك في اللقاء الذي أجراه معه الزميل عبدالله المديفر الثلاثاء 27 أبريل (نيسان) وأذيع على قنوات سعودية عدة، وأكد فيه الأمير صراحة، أن "دستورنا كان القرآن وسيبقى كذلك، مثلما ينص على ذلك النظام الأساسي للحكم، ونحن كحكومة أو مجلس الشورى كمشرّع أو الملك كمرجع للسلطات الثلاث ملزمون بتطبيق القرآن بشكل أو آخر".
الفرق بين "المتواتر والآحاد"
أما في الشأن الاجتماعي والشخصي، فإن ولي العهد أوضح أن الدولة تقوم فقط "بتطبيق النصوص الواردة في القرآن بشكل واضح، يعني لا يجب أن أطرح عقوبة شرعية من دون نص قرآني واضح، أو نص صريح من السنّة، وعندما أتكلم عن نص صريح من السنّة فأغلب مدوني الحديث مثل مسلم (صاحب صحيح مسلم) إلى حديث صحيح أو حسن أو ضعيف، لكن هناك تصنيفاً آخر وهو الأهم، هو الحديث المتواتر والآحاد والخبر، وهو المرجع الرئيس في استنتاج الأحكام واستنباطها من ناحية شرعية".
واستفاض في شرح الكيفية التي باتت في اعتقاده هي المثلى في التعامل مع مدونات السنة، وهي التفريق بين الآحاد والمتواتر، وأن "حديث الآحاد غير ملزم كإلزامية الحديث المتواتر إلا إذا اقترن بنصوص شرعية واضحة وبمصلحة دنيوية راجحة، هذا إن كان صحيحاً، (...) بينما الخبر الذي هو عن فرد عن فرد حتى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن جماعة عن جماعة عن فرد عن النبي، فهذا يشكل النسبة العظمى من الأحاديث، وهي بهذا الشكل غير ملزمة".
وأشار إلى أن الإشكال في هذا الجانب أن النهج النبوي اقتضى في بداية الأمر تجنب كتابة الحديث كي لا يختلط بالقرآن، فكيف نأتي اليوم ونلزم الناس بأخبار ليست قطعية الثبوت حتى عندما تتعارض مع القرآن "كأننا نطعن في قدرات الله سبحانه وتعالى في أن القران صالح لكل زمان ومكان، فالحكومة في الجوانب الشرعية ملزمة بتطبيق النصوص التي في القران وملزمة بتطبيق النصوص في الحديث المتواتر وتنظر للحديث الآحاد بحسب صحته وضعفه ووضعه، ولا تنظر في حديث الخبر بتاتاً، إلا إذا كان ينص على مسألة فيها مصلحة واضحة للإنسان، فلا عقوبة على شأن ديني إلا بنص قرآني".
عقاب الآخرة ليس وظيفة الدولة
وضرب مثلاً بالعلاقات غير الشرعية بين الرجل والمرأة في الإسلام، وكيف أن مدونات السنة والسيرة النبوية وثقت قصة مشهورة لامرأة أنجبت خارج الزواج، فجاءت مرات عدة تريد من النبي عليه الصلاة والسلام أن يوقع عليها "حد الزنا"، إلا أنه ينصرف عنها مرة بعد أخرى، مما يعني وفقاً لما قرر أن الأمر في هذا الشأن متروك للفرد بينه وبين ربه، وأن عقاب الآخرة ليس من وظيفة الدولة "فالله سبحانه وتعالى عندما أراد أن نعاقب على جرم شرعي نص عليه، وعندما حرم شيئاً ووعد بالعقاب عليه في الآخرة لم ينص ولم يأمرنا كبشر أن نعاقب عليه، بل ترك الأمر للفرد أن يختار وحسابه يوم الدين، وفي الأخير الله غفور رحيم ويغفر كل شيء إلا أن يشرك به، فهذا هو المنهج الصحيح لتطبيق القرآن والسنة بناء على دستورنا ونظام سياسة الحكم".
وتجرم السعودية العلاقات خارج إطار الزواج، لكنها لم تتدخل في خصوصيات الأفراد مثل السابق، وأقرت قانونين ضد "التحرش"، وآخر لحفظ "الذوق العام"، وأسندت للشرطة الأمنية تطبيق موادها بدلاً من الشرطة الدينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يتردد الأمير لدى سؤاله عما إذا كانت الدولة ستبقى ملزمة بالمدرسة الوهابية، عن حسمه الجدل الذي تردد طويلاً، وقطع بفك الارتباط بين واقع بلاده الديني والسياسي مع مدرسة محمد بن عبد الوهاب (الوهابية) التي ظل المحافظون في الداخل والخارج يحاكمون السعودية إلى اختياراتها واجتهاداتها وإن مضى عليها نحو 300 عام.
ماذا سيكون رأي محمد بن عبد الوهاب؟
وقال "نحن متى ما ألزمنا نفسنا بمدرسة معينة أو بعالم معين، فإن ذلك يعني أننا قمنا بتأليه البشر، والله سبحانه وتعالى لم يضع بينه وبين الناس حجاب، أنزل قرآنه على رسوله وهو طبقه على الأرض، والاجتهاد مفتوح إلى الأبد والشيخ محمد عبدالوهاب لو خرج من قبره ووجدنا نلتزم بنصوصه ونغلق عقولنا عن الاجتهاد ونؤلهه أو نضخمه لكان أول من عارض هذا الشيء، فلا توجد مدرسة ثابتة ولا يوجد شخص ثابت، القرآن موجود والاجتهاد مستمر فيه، وكذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الفتاوى فهي بحسب كل زمان ومكان، وبحسب كل فهم".
بيد أنه لفت إلى أن ذلك لا يعني التفريط في الهوية الإسلامية التي طبعت البلاد بوصفها قبلة المسلمين حيث مكة والمدينة، بل اعتبرت الرؤية تلك الصفة أحد مكامن قوة الدولة المحورية، فأكدت أن السعودية "أرض الحرمين الشريفين، أطهر بقاع الأرض وقبلة أكثر من مليار مسلم، مما يجعلها قلب العالمين العربي والإسلامي"، ومن بين خططها قبل أزمة كورونا رفع أعداد المعتمرين ابتداء من هذا العام إلى 10 ملايين سنوياً، ومستوى جودة الخدمات المقدمة إليهم "لتكون نسبة رضاهم عالية".
وهذا السياق بدلاً من تناقضه مع خطوات ولي العهد الإصلاحية، اعتبره مكملاً لها، فهوية السعودية اليوم تستمد قوتها من إرثها الثقافي العربي والإسلامي "وإذا لم تستطع أن تصمد مع التنوع الكبير في العالم معناه أن هويتنا ضعيفة ويجب أن نستغني عنها، وإذا هويتك قوية وأصيلة تستطيع أن تنميها وتطورها وتعدل السلبيات فيها وتحفز الإيجابيات التي فيها، بما يعني المحافظة عليها قوية".
وتابع "نحن في المملكة العربية السعودية حتى لبسنا وعاداتنا عريقة وتقاليدنا وإرثنا الثقافي التاريخي، وقبل كل ذلك إرثنا الإسلامي شكل جزءاً رئيساً من هويتنا، نطوره مع تطور الزمان ونستمر في تعزيزه لكي يكون أحد عناصر تشكيل العالم وأحد عناصر الأشكال الموجودة في العالم، واعتقد أن هويتنا قوية للغاية نفتخر بها، وهي جزء رئيس من صنعي أنا وأنت وكل مواطن سعودي. جزء أساس في الحراك القائم في السعودية هي بسبب هويتنا السعودية التي بنيت على الهوية الإسلامية والعربية وإرثنا الثقافي التاريخي".
لا نخترع العجلة
ولدى الحديث عن شكل نظم الدولة التي تستهدف السعودية الجديدة إرساء قواعدها، عاد ولي العهد إلى إيضاح مفهومه للمواءمة بين دولة متمسكة بقيمها الدينية وهي في الوقت نفسه تكون جزءاً من العالم غير معزولة.
وأضاف "نحن لا نخترع العجلة، العالم كله يعمل على أنظمة واضحة وقوانين واضحة لتنظيم حياة البشر، نحن دورنا أن كل القوانين التي تسن في المملكة العربية السعودية لا تخالف القرآن والسنة، وتعزز مصالحنا وتحافظ على أمن المواطن ومصالحه وتساعد في تنمية وازدهار الوطن، فتسن القوانين بناء على هذا الإجراء بحسب المتعارف عليه دولياً".
ومنذ القدم ساد جدل بين المدارس الفقهية والفكرية حول المباحث التي أحال إليها المسؤول السعودي، وصارت موضع سجال أرباب نظريات الدولة الدينية والمدنية، والسياسة الشرعية، ومقاصد الشريعة، والقواعد الفقهية، وحجية السنة، ومن بين أشهر إطلاقاتهم قول ابن القيم في هذا الصدد "فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ودينه"، بينما لا يزال يحدث قول الفقيه الحنبلي الطوفي جدلاً كبيراً بين التيارات السلفية، وهو الذي قرر أنه "إن تعذر الجمع بين أدلة الشرع والمصلحة قدمت المصلحة على غيرها، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا ضرر ولا ضرار"، وهو خاص في الضرر المستلزم لرعاية المصلحة، فيجب تقديمه".
لكن الفقيه التونسي المعاصر عياض ابن عاشور أكد في مؤلف أصدره حديثاً أن الإشكالية الكبرى هي في ما سماه "الإسلام الأرثوذكسي"، أي الإسلام الشعبي الذي تتنازعه تيارات الإسلام السياسي وتحاول فرضه على الجماهير الإسلامية حتى غدا هو السائد والأشهر، بينما هو يكاد يختلف جذرياً عن "الإسلام الأصلي الصحيح، المبني على حديث لا ضرر ولا ضرار".
لا تنمية مع فكر متطرف
أما جانب التطرف الذي كان أشد الملفات التي استأثر التعاطي معها جهود قيادات السعودية المتعاقبة، فإن الأمير اعتبر استهداف بلاده بالأفكار الراغبة في التمدد والانتشار أمراً طبيعياً بحكم قوة تأثير المملكة الديني والسياسي والاقتصادي.
وأوضح ذلك بأنه لو كان مثل أسامة بن لادن ويرغب نشر التطرف في العالم كله، فإن الدولة التي تضم قبلة المسلمين ومقدساتهم ويتوافد عليها ملايين الحجاج والمعتمرين هي الأنسب لذلك، لأن أي رسالة تلقى قبولاً فيها تنتشر بشكل أسرع عالمياً.
واعتبر ذلك التفسير الأقرب في نظره لكون أي "فكر متطرف عندما يريد أن يبدأ يستهدف المملكة العربية السعودية. كنا في مرحلة من المراحل في مرحلة صعبة جداً، في الخمسينيات إلى السبعينيات المشروع العروبي والمشاريع الاشتراكية والشيوعية وغيرها من المشاريع في المنطقة التي أعطت فرصة لكثير من الجماعات المتطرفة أن تدخل بشكل أو آخر المملكة العربية السعودية وتصل إلى مواقع مختلفة سواء في الدولة أو في الاقتصاد إلى آخره، نتجت من ذلك عواقب رأينا أثرها في السنوات الماضية، اليوم لا نستطيع أن ننمو أو نجذب رؤوس أموال أو سياح ونتقدم بوجود فكر متطرف في المملكة العربية السعودية".
وكان الأمير محمد بدأ مشروعه بحملة واسعة النطاق ضد الأفكار المتطرفة، اعتبرها البعض واحدة من الأسباب التي دفعت بالعديد من الدعاة السابقين والمحسوبين على التيارات الجهادية والإخوانية والسرورية إلى الاعتقال، إلا أن العديد منهم جرت محاكمته أمام القضاء السعودي، فيما لا تزال الأحكام الصادرة ضد البعض الآخر غير نهائية حتى الآن.
وشدد ولي العهد حينها على أن بلاده لن تهدر من وقتها 40 سنة أخرى في مداراة المتطرفين، ولكن ستقوم بتدميرهم الآن وفوراً. وهو أقوى إعلان على الإطلاق تشهده السعودية ضد التطرف، على الرغم من انتقادات المنظمات الحقوقية الدولية لبعض تطبيقات الرياض في هذا الصدد، قبل أن يقر بعضها أخيراً بأن إصلاحات السعودية على هذا الصعيد آتت أكلها، ودفعت الإعدام إلى التراجع بنحو 80 في المئة.
في نهاية المطاف يشير ولي العهد في الجانب الفكري من الحوار المطول معه، إلى أن على بلاده أن تختار "فإذا تبغى ملايين الوظائف والبطالة أن تنزل، والاقتصاد أن ينمو، وتريد من دخلك يتحسن؛ يجب أن تستأصل هذا المشروع (التطرف) لمصلحتنا الدنيوية، ناهيك عن مصلحتك أمام الله سبحانه وتعالى بأن هؤلاء لا يجب أن يمثلوا ديننا الحنيف ومبادئنا السمحة بشكل أو بآخر، فهذا لا شك جريمة نتج منها إنشاء منظمات إرهابية وجماعات متطرفة قتلت أرواح الأبرياء في جميع أنحاء العالم، كما قتلت أرواحاً في المملكة العربية السعودية، وأضاعت مصالح اقتصادية عدة، فهذا عمل إجرامي غير قانوني محرّم، بناء على قوانين المملكة العربية السعودية فأي شخص يتبنى منهجاً متطرفاً حتى لو لم يكن إرهابياً فهو مجرم يحاسبه القانون".