Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروسية إيزابيلا أحمدولينا تمردت سياسيا وجددت شعريا

رفضت الانضمام إلى حملة إدانة باسترناك واختارت الدفاع عن المنشقين السوفيات   

الشاعرة إيزابيلا أحمدولينا (موسوعة الكتّاب الروس)

إيزابيلا أحمدولينا صاحبة التاريخ المثير للجدل، أحد أهم رموز كلاسيكيات الأدب الروسي، ممن يظلون يستقطبون اهتمام الأوساط الأدبية المحلية والعالمية. هي نتاج "خليط قومي" تباينت مفرداته بين التترية والروسية والإيطالية، اجتمع في أسرة ميسورة الحال، كان عمادها الأب التتري القومية أخات ولي الدين أحمدولين، من مشاهير تلك الحقبة التاريخية العاصفة في ثلاثينيات القرن الماضي، وأحد أبطال الحرب العالمية الثانية، بينما كانت الأم الإيطالية الأصل تعمل كمترجمة في جهاز "كي جي بي" في رتبة "رائد".

ولدت بعد مولد شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين بمئة عام. يذكرون بداية مسيرتها على الصعيدين المهني والشخصي مع زملائها من جيل الستينيات "المتمرد المؤيد للتغيير"، ومنهم يفغيني يفتوشينكو النجم المدلل للسلطة الحزبية الذي فسر وقوعه في حبه واقترانه بها، بقوله إن أحداً ممن عرفوها وطالعت أنظارهم محياها بسمرته المتميزة، وبلغت آذانهم أصداء صوتها الرنان لا يمكن إلا أن يقع في غرامها.  

اسمها "إيزابيلا" إسباني الجذور، اختارته جدتها عن الأم تعبيراً عن حبها وهوسها بما كانت تموج به إسبانيا من إرهاصات ثورية في عام 1937 سنة ميلادها، في العاشر من أبريل (نيسان)، قبل أن يتوارى عن عمد وسبق إصرار من صاحبته التي اختزلته في وقت لاحق إلى "بيلا" الذي عرف به العالم هذه الفاتنة المتمردة "بيلا أحمدولينا". أما اللقب فهو "أحمدولينا" ورثته عن أبيها التتري الأصل لتحتفظ به وترفض تغييره طيلة زيجاتها الأربع، رغماً عن القيود التي تفرضها ما ترسخ من عادات وتقاليد تقضي بتخلي الزوجة عن لقب عائلتها لحساب لقب الزوج.

الموهبة الشعرية تفجرت مبكراً ولم تكن بلغت الثامنة عشرة من العمر، لتحدد كثيراً من مراحل حياتها الشخصية. ومع أول ظهور لها على صفحات مجلة "أكتوبر" في عام 1955 ولم تكن أنهت دراستها الثانوية بعد، حظيت باهتمام ملحوظ من جانب الأوساط الأدبية السوفياتية. وحملها ذلك إلى مقاعد الدراسة بمعهد غوركي للآداب، بكل ما تعنيه هذه المؤسسة التعليمية المتميزة من معان وأهمية للشعراء والأدباء الشبان. ولم يمض من الزمن كثير حتى تدفقت أشعارها ومشاعرها لتكون مجتمعة من خليط حدد كثيراً من ملامح حاضرها ومستقبلها. فعلى المستوى المهني أثارت بيلا أحمدولينا اهتمام النقاد بأول مجموعة شعرية نشرتها ولم تكن قد تجاوزت الصف الثالث في معهد غوركي للآداب، وهي المجموعة التي فتحت لها "أبواب المجد" وكانت بعنوان "الوتر". وعنها قال يفتوشينكو، إنه وقع في حبها من النظرة الأولى، وكانت موهبتها الآسرة أقصر السبل التي قادته الاقتران بها دونما تفكير في العواقب.

"الوتر" مجموعة شعرية

"الوتر" هو العنوان الذي اختارته بيلا أحمدولينا لديوانها الأول الذي تخاطفه القراء، وكان يباع في المكتبات بسعر زهيد. "الوتر" ذلك الرمز الذي حدد كثيراً من أركان شهرة أحمدولينا التي جابت الآفاق سوفياتية كانت أو عالمية، وكان عنواناً لاسم "بيلا" الذي قالوا إنه ما إن يلامس ذلك "الوتر" المشدود، حتى يصدح عالياً رناناً بأعذب الأشعار الغنائية. وعما وراء توقفها عند هذا الاسم عنواناً لمجموعتها الشعرية الأولى قال ناقد: "إن عنوان ديوانها الأول "الوتر" لم تختره عن محض صدفة، فهو ذلك "الخيط المشدود" الذي يحدد نبرات صوتها، المثير للخوف والرجفة في حال انكساره. إنه مقياس "الترددات" التي تتدفق سحرية، بهية، رنانة، ليس فقط لدى إلقائها لأشعارها، بل وفي معرض بسيط حديثها اليومي، ما يضفي كثيراً من البهاء والجمال الذي يلف بسيط الأشياء وصغيرها". 

وينقل معاصروها ما كانت تلقى من اهتمام يعكسه احتشاد الجماهير التي كانت تكتظ بها القاعات والساحات الرياضية للاستماع إلى ما تلقيه من أشعار. ولم يكن صوتها الهادئ الرنان، وما كانت تتسم به من جمال طبيعي أخاذ، وأناقة مفرطة، وراء ذلك الاهتمام. بل وكان كذلك أسلوبها الذي اختارته خليطاً من الاستعارات والتشبيهات والمرادفات الموسيقية الغنائية التي وصفها يوسف برودسكي الحائز على جائزة نوبل بأنه "كنز من الشعر الروسي". أشعار أحمدولينا شلال جارف من الصور الغنائية التي تبدو وكأنها تنسج جملة من الحكايات البسيطة التي تعكس خيالاً متفرداً، وإن بدت في بعض جوانبها أقرب إلى أغاني "الراب".

شعر وسينما

لم تقتصر موهبتها على كتابة الشعر، بل عرف عنها كونها فنانة سينمائية تتجاوز حدود الهواية، لتقوم ببطولة فيلمين هما "مثل هذا الرجل يعيش" من إخراج فاسيلي شوشكين عام 1964، وهو الفيلم الذي فاز بجائزة "الأسد الذهبي" لمهرجان فينيسيا السينمائي، وفيلم "الرياضة... الرياضة... الرياضة" في عام 1970. ولكونها مترجمة تجيد لغات عدة نقلت منها وإليها الكثير من أعمال الأدباء والشعراء في فرنسا وإيطاليا وبولندا ويوغوسلافيا والمجر وبلغاريا وجورجيا وأرمينيا وغيرها من البلدان، الأمر الذي كان مصدراً وملهماً للشائعات التي لاحقتها لأسباب تعود إلى عمل أمها الإيطالية الأصل كمترجمة في جهاز "كي جي بي" (لجنة أمن الدولة).

غير أن هناك من كان له رأي آخر، استند وكما قيل آنذاك إلى كثير من مواقفها الاجتماعية ذات الصبغة السياسية التي تأرجحت بين حب الوطن ورفض ضغوطه المتمثلة في الرقابة وقرارات ملاحقة الأدباء والفنانين من ذوي الآراء المعارضة. وهو ما تمثل في رفضها الانضمام إلى "الجوقة" التي أعلنت رضوخها لتعليمات "إدانة" الشاعر والأديب السوفياتي المنشق بوريس باسترناك وروايته "دكتور جيفاغو"، ولم تكن تخرجت بعد في معهد الآداب الذي قرر فصلها، وإن برروا ذلك آنذاك برسوبها في مادة "الفلسفة الماركسية اللينينية". وكانت بيلا كما كانت تحب أن يكون عليه اسمها، قد انخرطت في النشاط غير المعلن لأبناء جيلها في ستينيات القرن الماضي، وما تلاها من سنوات شهدت طردها من اتحاد كتاب الاتحاد السوفياتي، بسبب مواقفها المؤيدة للمنشقين السوفيات، ومنهم باسترناك وألكسندر سولجينتسين وأندريه ساخاروف، وما كانت تدلي به من أحاديث وتصريحات، تتلقفها الإذاعات والصحف الغربية ومنها صحيفة "نيويورك تايمز"، وإذاعة "ليبرتى".

لم تذهب بموهبتها الشعرية بعيداً إلى عالم السياسة. اكتفت بمواقف الشجب والتأييد مشاركة منها في قضايا الوطن والمواطن لتكون أكثر التصاقاً بخطايا السياسة. دعمت رموز الانشقاق والمنشقين. انضمت إلى جموع المثقفين المعارضين. وقعت النداءات وعرائض الاحتجاجات. تعرضت للمنع والحظر وقيود الرقابة التي حاصرتها طويلاً، ولم تعد إلى حريتها التي كانت، إلا مع بدء سنوات البيريسترويكا في منتصف القرن الماضي. عادت إلى الأضواء أقوى من ذي قبل. وجدت إبداعاتها الطريق إلى اللغات الأوروبية، وتخاطفت المطابع دواوينها لتغدو واحدة من الأكثر ذيوعاً وانتشاراً.  

 روح التمرد

لم تفارقها روح التمرد والاحتجاج. إبان سنوات السلطة السوفياتية كانت مع المنشقين المعارضين لتلك السلطة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وقفت مناوئة لما أصاب البلاد من كوارث. شخصت بكل قامتها وتاريخها لتقف معارضة لقصف البرلمان السوفياتي بالدبابات في أكتوبر (تشرين الأول) 1993. لم تترك مناسبة إلا وكانت في صدارة من يدلي بدلوه. رأي كان موقفاً. وهي في كل ذلك ومع كل ذلك لم تنس يوماً أنها خلقت شاعرة قيل عنها: "يمكن تتبع ميزة واحدة مثيرة للاهتمام في عملها: الشاعرة تتواصل مع روح الموضوع. المطر، والأشجار في الحديقة، والشمعة على الطاولة، وصورة شخص ما- جميعها لها خصائص روحية في شعر بيلا أحمدولينا. يمكن للمرء أن يشعر برغبته في إعطاء اسم للكائن والدخول في حوار معه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما عن حياتها الشخصية فلم تكن تتسم باستقرار كثير، فسرعان ما انفصلت عن زوجها الأول يفغيني يفتوشينكو ولم يكن زواجهما استمر أكثر من ثلاث سنوات تأرجحت بين الفراق والمصالحة. أما الزوج الثاني، وكان يوري نغيبين أحد أهم كتاب القصة القصيرة في حينه، فقد استمر ثماني سنوات، أعقبته بثالث مع أديب آخر لم يكن له من الشهرة مكانة، وهو غينادي ماملين. أما الزوج الرابع والأخير، فكان الفنان ومصمم الأزياء بوريس ميسيرر الذي عاشت معه لما يزيد على الثلاثين عاماً. وإن كانت المصادر تؤكد اقترانها بزواج مدني مع ألدار كوليف البلغاري الأصل، كان أذاقها الأمرين حتى انفصلا بعد سنوات كارثية تناقل كثيرون مفرداتها المؤلمة.

وكانت النهاية رمزية صاخبة. فمثلما اقترن مولدها بتاريخ ميلاد بوشكين منذ مئة عام، كانت النهاية قريبة من ذكرى تاريخ وفاة ليف تولستوي أحد أكبر أعمدة الأدب الروسي والعالمي بما يقرب من مئة عام. في عام 2010 غادرت بيلا أحمدولينا عالمنا، مجللة بكثير من التقدير، ليستقر جثمانها مع أبرز رموز الأدب والفنون والسياسية في مقابر عظماء روسيا في "نوفوديفيتشى موناستير" (دير العذارى) غير بعيد عن ضفاف نهر موسكو.    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة