Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دعم تحسين النسل البشري لم يختفِ بشكل فعلي ابدا لكن هذه هي الأسباب التي جعلته اتجاهاً سائداً من جديد

بغض النظر عما ينادي به توبي يونغ، كل نظام عقائدي شنيع و متحجر مثل تحسين النسل لم ولن يحمل أبداً أي وجه ’تقدمي‘. فلماذا نكتفي إذاً بالتصدي للمؤتمرات التي تُعقد في "يو سي ال"UCL أو كلية لندن الجامعية فقط؟

ليست فكرة "تحسين" الجنس البشري عن قصد بالجديدة (بي إكس هير)

كنت على السواء مرتاعة وغير  مباغتة عندما اكتشفت أن توبي يونغ (الذي كان لمدة قصيرة، لكنها أطول مما ينبغي، يحتل منصباً مؤثراً في هيئة مكتب شؤون الطلاب) لم يكن يمزح عندما قال إنه يدعم "تحسين النسل التقدمي". وكما جاء في المأثور، انصت دائماً للناس عندما يقولون لك من هم.

’يونغ’ -الذي طالما كان مصدر إزعاج لوسائل الإعلام على مدى عقود من الزمن- جادل منذئذ في أن آراءه الضارة في كل المسائل انتزعت "من سياقها"، وطالب بأخذ 50 ألف تغريدة على تويتر  بالاعتبار.

على كل حال، فإن تورطه بموضوع تحسين النسل لا غبار عليه: فقد أبرز تحقيق أجرته صحيفة ’طلاب لندن’ حضور ’يونغ’ العام الماضي بدعوة خاصة مؤتمراً داعماً لتحسين النسل، يُعقد منذ عام 2015 تحت أنظار المجتمع الأكاديمي في لندن.

جذور’مؤتمر لندن عن الذكاء’ (وللمفارقة، يُطلق هذا الاسم على تجمع مكرس بشكل كبير للهراء غير العلمي) ضاربة في العمق والبشاعة. ويشمل تاريخهم جناحي اليمين واليسار السياسيين على حد سواء، ولفيفٌ "عظمائنا وأجاويدنا" من  [أحد مؤسسي أدب الخيال العلمي الكاتب هربرت جورج] ويلز إلى  تشرشل.

ليست فكرة "تحسين" الجنس البشري عن قصد بالجديدة: ففي عام 381 قبل الميلاد تدبر أفلاطون فائدة "التناسل الانتقائي" للنخبة الحاكمة. إذ تخيل الفيلسوف ما يشبه حفل خلاعة ومجون ملكيا، حيث يُخصص للنخبة القليلة بالقرعة "شركاء تناسل". بعد ذلك، يتلقى الأطفال الذين يُقيَّمون على أنهم أفضل النماذج رعاية جماعية، فيما تُفنى البقية.

استفاد أفلاطون من سابقة في مسقط رأسه؛ فقد كان الرضع الإسبارطيون القدماء ممن وُسموا بالوهن حدا يمنعهم من تحمل حياة الجندية  أو وُلدوا بإعاقة بينة– يُنبذون في العراء دون طعام أو مأوى.

يبين لنا التاريخ أن عواقب تضييق الحوض الجيني هي في الواقع وعلى نحو مثبت وخيمة - من إعاقات موهنة استشرت في حكام مصر القديمة إلى "فك هابسبورغ" [أو  ظاهرة بروز الفك السفلي التي كانت سائدة عند أسرة هابسبورغ النمساوية الحاكمة في أوروبا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وهي اختلال العلاقة الموضعية بين الفك السفلي و الفك العلوي]، وصولاً إلى مقتل فالديمار أمير بروسيا متأثراً بجراحه التي أصابته في ساحة إحدى المعارك عام 1945،  لوراثته مرض الناعور [عدم تخثر الدم] عن آصرة الملكة فيكتوريا الجينية.

لكن هذه الحقائق البحتة لم تكن كافية للحد من تنامي هذا المعتقد المهلك خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصعودها إلى مقامات أعلى في إنجلترا في العصر الفيكتوري.

في عام 1798، تضاربت أفكار الكاهن الإنجليزي توماس مالتوس مع التصور المعاصر الذي كان يرى أن المجتمعات البشر ية  كانت تتحسن طبعا. فلقد ارتأى بدلاً من ذلك، أن ظروف المعيشة الأفضل تؤدي حتما إلى نمو سكاني وشح في الموارد. صار ’مالتوس’ شخصية مؤثرة جدا  طالع ’تشارلز داروين’ كتاباته.

بحوث داروين الرائدة في التطور والسمات الموروثة ستشكل قاعدة عمل ابن عمه فرانسيس غالتون، الذي سيستحدث كلمة "تحسين النسل" في عام 1883. وفيما أثنى داروين على عمل غالتون السابق، على الأقل أمام الرجل، كان على الدوام مشككاً في المحاولات الفظة لتطبيق نتائج بحوثه العلمية على عالم الواقع. لسوء الحظ، كان هذا بالتحديد هدفَ غالتون. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعض مفردات داروين يعد مُزعجا في يومنا هذا (مثل "الهمج" و "الأعراق المفضلة")، لكنه كان مناهضاً للاسترقاق، واستخدم مفهوم التحدر المشترك من الأجداد نفسهم دفاعا عن وحدة الإنسانية. لقد تأثر داروين بـالرائع جون إدمونستون، وكان مُستعبدا من غوايانا [في أميريكا الجنوبية] ومهماً للغاية في مسار داروين المهني. فبعد حصول إدمونستون على حريته، درَّس داروين في جامعة إدنبرة  ملهما عمله في أمريكا الجنوبية.

كان غالتون على النقيض عنصرياً مغاليا. فقد كتب أن "الزنوج" كانوا "همجاً كُسالى وثرثارين،" و أن "العربي" كان "مخربا أكثر منه مبدعا". كان لدى غالتون شعور بأن الانتقاء الطبيعي سينكب على مصير البريطانيين غير المناسبين - وكان يقصد بهذا فقط الطبقات العاملة -  لأن الرجال "غير الملائمين" (لم يكن ذكر النساء وارداً) لن يستطيعوا المنافسة وسيموتون جوعاً كما يليق، ومن الأحسن قبل أن يتكاثروا. إلى جانب ذلك، اعتبر غالتون أن إجبار "النماذج الجيدة" على التزاوج من شأنه المساعدة في سير الأمور على أتم وجه.

لكن المجتمع "الهمجي" لم يكن مرتبا وفقاً للتوجهات الرأسمالية - كانت الشعوب الملونة، في رأيه، "متوحشة وغير قابلة للترويض" بالفطرة.

يفضي عمل غالتون إلى استنتاجات مروعة وحتمية: هناك حاجة إلى حل أكثر وحشية لحسم "مشكلة" الأعراق غير البيضاء، وأن أبناء الطبقة العاملة من ذوي الإعاقة أو الأضعف بدنياً عديمو الفائدة بالنسبة للمجتمع، ويستحقون التضور جوعاً.

انتشرت أفكار غالتون. وسرعان ما أخذ أكاديميون "لهم احترامهم" يجادلون بأن الأيرلنديين كانوا " عرقاً زنجياً" وبالتالي هم عرق أدنى (أتحدث عن جذر التحيز ضد الأيرلنديين  الذي كان سائداً بشكل كبير في الأراضي البريطانية الأساسية واستمر حتى ثمانينيات القرن الماضي، والذي ناقشته في كتابي "إضرام النور"). توصل هؤلاء الذكور البيض المنادون بتحسين النسل إلى استنتاج مفاده أن البشر الوحيدين المتفوقين حقاً هم - ياللمفاجأة! بيض، و ذكور و ياحبذا لو كانوا بريطانيين.

ازدهرت أفكار غالتون، ووصلت إلى كافة مدارس الفكر السياسي، ولم تقتصر على اليمينيين فقط، بل كان من مناصريها يساريون مشهورون مثل المؤلف جورج برنارد شو، الكاتبة والناشطة آني بيزانت، الباحث الاقتصادي سيدني ويب و زوجته عالمة الاجتماع بياتريس ويب.

بيزانت، التي قادت الجمعية الفابية [الداعية إلى النشر السلمي للأفكار الاشتراكية] ، وما زالت بطلة بالنسبة لأولئك الذين لم يقرؤوا عنها بشكل كافٍ، تحتاج إلى توطئة على الهامش هنا: أصبحت رائدة على مستوى العالم لحركة فلسفة التصوف حديثة العهد، التي كانت مؤسستها ’مدام بلافتسكي’ من الأنصار المتحمسين لتحسين النسل وتدعم نظرية عرقية غريبة فيما يتعلق بالأعراق المتفوقة مثل الآريين (الأسطوريين) - وبالتأكيد سيتبنى الحزب النازي الألماني هذه النظرية.

حظيت فلسفة التصوف بشعبية وتأثير على نطاق واسع أيضاً، وأصبحت بيزانت بالتالي زعيمتها على المستوى الدولي. على الرغم من أن البعض ما زالوا يحتفون بها كشخصية اشتراكية، إلا أن بيزانت توصلت إلى الاعتقاد بأن الفقر كان عقاباً على الخطايا التي اتُركبت في الحيوات السابقة. كان هناك أيضاً قاسم مشترك واحد على الأقل بين ونستون تشرشل و هتلر - حيث اعتقد أن النقاء العنصري كان عرضة لخطر "البُلهاء"، وأنه يجب اتخاذ "تدابير" للسيطرة على الخصوبة لمنع ذلك، لأن تكاثرهم كان يسبب الجريمة والفقر وانحطاط العرق.

لا أحتاج إلى أن آتي على ذكر التطرف المروع الذي أخذ به النازيون مسألة تحسين النسل - ملايين اليهود والمثليين من الرجال والنساء، الغجر النورمندين، الملونين، المعاقين ذهنياً وعقلياً وجسدياً الذين تعرضوا للتعذيب والقتل.

يفترض أن يكون هذا وصمة عار لا تمحى على جبين الإنسانية، عميقة ومظلمة لدرجة تمنعنا من السير مرة أخرى على هذا الطريق الدموي. وقد تجسّد في شعار "لن يتكرر هذا أبداً" - لكن في الواقع، لم يختف تحسين النسل بشكل فعلي في يوم من الأيام.

في اليابان بعد الحرب، تم تطهير حوالي 84000 شخص بموجب قانون حماية النسل في البلاد. وفي الولايات المتحدة ، ساعدت الأموال التي جناها ’جون كيلوغز’ من مبيعات رقائق الذرة في إنشاء ’مؤسسة تحسين العِرق’ عام 1906. وفي العام التالي، سنت ولاية إنديانا قوانين التطهير القسري، وحذت ولايات أخرى حذوها، وتم تطهير ما يقدر بنحو 64000 شخص (61 في المئة منهم كانوا إناثاً) حتى عام 1963. وفي سبعينيات القرن العشرين، كشف نشطاء نسويون عن أطباء ما زالوا يقومون بعمليات التطهير القسري على الأميريكيين السود أو من الأقليات العرقية. بعد عامين، خلص تحقيق أجرته لجنة بمجلس الشيوخ إلى أن أكثر من 2000 من هذه العمليات، التي تعد غير قانونية حالياً، تم على نساء ملونات دون موافقتهن.  وكانت آلاف النساء الأميريكيات من السكان الأصليين أو الهنود عرضة لهذا الأمر أيضاً. 

لقد شهدت السنة الماضية، بالطبع، انتقال شخص يقول بتفوق العرق الأبيض من فئة متطرفة هامشية إلى البيت الأبيض .

وفي المملكة المتحدة، لم تنقطع الشائعات عن لقاءات سرية في لندن لكبار العلماء المنادين بتحسين النسل. نحن على دراية الآن بأن ’مؤتمر لندن عن الذكاء’ كان يعقد بالفعل منذ عام 2015 في  كلية لندن الجامعية UCL (التي تحتفظ بأرشيف غالتون). وتحدث يونغ بنفسه أمام مؤتمر كندي مؤيد لتحسين النسل عن التدابير السرية المتطرفة التي يستخدمها جيمس طومسون، منظم المؤتمر ومحاضر فخري مخضرم في كلية لندن الجامعية UCL.

من بين المتحدثين في المؤتمرات كان المدوّن الهولندي إميل كيركيغارد، الذي دافع ذات يوم عن اغتصاب الأطفال أثناء نومهم كوسيلة لتخفيف "الرغبة الملحة" لدى المعتدين على الأطفال، مفترضاً عدم إلحاق أي أذى عاطفي بضحاياهم.

كما حضر البروفسور ريتشارد لين من جامعة ألستر دورتين للمؤتمر. يرأس لين تحرير المجلة الفصلية ’مانكايند‘ Mankind او البشرية، التي أطلق عليها النقاد اسم "مجلة تفوق البيض"، والتي كان من بين أعضاء مجلس إدارتها في يوم من الأيام ’كورادو جيني، "المستشار العرقي" السابق لموسوليني.

بغض النظر عما ينادي به توبي يونغ، كل نظام عقائدي شنيع و متحجر مثل تحسين النسل لم ولن يحمل أبداً أي وجه ’تقدمي‘.

ما زال توبي يونغ مديراً لـ ’شبكة المدارس الجديدة’، وهي مؤسسة خيرية تمولها الحكومة وقد حصلت على ملايين الجنيهات الاسترلينية من أموال دافعي الضرائب.

وأنا شخصياً أتساءل عما إذا كان ينبغي، في عام 2018، السماح لرجال من أمثال يونغ، تومبسون أو لين، بأن يكونوا على مقربة من تعليم العقول الشابة.

الدكتورة ’لويز رو’ مؤرخة، ومقدمة برامج إذاعية، ومؤلفة كتاب "إضرام النور" ( دار بلومزبري للنشر) عن إضراب عاملات مصنع الكبريت الذي حدث عام  1888 (إبان الثورة الصناعية حين نظَّمن إضراباً احتجاجاً على التسلط والقهر الذكوري في عالم صناعة أعواد الثقاب)، ومُنظِّمة مهرجان ’لندن ماتش وومين - عاملات الكبريت’ السنوي في لندن.

© The Independent

المزيد من آراء