Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رصاصة ألمانية تفتتح الحرب الأولى بقتل الكاتب الفرنسي شارل بيغي

السينما تنقذ الكاتب من النسيان ولكن على طريقتها الخاصة

شارل بيغي (غيتي)

لعل من السمات اللافتة التي طبعت سمعة الكاتب الفرنسي شارل بيغي طوال القرن العشرين، أنه وهو الذي بدأ حياته الفكرية يسارياً علمانياً إلى حد ما، أنهى تلك الحياة يمينياً كاثوليكياً مؤيداً للحرب العالمية الأولى، ومع هذا لا اليساريون حقدوا عليه حين انقلب عليهم، ولا اليمينيون عادوه حين ظل على الرغم من يمينيته يندد بكثير من سلوكياتهم الاجتماعية. ومع هذا ربما يكون لافتاً أيضاً أنه منذ رحل عام 1914 نُسي ككاتب، وربما نُسيت أعماله شعرية أو نثرية أو صحافية أو مسرحية كانت لتبقي ذكراه... في الأقل كضحية افتتح لهيب الحرب العالمية الأولى التي تطوع لخوضها فكانت أولى رصاصات العدو الألماني من نصيبة بعد أيام من بدء الصراع.

سينما تجريبية

لقد احتاج الأمر إلى السينما كالعادة كي تعود كتابات بيغي، لا شخصه فقط إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة وتحديداً من خلال سينمائي تجريبي هو برونو دومون، الذي اشتغل حتى الآن على فيلمين مقتبسين من نصين لبيغي يتناولان حكاية جان دارك، ولكن ليس على طريقة بيغي الإيمانية التي ختم بها حياته الإبداعية، بل على طريقته الاستفزازية التي بدأ بها تلك الحياة، وهنا قد يكون من الأفضل تذكير قراء اليوم الذين باغتهم اسم بيغي مرتبطاً بجان دارك وبالسينما، بمن كان هذا الكاتب... ولعل البداية الأفضل في هذا المجال تكون من لحظة النهاية. وهي لحظة عنوانها بسيط ومر للغاية في الوقت نفسه، "انبطح أرضاً يا حضرة الملازم... انبطح أرضاً!". لكن الملازم لم ينبطح أرضاً، بل ظل واقفاً وهو يحاول مقاومة الأعداء الألمان، حتى أصابته رصاصة في رأسه أردته قتيلاً على الفور. كان اسمه الملازم شارل بيغي. وحدث ذلك يوم الخامس من سبتمبر (أيلول) 1914، حين كان ذلك الملازم في الحادية والأربعين من عمره، فكان أول مبدع واسع الشهرة يقع ضحية للحرب العالمية الأولى. بالتالي، لأن شارل بيغي لم يكن جندياً عادياً، بل كان قبل ذلك كله كاتباً معروفاً، تساءل كثيرون، بعد مقتله على ذلك النحو، حول الدوافع التي جعلته يستسلم أمام الموت بتلك السهولة. وتذكر هؤلاء أنه في واحد من أجمل نصوصه، "حوار حول تاريخ الروح الوثنية"، جعل شخصية كلير تقول، "عندما يصل البشر إلى الخمسين من عمرهم، يكونون قد انتهوا". إذاً، هل كان شارل بيغي قد تكهن بنهايته، أم أنه تعمد أن تأتيه على ذلك النحو؟ سؤال لن يجيب عنه أحد.

الرصاصات الحاسمة

المهم أن الرصاصات الألمانية أصابت وقتلت يومها واحداً من أكثر الكتاب الفرنسيين خصوبة وأكثرهم وعداً في ذلك الحين. وأكثر من هذا وضعت حداً لتقلبات ذلك الكاتب الذي بدأ حياته اشتراكياً متحمساً لينهيها قومياً متطرفاً، اختار بنفسه أن يخوض الحرب العالمية الأولى لسبب أساسي، وهو أنه أراد عبر خوضها أن يثأر من الألمان الذين كان قد سبق لهم أن أذلوا فرنسا، بلده، مرات عديدة قبل ذلك. والملفت أن ما حرك نزعة  شارل بيغي القومية الفرنسية وأبعده كلياً عن أممية الاشتراكيين كان قصف الألمان للمغرب في 1905. منذ ذلك الحين تغير شارل بيغي وصار إنساناً آخر، وتغيرت كتاباته التي بعد أن كانت إنسانية النزعة، سلمية التوجه، أضحت قومية متطرفة تدافع عن الوطن الفرنسي، كما أضحت ذات توجه كاثوليكي لا لبس فيه، حتى وإن كانت الكنيسة نفسها قد ظلت تعارض عودة شارل بيغي إليها بسبب ماضيه الاشتراكي ونزعة زوجته اللاأدرية.

اشتراكية القديس فرانسيس

ولد شارل بيغي في 1873. وأمضى طفولة فقيرة مضطربة قادته إلى تغيير مكان دراسته عدة مرات، وإلى معاشرة عديد من المناضلين الفوضويين والاشتراكيين، لكنه حتى حين صار في صباه اشتراكياً، كان يقول عن نفسه، إن اشتراكيته تقترب من اشتراكية القديس فرانسيس الأسيزي أكثر مما تقترب من اشتراكية كارل ماركس. وحين صار اشتراكياً، بدأ يخوض المعارك كافة، إلى جانب ليون بلوم وجان جوريس، لا سيما معركة قضية درايفوس التي كانت محك التقدمية والرجعية في فرنسا تلك الأيام. غير أن تلك القضية نفسها، التي أثارته، كانت هي التي عادت وأبعدته عن الاشتراكيين لا سيما عن جان جوريس، وكان ذلك على أي حال في وقت كان بيغي قد بدأ يكتب بعض المسرحيات والنصوص الروائية والتاريخية، وفي مقدمها مسرحيته التاريخية "جان دارك"، وهي المسرحية نفسها التي سيعود إلى كتابتها بعد ذلك بسنوات عديدة. فإذا بـ"جان داركــه" الأولى التي كانت اشتراكية النزعة تناضل من أجل الفقراء والبائسين، تصبح كاثوليكية متطرفة في قوميتها.. كما هي حال شارل بيغي نفسه!

والد شرعي لليمين المتطرف

إذن في 1905، مع ضربات المدافع الألمانية في طنجة، تغير شارل بيغي ذلك التغير الجذري وأضحى مواطناً فرنسياً من طراز أول. استعاد وطنه واستعاد معه نوعاً من الكتابة المتطرفة التي سيعتبرها النقاد والمؤرخون لاحقاً الوالد الشرعي لكتابات كتّاب يمينيين من أمثال شارل مورّا ودريو لاروشيل، مع فارق أساسي وهو أن وطنية شارل بيغي توجهت ضد الألمان، بينما كانت نزعة موراس وأمثاله الوطنية ممالئة للألمان معادية لكل ما هو اشتراكي. في 1910 فاجأ بيغي الأوساط الأدبية بنص جديد كتبه عن جان دارك عنوانه "سر جان دارك" وكان أول عمل شاعري له يكتبه بعد عودته إلى الإيمان الكاثوليكي. وأتبعه بأعمال أخرى اتسمت دائماً بطابع إيماني عميق. وفي 1913 نشر روايته الأساسية "إيف" (حواء) فاعتبر عبر ذلك كله الكاتب الذي وصل إلى رسم ذروة العمل الشعري المسيحي الفرنسي، كما سيفعل من بعده جورج برنانوس وبول كلوديل. غير أن أعمال بيغي الشعرية إنما كتبت على هامش كتاباته السياسية التي أراد منها، منذ أواسط عشريات القرن العشرين وحتى النص الأخير الذي نشر خلال حياته "المال" (1913)، ثم عبر النص الذي نشر بعد موته، "كليو" (1917) يعبر عن معركته السياسية التي راح يخوضها ضد رفاقه الاشتراكيين السابقين، ومن ناحية ثانية ضد الألمان. وكانت معركته مع هؤلاء من العنف بحيث أنه ما أن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى خاضها متطوعاً، فقتلته رصاصة ألمانية وهو واقف وكانت الحرب لا تزال في أولها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تبجيل لشهيد الوطن

منذ مقتله إذاً صار بيغي كاتباً مبجلاً تستخدم مواقفه القديمة والجديدة من قبل الجميع بصرف النظر عن أعماله نفسها التي راحت تبدو منسية طوال فترات لا تفيق من النسيان إلا لمناسبة أو أخرى. ولقد كانت آخر المناسبات تلك الاقتباسات السينمائية (أنجز منها اثنين وربما يكون الثالث على الطريق)، التي جمع فيها دومون مسرحية "جان دارك الأولى" مع واحد من نصوص جان دارك اللاحقة في عمل سينمائي أخاذ استخدم المخرج في الأدوار الأساسية والثانوية فيه، هواة من سكان المناطق التي تنتسب جان دارك التاريخية إليها.

واللافت حقاً هنا هو أن دومون في عمله الجديد على سيرة جان دارك، لم يتبع خطى أولئك العشرات من السينمائيين الذين سبق لهم أن تعاملوا مع حكاية البطلة الفرنسية المقاومة للإنجليز حتى الوصول إلى المحرقة، كل على هواه مؤبلسينها حيناً أو ممجدين مقاومتها حينا آخر، انطلاقاً من كون البطلة الفرنسية التاريخية تسمح بكل التفسيرات فاتبع كل سينمائي تفسيراً خاصاً به وعلى العكس منهم جاءت تفسيرات دومون الذي مزج بين تلك التفسيرات، ليس لكي يموضع نفسه على الحياد، بل لكي يعود إلى جذور اهتمامه بجان دارك، إلى شارل بيغي نفسه الذي يبدو أنه كان هو ما همه في هذه اللعبة السينمائية البديعة. ومن هنا ما قاله نقاد كثر، لمناسبة عرض الجزء الثاني من الفيلم على الأقل، من أن أبدع ما في إطلالة دومون على جان دارك هو تمكنه من أن يمزج بين سير ثلاث، سيرة البطلة وسيرة الكاتب وسيرته هو الشخصية...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة