Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بشرى خلفان تغوص في حكايات البحر وعالم البلوش

"دلشاد" تروي مراحل مجهولة من تاريخ عمان وتختار شخصيات من عمق الوجدان الشعبي

شخصيات عمانية في لوحة للرسامة عالية الفارسي (صفحة الرسامة على فيسبوك)

بعد عملها الروائي الأول "الباغ"، تعود الكاتبة العمانية بشرى خلفان برواية "دلشاد" (دار تكوين- الكويت) لتدلف من جديد إلى مناطق مجهولة من التاريخ العماني غير معروفة لدى القارئ العربي. وإن كان هذا ما فعلت بعضاً منه في "الباغ" مع أبطالها الذين اقتربوا من مرحلة زمنية معاصرة سبقت وصول السلطان قابوس إلى الحكم، وما تلا تلك المرحلة من اضطرابات في ظفار، فإن خلفان في "دلشاد" تمضي في ارتحال أكثر بعداً وتشعّباً، على مستوى الزمان والمكان والشخصيات التي تتعدد، وتتنوع أصواتها لتروي قصتها، لاهثة خلف أحداث ترجع إلى أبعد من قرن مضى.

لكن من هو دلشاد، الذي اختارت الكاتبة أن تُحمّله اسم روايتها؟

لا يطول حلول هذا السؤال، إذ يواجه القارئ حكايته منذ الصفحة الأولى. تبدأ الرواية مع فرحان أو "دلشاد"- الاسم بالفارسي- ليُلخّص ماضيه المضطرب، صبي مات والده الفقير المعدم، قبل ولادته بأشهر عدة. لكن دلشاد يحمل روحاً ساخرة يصف نفسه، قائلاً: "بسهولة كانت الأشياء تُضحكني، بخاصة تلك التي لا أفهمها حقّاً، وحتى عندما تضربني "ما حليمة" بين كتفيَّ لأني ضحكت في غير مكان الضحك". تتلازم تيمة الضحك في الرواية، وفي شخصية دلشاد تحديداً، مع تيمة الجوع، لكن الجوع هنا اجتماعي، ويسري على مجتمع ما زال في مهده، أما الضحك فيجسّد حالة تخص دلشاد وحده، وربما ابنته مريم أيضاً.

على مدار الرواية، ثمة حضور في الذهن لمدينة مسقط المميزة ببياض بيوتها وجبالها المهيبة، لكن مسقط الموجودة في النص لم يعُد لها وجود الآن، هي تلك التي كانت قبل مئة عام أو أكثر. تلملم الرواية حكايات من سيرة الفقراء والغرباء و"الغلابى" وأهل السبيل في مسقط القديمة، تؤلّف بينهم وتشبك مصائرهم في عذوبة موجعة، تجعل من: القدر والغربة والحب والجوع والضحك والفقر والحرب والحنين والغياب والموت والوجع والتشرد والجمال واللهفة والغدر والتعاطف، سلسلة أحداث وأحاسيس تنتظم جميعها داخل عقد واحد، يتبادل الأبطال تحريكه بين أصابعهم، وهم يروون ماضيهم وحاضرهم.

العالم في "دلشاد- سيرة الجوع والشبع"، شديد البؤس والشقاء، حيث يحيا الأبطال داخل خيام هزيلة لا تحميهم من الحر أو القر، لكنهم يقاومون واقعهم بالاحتماء بعضهم ببعض وبالحكايات والصبر والضحك وتربية الأمل. يُشكّل الغياب دلالة محورية منذ الصفحات الأولى، موت والد دلشاد ثم والدته، ولاحقاً غياب دلشاد نفسه لأكثر من عشرين عاماً يرتحل من ميناء إلى آخر، يترك ابنته مريم ويرحل بعد موت زوجته نورجيهان. يتمثّل الغياب في حياة الأبطال جميعاً بشكل أو بآخر، سواء بشكل قدري غامض، أو واقعي بغرض السفر بحثاً عن المال أو للدراسة، وتحضر الحروب - بما فيها الحرب العالمية الثانية - بكل آثامها وما تتركه من أوجاع.

تغيرات محورية

تتعدد الأماكن بين مطرح، مسقط ولجات، الشجيعية، بومباي، ويدور جزء من الأحداث الرئيسة التي تنطلق منها الحكايات، في "حارة الراوية" و"حارة البلوش"، الحارة الأولى للعرب، والثانية للوافدين من بلوشستان. تموت فضيلة بنت بطي، والدة فرحان الذي يصبح دلشاد، ويتربى في كنف ما حليمة، امرأة بلوشية معدمة تعيش مع أمها العمياء وأولادها: حسين ونورية وعيسى. ثم تحل الكوليرا بمسقط، لتأخذ معها نورية وحسين، فيظل دلشاد وعيسى فقط في رعاية ما حليمة. يمكن اعتبار هذا الحدث هو المدخل الرئيس للرواية ولحياة دلشاد كلها، يتمه، جوعه، تشرده، تربيته في بيت بلوشي، ثم زواجه من نورجيهان البلوشية أيضاً، لنقرأ: "وعندما طلبت من ما حليمة خطبتها لي ترددت، قالت لي إني ولد عرب وإن نورجيهان بلوشية وإن البلوش لا يزوجون العرب. لم أفهم ذلك، فلقد كنا نتشابه، أنا ونورجيهان وعيسى، في النحول واليتم والجوع وقلة الحيلة".

جاء البناء الروائي للعمل متّسقاً مع الصورة المتكاملة المراد إيصالها، إنها رواية شخصيات وتعدد وجهات النظر، إذ تمنح خلفان أبطالها مساحة الكلام عن أنفسهم، ففي كل فصل يظهر بطل ليحكي حكايته أو يتقاطع ما يحكيه مع حكاية أخرى، ثم ينسحب الأبطال ليظهر آخرون، ويظل دلشاد هو محور الحكاية الذي يلضم بقصته معظم الخيوط الرئيسة.

ترصد الرواية التغيرات السياسية والاجتماعية، وتعدد المجتمع العماني وتداخله، هجرة الوافدين من بلوشستان ومناطق أخرى من بلاد فارس، وتضع الكاتبة بعض الجمل باللغة البلوشية، التي تشكّل مزيجاً من الفارسية والهندية والعربية، تلجأ إلى هذه اللغة في الأمثال والاستعارات الجمالية. وتطرح الرواية بنيتها اللغوية المرصوصة، في اختيار مفردات معبّرة عن الزمان والمكان وخصوصية المجتمع.

رمزية البحر

تحضر رمزية البحر في كثير من المشاهد، فالبحر في الرواية مشارك فاعل في الحدث. إنه الشاهد الأزلي على التاريخ العماني العريق، حين كان لعُمان أسطول بحري ضخم لا تبزّه قوة إلا الأساطيل البحرية الأوروبية. هذه الرمزية تتجلى في مسيرة حياة البطل دلشاد، يوم كانت التجارة البحرية أساس الاقتصاد العماني في ذاك الوقت، بين موانئ الهند وآسيا وأفريقيا. لذا نجد في النص ظلال حكايات ألف ليلة، وعالم السندباد الرحالة الذي يمثّله البطل الرئيس وأبطال آخرون. لكن دلشاد بطل واقعي من لحم ودم، يقول: "أقف في مقدمة الباخرة الإنجليزية، وورائي مدخنتها العظيمة تنفث دخاناً أسود ما يلبث أن يتلاشى في الهواء".

اعتاد دلشاد منذ طفولته على تلقّي القسوة الإنسانية، لكنه يقبلها ضاحكاً، فالضحك يواجه المأساة، كما يواجه الجوع والموت. لكنه لم يتمكّن من تحمّل القسوة التي شاهدها في بومباي لفتاة تتعرّض لانتهاك من ثلاثة رجال، وكأن ذاك المشهد المفجع يذكّره بابنته مريم التي تركها طفلة، فيصيبه الحزن، ويقرر الرجوع إلى مسقط.

مريم ابنة دلشاد، أرملة تربي ابنتها فريدة، وتعمل في بيع القماش للنسوة، وتواجه الرجال بقوة حين يشكونها إلى الوالي لأنها تعمل في السوق، تقول: "من وراء الغشوة، فحصت وجهه مليّاً ووجوه من حوله من الرجال المهابين، علِّي أجد باب رحمة ألج من خلاله إلى قلوبهم، فوجدتهم يلبسون عمائمهم ويتمنطقون خناجرهم وفي أيديهم عصي يتكئون عليها وهم جلوس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ترصد الكاتبة أحداثاً ومشاهد من الحياة في مسقط: زيجات وسفر وعودة وواقع المرأة، وتتناسل الحكايات في تمظهر الشخصيات الكثيرة التي يؤدي كل منها إلى الآخر، في استدعاء متصل. قدّمت الرواية أيضاً صورة للتقاليد، والطقوس الاجتماعية السائدة في الأفراح والأتراح التي كانت مسيطرة سواء عند العرب أو البلوش، لنقرأ: "طرح مئة قرش فضة في حضني قبل أن يكشف الغطاء عن وجهي، وقال هذا مهرك، وناول قطعتين لما مويزي، فقبَّلت يمينه وأقفلت الباب وراءها وغادرتنا".

وعلى الرغم من كثرة الشخصيات، فإن بشرى خلفان تعرف أبطالها جيداً، وتغوص في دواخلهم، ثم تترك لهم حريتهم في الكلام. اختارت الكاتبة الفصول القصيرة وعنونتها بأسماء الأبطال. وعلى الرغم من أنها في كثير من المواضع، تسرد أحداثاً تاريخية كبرى، إلا أنها تمرّ عليها سريعاً، مما أبعد الرواية عن السرد التاريخي الرتيب. لنقرأ مثلاً عن إحدى الشخصيات التي تختزل ماضيها في هذه الفقرة: "حاول جدي أن يبتعد عن العسكرية والعسكر، لكنه لم ينجح في ذلك، فسلالة رسلان كانت تطغى بتوقها إلى الحرب والدماء... جدي خير الله رسلان التحق بالجيش البريطاني ولبس زي المشاة، وخدم في الهند تحت راية الملكة فيكتوريا، ثم خدم ابنه في العراق ومصر تحت راية الملك إدوارد، أما أبي فوصل إلى مسقط في أكتوبر 1914 كعسكري في فرقة الملك إدوارد الثانية للمشاة، ومثلهم فعلت أنا".

اختارت الكاتبة نهايات مفتوحة لحكايات أبطالها، منهية روايتها بجملة: "تم كتاب الجوع، يليه كتاب الشبع بإذن الله". على أن تظل حكاية "دلشاد"، كما الحياة، مشرّعة على احتمالات شتى بعد رجوعه إلى مسقط، واختياره العودة للعثور على ابنته مريم. وينتهي الجزء الأخير من الرواية مع صوت فريدة، وصدى حضور رمزية البحر، تقول: "أسمع البحر يناديني: تعالي. أعود إلى غرقي… يصيح رجل ما. الغريقة. الغريقة. الرمل بارد تحتي. أشعر بذلك. ثم يغيب كل شيء".

تؤكد صاحبة "رفرفة" و"صائد الفراشات الحزين" في عملها الروائي الجديد، قدرتها الحكائية التي تضفرها ببنية لغوية سلسة، جاءت مناسبة للحكاية وأحداثها المتشعبة وتعدد شخوصها وتركيب حواراتها، في عمل تجاوزت صفحاته 494 صفحة، وإن كانت وقعت في فخ واحد هو تكرار الحدث ذاته عبر أكثر من شخصية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة