Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحاج عبد الله" فيلبي الذي هزم لورنس العرب

أشهر إسلامه ودفن في بيروت واختلف مع عدد من الزعماء العرب

الحاج عبدالله فيلبي في مقدم قافلة على الجمال في مدينة جدة السعودية العام 1917 (غيتي)

في 19 أبريل (نيسان) 1955 بينما كانت الاهتمامات السياسية منصرفة إلى التركيز على تداعيات الانقلاب الفاشل الذي حصل في اليمن ضد الإمام أحمد حميد الدين من قبل قائد الجيش أحمد يحيى الثلايا، وعلى زيارتَيْ، الرئيس اللبناني كميل شمعون إلى تركيا، ورئيس الوزراء العراقي نوري السعيد إلى بيروت، برز في الصحافة اللبنانية خبر صغير على صفحة داخلية تحت عنوان "المملكة السعودية تطرد عبد الله فيلبي". ربما لم يعنِ هذا الخبر لكثيرين، لكنه كان يكشف عن قصة أبرز الجواسيس أو الدبلوماسيين الإنجليز الذين تركوا علامات فارقة في خريطة المنطقة.

هذا الخبر لم يكن نهاية القصة

في الخبر: "أصدر الديوان الملكي أمس بياناً أعلن فيه أنه طلب من الحاج عبد الله فيلبي مغادرة المملكة السعودية وتفضل جلالة الملك (سعود) بمنحه الأملاك التي كان يقطنها في الرياض"، وقال البيان: "إن الحاج فيلبي أقام مدة طويلة في المملكة السعودية كان خلالها موضع الرعاية والإعزاز، ولكن الحكومة لاحظت في السنوات الأخيرة أنه يتجه اتجاهات غير ملائمة على الرغم من تحذيره مرات عدة، فاضطر جلالة الملك إلى أن يتخذ معه أسهل ما يمكن من الإجراءات بصفته أحد الذين كانت لهم صداقة سابقة مع جلالته واكتفى بأن يطلب منه الخروج من البلاد من دون أن يغمطه أي حق".

الحاج فيلبي بريطاني أقام زمناً طويلاً في السعودية يزاول التجارة ويؤلف الكتب عنها ويجوب أنحاءها منقباً عن الآثار، اسمه الحقيقي سير جون فيلبي. قصة سانت جون فيلبي، أو الحاج عبد الله فيلبي، فيها كثير من الفصول. وخبر إخراجه من السعودية، ليس عادياً إلا عند الذين لا يعلمون ما فعله طوال أربعين عاماً تقريباً أمضاها في بلاد العرب، بين العراق والأردن والسعودية في شكل خاص.

المنافسة مع لورنس

ولد السير جون فيلبي في سيريلانكا في 3 أبريل (نيسان) 1885. وانضم في العام 1908 إلى جهاز الحكم البريطاني في الهند، وأُرسِل إلى لاهور ليكون في خدمة الأمبرطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. من هنا ستبدأ رحلته نحو العالم العربي بعد أعوام قليلة عندما انتدبته السلطات ليكون قريباً من "السلطان" عبد العزيز آل سعود سلطان نجد. كان ذلك في الوقت نفسه الذي تم فيه انتداب لورنس العرب ليكون قريباً من الشريف حسين والبادئ بالثورة العربية ضد الأتراك. بذلك سيبدأ التنافس بين الرجلين في تأكيد السياسة التي يجب أن تتبعها إنجلترا في هذه المنطقة. هل تنصر الشريف حسين أم السلطان عبد العزيز؟

بدأ فيلبي مهمته الرسمية من بغداد بعد الحرب العالمية الأولى، مكلفاً من الحكومة البريطانية في الهند، فأراد أن يكون العراق ولاية تابعة للأخيرة، ودعا إلى قيام الجمهورية بدل الملكية التي كان على رأسها الملك فيصل الأول. بسبب هذه السياسة أخرجته حكومة بلاده من بغداد إلى عمان حيث اختلف أيضاً مع الملك عبد الله. بعد ذلك انتقل إلى الحجاز، وتقرب من "السلطان" عبد العزيز.

في تلك المرحلة كان التسابق بالغاً أشده بين وزارة الخارجية البريطانية وحكومة الهند الأمبراطورية في مستهل القرن العشرين لبسط النفوذ الإنجليزي على أنحاء الجزيرة العربية، بعدما وثقت حكومة لندن من أن "الرجل المريض" أي السلطنة العثمانية، يحتضر.

مهمة فيلبي

كانت مصر إثر إعلان الحرب العالمية الأولى مسرحاً لكتابة تاريخ المنطقة من خلال المندوب السامي البريطاني وأعوانه الذين هيأتهم وأعدتهم لندن باتفاق الخارجية ووزارة المستعمرات البريطانية سلفاً من أجل تعبئة رأي عام عربي سياسي مسلح لمساعدة إنجلترا وحلفائها للانقضاض على تركيا وألمانيا.

سنة 1916، عندما بزغ نجم لورانس بعد بدء اتصالاته بالشريف حسين في جدة، ظهر في الرياض رجل بريطاني أوفدته حكومة الهند ليتصل بـ"السلطان" عبد العزيز آل سعود، سلطان نجد، لحمله على مواصلة مناوأة الأتراك، وفتح الطريق للقوات الإنجليزية التي كانت قد احتلت الكويت وأتمت إنزال قواتها في ميناء البصرة، بغية احتلال بغداد، ثم التقدم نحو الموصل للسيطرة على البلاد كلها وتطويق تركيا في الجنوب وعزلها عن إيران. هذه كانت مهمة جون فيلبي. بينما مهمة لورنس مساعدة قوات الشريف حسين للوصول إلى دمشق. لقد لعب جون فيلبي ورقته الرابحة بمهارة وبراعة ومرونة بحيث كان لرأيه في رسم مجرى الأحداث الأثر الأكبر في سياسة بلاده، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى خروج لورنس من اللعبة باكراً، بينما بقي الأول قريباً من دائرة القرار. فما الذي غير بريطانيا وجعلها تتنكر للوعود التي أعطتها للحسين خصوصاً لجعله ملكاً على المملكة العربية من الخليج إلى البحر؟ وما الذي حملها على خذلان لورانس وإحباط مشاريعه التي كان قد أعدها لإنشاء كتلة عربية تشمل رقعتها الحجاز وسوريا بما فيها فلسطين ولبنان والأردن فالعراق، تضاف إليها إمارة الكويت التي كان أميرها الشيخ مبارك الصباح، وإمارة عربستان، داخل إيران التي كان أميرها السردار أقدس الشيخ خزعل خان؟ إن وراء انتكاسة لندن في سياستها العربية التي رسمها لورانس والتراجع عن الوعود التي أُعطيت للشريف حسين شخصاً واحداً، هو الرجل البريطاني الموفد من حكومة الهند إلى الرياض، المستر جون فيلبي.

إن قوة الإقناع التي اتصف بها فيلبي كانت أبرز صفاته، فهذا الرجل الذي وصل الرياض سنة 1916 استطاع أن يشق لنفسه الطريق، فيحظى بثقة عبد العزيز آل سعود ويبقى أطول مدة قضاها أجنبي في عاصمة السعودية. وقد فرض وجهة نظره على حكومة الهند بأن العائلة السعودية تستطيع أن تسيطر على الجزيرة العربية أكثر من العائلة الهاشمية. 

الحاج عبد الله

منذ ذلك التاريخ ستكون لجون فيلبي حكاية أخرى. الرجل الذي خدم بريطانيا بإخلاص وقام بكل الأدوار التي طلبت منه، سيعلن إسلامه، وليس هناك تاريخ محدد في هذا الشأن لكنه حصل قبل العام 1930 أو بعده بقليل. كثيرون شككوا في اعتناقه الإسلام معتبرين أنه يسعى وراء تثبيت حضوره في المملكة إلى جانب الملك عبد العزيز. لكن في الواقع كان الرجل في طور تأكيد هوية جديدة مختلفة. لم يصبح عربياً سعودياً بالكامل لكنه فقد الروابط الكبرى مع هويته البريطانية، وربما تنحى عن مهمته الرسمية مستقلاً في أعماله من دون تخليه عن جنسيته أو الحصول على الجنسية السعودية. في الحرب العالمية الثانية كان قد تحول بالكامل ضد سياسة بلاده الأمر الذي أدى إلى اعتقاله في الهند، ووضعه في الإقامة الجبرية في لندن لسبعة أشهر. بعد انتهاء الحرب، عاد إلى السعودية، مؤدياً دوراً أساسياً في التنقيب عن النفط قبل أن يؤسس سلسلة من الشركات الخاصة ويتزوج لاحقاً من سعودية. طريقه كانت طويلة، بينما قضى لورنس في 19 مايو (أيار) 1935 في حادث سير على دراجته النارية.

لم ينجح فيلبي في زواجه الأول من إنجليزية في العام 1910. إذ فضل المغامرة على العائلة، غير مهتم بابنه هوارد المولود عام 1912، المتدرج على مقاعد الدراسة في كامبردج، بينما يعتمد هو الجاسوسية والدبلوماسية في الرياض. لكن على الرغم من الابتعاد ساعد ابنه - في العام 1937 ليكون مراسلاً حربياً في مدريد بعد اندلاع الحرب الإسبانية- الذي بدأ مثله في السير على طريق الجاسوسية، من مكان واتجاه مختلفين تماماً، عندما اختار العمل لمصلحة الاتحاد السوفياتي، بالضد من والده الذي تنحى عن خدمة المملكة البريطانية ولم يتخلَّ عن هويته وجنسيته، أو يخون بلاده.

بعد إشهار إسلامه اتخذ لنفسه اسم عبد الله. ولما أدى فريضة الحج للمرة الأولى أضاف لقب "الحاج" له، فصار الحاج عبد الله فيلبي. لم يكن ثرياً لكن بوكالته عن شركة فورد للسيارات، فتحت أمامه أبواب الرزق. من جهة أخرى، ساعدته خبرته في علم الجيولوجيا ورحلاته داخل المملكة العربية السعودية واكتشافاته التي دوّنها في كتب، ليكون مصدر معلومات لشركات التنقيب عن النفط، إضافة إلى أنه كان قريباً من الحكم كوسيط ثقة.

بعد وفاة الملك عبد العزيز في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953 فقد جون فيلبي أو الحاج عبد الله، السنَد الذي كان يثق به ويشكل غطاءً دائماً له. علماً أنه بسبب انتقاده العهد الجديد، وتسريب معلومات سياسية من داخل المملكة، لم يكن على وفاق مع الملك سعود، الذي تولى الحكم، ويبدو أن الشكوك حامت حوله. لذلك صدر القرار في 18 أبريل 1955 بإبعاده عن السعودية.

العلاقة المتأرجحة

في 17 أبريل 1956 وعلى خلفية عودته إلى الرياض بواسطة لبناني أدى التواصل بين فيلبي والسعودية إلى إزالة الخلاف، أو توضيح بعض ما كان التبس حول مواقفه من الملك سعود. أوضح مكتب الصحافة والنشر في السفارة السعودية في بيروت أن فيلبي رفع في 21 مارس (آذار) 1956 طلب استرحام إلى الملك يعترف فيه بما صدر عنه من أخطاء ويطلب العفو والصفح. "ولما كان العفو من شيمة العرب الخلّص، وقد عرف عن جلالة الملك صفحه عن أعدائه وعفوه عن كل من يعترف بذنبه، فقد شاءت إرادته السامية أن يشمله بعفوه، وقد طلب فيلبي مقابلة السفير السعودي في بيروت، وعندما استجيب إلى رغبته كرر أثناء اجتماعه اعتذاره عن أخطائه مسترحماً شموله بالعطف الملكي السامي، ومكتب الصحافة والنشر مخول بإعلان هذه الحقيقة".

بقي يتنقل بين البلدين ويكتب مقالات في "الدايلي ستار" مهاجماً سياسة رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن حيال مصر، معتبراً أن جمال عبد الناصر محق في تأميم قناة السويس وإن رد فعل لندن من خلال المشاركة في الهجوم الثلاثي في حرب السويس كان غير شرعي.

النهاية في لبنان

في 30 سبتمبر (أيلول) 1960، توفي فيلبي بالذبحة القلبية التي داهمته بعد الظهر في فندق النورماندي في بيروت. وقد أسلم الروح في التاسعة إلا عشر دقائق في مستشفى الدكتور خوري في شارع الحمرا. وكان مضى على وجوده في بيروت ثلاثة أيام. وفي اليوم التالي نشر الخبر مع صورته على الصفحة الأولى في صحيفة "الحياة". وبناء على وصيته صليَ عليه بحسب الشريعة الإسلامية في مستشفى الجامعة الأميركية الحادية عشرة قبل ظهر أول أكتوبر (تشرين الأول). وفي الحادية عشرة والنصف نقل الجثمان إلى جبانة الباشورة حيث ووري الثرى. وقد حضر الصلاة عدد قليل جداً لا يتعدى الأشخاص العشرة يتقدمهم نجله هارولد راسل فيلبي مراسل "الأيكونوميست" الذي كان يعمل في بيروت تحت هذه الصفة، تغطية لتجسسه لمصلحة الاستخبارات السوفياتية الـ "كي جي بي". ترك جون فيلبي عائلته البريطانية طويلاً بعدما اختار أن يُدفن بعيداً عن البلاد التي بدأ عمله في خدمتها. شاء أن يعود ويلتقي ابنه هارولد في لبنان. بين الأب والابن، الذي عرف باسم "كيم"، سيرة علاقات ملتبسة في العائلة والسياسة والمهنة والانتماء. كيم فيلبي حكاية أخرى فيها أكثر من نقطة مشتركة- مع والده الذي كان على الضد منه- ربما أهمها الرغبة الجامحة في المغامرة الأقرب إلى الخيال، هو الابن، الذي هزّ مجتمع الاستخبارات الغربية، في الحلقة التالية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات