Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تاريخ إسبانيا الإسلامية" كما استعاده ليفي بروفنسال

عندما يتجنب الباحث الجاد السجالات التي لا نفع فيها للعلم أو التاريخ

عبد الرحمن الثالث يستقبل أحد السفراء في مدينة الزهراء بقرطبة (بريشة الرسام الإسباني ديونيسيو بيكسارز فرداجور 1862 ـ 1943)

في الصفحات الأخيرة من كتابه المرجعي الأساسي "تاريخ إسبانيا الإسلامية"، يخبرنا المستشرق الفرنسي إيفاريست ليفي بروفنسال بأن الخلافة الأموية في إسبانيا الإسلامية "سقطت في ما لا يزيد عن ربع قرن وكأنها قلعة من ورق "أقامها الأمويون بعد جهد جهيد على هذه الأرض وأسسوها خير تأسيس. ومع ذلك فقد راحت الهزات العنيفة تزلزل كيانها. ويمكننا تخمين الأسباب التي أدت إلى هذا التهاوي السريع على رغم أن المؤرخين العرب لا يكادون يشيرون إلى شيء منها وهي: ضعف هشام الثاني والوصي العامري الثالث واستمر الأمر كذلك حتى ذهب آخر ممثل للدولة المروانية. كما كان التدخل المتزايد وغير المحسوب من قبل البربر والصقالبة، وكذا الفوضى التي كان عليها العامة في قرطبة، يضاف إليها كسل الطبقة البورجوازية ذلك أن الأمر ببساطة يعني التفكك التدريجي لنسيج المجتمع الأندلسي غير المتجانس مع ما صحب ذلك من إطلال العصبيات برؤوسها وكذا الحزبية السياسية...".

سؤال الراهن السياسي

ترى حين وضع ليفي بروفنسال هذا الكتاب معلماً فيه على ما حدث في الأندلس في القرن العاشر ليشكل بداية انهيار تلك الحقبة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، أفلم يكن كمن يوصّف ما يحدث في بقاع كثيرة من العالم العربي في أيامنا هذه؟ طبعاً لن نتوقف هنا للإجابة على هذا السؤال – الاقتراح، لأن موضوعنا هو بالتحديد هذا الكتاب الضخم والتجديدي الذي طرقه الباحث الفرنسي المولود في الجزائر والذي أمضى سنوات طويلة من حياته يدرّس في مدن عربية ويشتغل على موضوع أساسي هو الوجود العربي في إسبانيا المسلمة. ولئن كان اجتهاد ليفي – بروفنسال في هذا المجال قد أنتج عدداً كبيراً من الكتب بين محققة ومؤلفة، فإن الكتاب الذي بين أيدينا يبقى مؤلفه الرئيسي، الكتاب الذي لم يعد في إمكان أي باحث في شؤون الحقبة الأندلسية أن يشتغل على موضوعه من دون الرجوع إليه.

دَين أوروبي

والحقيقة أن ليفي بروفنسال ينطلق في كتابه هذا من هاجس كان يتفاعل لديه منذ شبابه المبكر، هاجس يتعلق كما قال هو نفسه ذات يوم، بالدَين الكبير المتوجب على أوروبا تجاه إسبانيا الإسلامية. وهو إذ اعتبر أن الحقبتين التي حكم فيهما الأمويان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني، "مرحلة الازدهار الكبرى في تاريخ، لا سيما في ثقافة تلك المنطقة من العالم كما في تراكم الدَين"، أراد أن يبرهن على أن تلك المرحلة شكلت كنزاً حضارياً لا يقدّر بثمن، ومن هنا فإن سقوط الحكم الأموي، حتى وإن لم يُسقط معه الحكم العربي– الإسلامي الذي سيبقى قائماً أكثر من قرنين آخرين، أفقد أوروبا تلك الفرصة في تاريخها التي كانت فرصة تأسيسية بشكل مدهش. والحقيقة أن ليفي بروفنسال لا يهتم هنا بالسجال الحاد الذي يثور دائماً من حول النظرة التي ينبغي أن تُلقى على الوجود العربي في الأندلس أفتح هو أم احتلال؟ لم يكن همه هنا. بل كان في مكان أكثر شمولية وأهمية: التأثيرات التي خلقها ذلك الوجود والأثر الذي كان له على أوروبا والعالم بالتالي. ويقيناً أنه إذ تجنب الفخاخ المنصوبة على تلك الشاكلة عرف كيف يصيغ كتاباً لا يزال حتى اليوم فريداً من نوعه في التاريخ الحضاري، ناهيك ثميناً بكونه درساً في قيام الحضارات وسقوطها.

سنوات الدولة الأموية

كما يقول العنوان الثانوي للجزء الذي نتناوله هنا من "ثلاثية" ليفي بروفنسال، يتوقف سرد الأحداث التاريخية وتحليلها في عام 1030 الذي شهد سقوط الأمويين في قرطبة بعد أكثر من ثلاثة قرون كانت هي التي شهدت أوج الحضارة العربية في الأندلس بدءاً من عام 711. ويقسم المؤلف بحثه قسمين متساويين تقريباً يتناول في أولهما "فتح إسبانيا والإمارة الأموية"، بينما يتابع في الثاني مسار الخلافة الأموية في قرطبة حتى لحظة سقوطها. هكذا على مدى ما يقارب الخمسمئة والخمسين صفحة يمزج بروفنسال التاريخ السياسي بالتاريخ الاجتماعي غير غافل عن التاريخين الاقتصادي والثقافي ما يجعل الكتاب بأسره يبدو وكأنه ينتمي إلى مدرسة "الحوليات"، التي كانت تعيش بدايات إزدهارها على أيدي المؤرخين الجدد ومن بينهم طبعاً فرنان بروديل الذي سيكون لافتاً اشتغاله، في نفس فترة اشتغال ليفي بروفنسال على تاريخ إسبانيا المسلمة، على تاريخ الحقبة التالية في أطروحته المؤسسة بدورها عن "المتوسط في زمن فيليب الرابع". ولعل في مقدورنا القول هنا كم أن العملين يبدوان متكاملين بشكل أو بآخر ما يثير التساؤل حول تناسي مؤرخي "الحوليات" لإنجازات صاحب "تاريخ إسبانيا الإسلامية"، غير أن هذا ليس موضوعنا هنا طبعاً.

نظرة خلدونية متعمّدة

موضوعنا هو الجانب الذي نظر ليفي بروفنسال منه إلى تلك الحقبة الأولى من تاريخ الوجود العربي في إسبانيا، وهو جانب لا بد هنا من الإشارة إلى أنه بقدر ما يدين إلى المستشرق دوزي، في محاولة منه لتجاوزه، استناداً كما يقول المؤلف "إلى العديد من الدراسات الهامة التي لم تصدر إلا عقوداً بعد وضع دوزي مؤلفه ومن ثم رحيله"، فإنه يدين كذلك وبشكل أكثر اتساعاً إلى ما كان اكتُشف حتى ذلك الحين من مساهمات ابن خلدون في صياغة علمي التاريخ والعمران. بشكل لا لبس فيه إذاً، يضع ليفي بروفنسال مؤلفه تحت ظل استنتاجات صاحب "المقدمة" التي تتعلق بقيام الدول وزوالها. بل يبدو في الفصول الأخيرة من الكتاب وكأنه يجد سبيله إلى تطبيق النظريات الخلدونية في هذا المجال، وربما بلغة أكثر حداثة تستفيد مما تطور إليه علم التاريخ وعلم العمران في القرون التي تفصلنا عن ابن خلدون. ولا ريب أن هذا يعيدنا مرة أخرى إلى مدرسة الحوليات التي ثمة روابط غير إرادية على الأرجح تربطها بالنظريات الخلدونية. ومن المؤكد أن هذا كله ينتمي إلى الجديد الذي جاء به ليفي بروفنسال بنظرته العلمية الصارمة والتي تتضافر بشكل خلاق مع ذلك التعاطف الذي لا يتوقف عن إبدائه تجاه التجربة التي مثلها الفتح العربي للأندلس. وهو تعاطف جعل كتبه تترجم باكراً إلى العربية وتُستخدم من قبل كثر من المؤرخين العرب المعاصرين الذين كتبوا عن الأندلس وربما أحياناً من منظور عاطفي سهى عن باله الجانب العلمي التحليلي من كتابات ليفي بروفنسال!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جذور أندلسية - جزائرية

ولئن كانت النزعة العلمية قد حدت بليفي بروفنسال إلى وضع ذلك السفر، فإن ما يمكن قوله هنا، إن جذور ذلك المفكر التي تعود إلى عصور الأندلس الذهبية، وولادته في مدينة الجزائر في 1894 حيث ترعرع في بيئة شرقية خالصة، شكلا دافعاً ذاتياً إضافياً. وليفي بروفنسال تلقى دراسته الثانوية والجامعية في قسنطينة ثم في الجزائر العاصمة. وكان في بداياته متردداً بين الدراسات العربية والرومانية، لكن الجرح الخطير الذي أصابه حين كان جندياً في جيش الشرق خلال معركة الدردنيل حسم الأمر، إذ إنه أرسل إلى الإسكندرية للعلاج، ومنها بُعث إلى مراكش ليقود موقعاً عسكرياً قرب حدود الريف، فأحس بعودة ارتباطه العربي إليه وحسم أمره، حيث تابع دراساته العربية، وعين في عام 1920 في "معهد الدراسات العليا المراكشية" في الرباط، في نفس الوقت الذي أعد فيه رسالتين للحصول على الدكتوراه. ومن خلال رسالتيه تبدى اهتمامه في ذلك الحين متمركزاً حول المغرب ومراكش، لكنه سرعان ما اتسع ليشمل إسبانيا الإسلامية، حيث- بحسب تعبير د. عبدالرحمن بدوي- أدرك أنه لا يمكن الفصل بين تاريخ المغرب وتاريخ إسبانيا الإسلامية. وهكذا بدأ اهتمامه، منذ 1928، بهذا التاريخ الأخير، فأبدع فيه أعمالاً لا تزال تعتبر حتى اليوم مراجعه الأساسية.

حقبة مصرية

في بداية الثلاثينيات توجه ليفي بروفنسال إلى مصر، حيث أقام فترة من الزمن طويلة مكنته من الإمعان في دراسة موضوعه ومن التعمق في دراسة التاريخ العربي والإسلامي بشكل عام. بعد ذلك عاد إلى الجزائر مسقط رأسه حيث عين أستاذاً للتاريخ الإسلامي، لكنه عند نهاية الحرب العالمية الثانية وجد نفسه في فرنسا، حيث عاد من منفاه في تولوز، وقد تضخمت شهرته ومكانته، فعيّن عام 1945 مديراً لمركز دراسات الشرق المعاصر، ثم في 1950 مديراً لمعهد الدراسات الإسلامية في جامعة باريس، وهو منصب شغله فترة، ثم عاد أستاذاً في الجامعة نفسها حتى وفاته في 1956، وبعد عامين من تأسيسه لمجلة "آرابيكا" المتخصصة في "دراسة الآداب والعلوم الاسلامية".

وحين رحل ايفاريست ليفي بروفنسال عن عالمنا عام 1956 ترك وراءه عدداً كبيراً من المؤلفات والتحقيقات، التي جعلت له مكانة أساسية في تاريخ الاستشراق الفرنسي المعاصر، كما خلف ذكرى عطرة لدى أصدقائه من كبار العلماء العرب والمسلمين في شتى أنحاء العالمين العربي والإسلامي. ومن أبرز مؤلفاته إلى جانب كتبه "الإسبانية" التي سبقت إشارتنا إليها: "المخطوطات العربية في الاسكوريال" (1928)، "رسالة في الحسبة لأبي عبدالله محمد السقطي المالطي" (1931)، "كتاب أعمال الأعلام لابن الخطيب"، "مذكرات عبدالله آخر ملوك بني زيري في غرناطة" (1936)، "شبه جزيرة إيبيريا في العصر الوسيط بحسب كتاب الروض المعطار للحميري" (1938)، "الإسلام في الغرب: دراسات في تاريخ العصر الوسيط" (1948)، "جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي - نشرة نقدية" (نشرته دار المعارف في القاهرة ضمن سلسلة "ذخائر العرب").

المزيد من ثقافة