Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكاتبة العراقية اليهودية فيوليت شماش تعود إلى فردوسها المفقود

كتبت رسائلها بالإنجليزية خلال 20 عاماً وروت فيها ذكريات الإقامة في الوطن والرحيل عنه

من احتفال يهودي في كوش بالقرب من مدينة الموصل العراقية (غيتي)

حين يضطر الإنسان إلى الرحيل عن أماكنه الأولى إلى غير رجعة، لا بد أن يلازمه وجع الحنين إليها حتى يرحل عن هذه الدنيا. وللتخفيف من هذا الوجع، يروح يستعيدها بتحويلها إلى حكايات يرويها على مسامع المقربين منه، أو بكتابتها في نصوص يقرؤها الآتون بعده، فيعود إليها بالحكاية والكتابة، ويحفظ، أو يتوهم ذلك، على الأقل، ما زال من تلك الأماكن، أو هو في طريق الزوال. وهنا، تشكل الحكاية أو الكتابة نوعاً من الوقوف المتأخر على الأطلال، ولو عن بعد. وهذا ما تفعله الكاتبة العراقية اليهودية فيوليت شماش (1912 – 2006)، في كتابها الوحيد "رسائل فيوليت"، الصادر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، بترجمة علي شاكر، غداة رحيلها عن بغداد، خلال الحرب العالمية الثانية، مع آلاف من أبناء جاليتها، ما أحدث جرحاً عميقاً في نفسها لم يندمل على الأيام. لم تكن فيوليت، التي تستمتع بحكاية الحكايات لأفراد أسرتها، لترغب في الكتابة، لولا قيام ابنتها ميرا، وصهرها توني، بإقناعها بذلك، حفظاً لحق الأولاد والأحفاد في معرفة ما حدث، على حد إشارة الابنة في رسالتها إلى المترجم. وعليه، راحت تكتب الرسائل، طيلة عشرين عاماً، وترسلها إلى ابنتها وصهرها، اللذين أخذا على عاتقهما أمر تحريرها وإعدادها للنشر، فصدرت بالإنجليزية بعنوان "ذكريات جنة عدن" في بريطانيا في عام 2008، وفي الولايات المتحدة في عام 2010، قبل أن يقوم علي شاكر، مأخوذاً بدفء الرسائل وسحر البوح فيها، بتعريبها وتحقيقها، لتصدر في عام 2020. والمفارق أن صديقةً فلسطينية/ أردنية كانت قد أوصته بقراءة المذكرات، خلال لقاء لهما في عمان.   

شهادة على عصر

يشكل الكتاب شهادة صاحبته على النمو العمراني والحراك السياسي والصراع العسكري والتغيير الديموغرافي في بغداد، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وما تمخض عن ذلك من نتائج خطيرة، لا تزال ترخي بثقلها على أرض الواقع، وفيها يعيد التاريخ نفسه بتمظهرات مختلفة، فما حدث ليهود بغداد في العقد الرابع من القرن العشرين، يحدث للمسيحيين والإيزيديين في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولو بطريقة أعنف. وفي هذه الشهادة، تتجاور السيرة الذاتية، والتاريخ، والجغرافيا، والأنثروبولوجيا، والدين، والرحلة، ما يجعلها نصاً معرفياً مفتوحاً على العديد من الحقول. وبذلك، تتجادل السيرة الذاتية مع السيرة العامة التاريخية، في إطار الشهادة/ الكتاب.  

السيرة الذاتية

في السيرة الذاتية، تطالعنا مجموعة من الوقائع، هي: ولادتها في بغداد لأبوين جميلين، في وسط اجتماعي يكره ولادة الأنثى، وتعلمها القراءة والكتابة على شقيقتها الكبرى ريجينا، ودروسها الأولى عن بلاد الرافدين، التي شكلت أول مكونات هويتها، ومدرستها الأولى وذكريات الدراسة، ونمط العيش البدائي في بيوت متلاصقة السطوح، تتوافر فيها مختلف المرافق، حيث النوم على السطح مساءً، والاستيقاظ على صياح الديك صباحاً، والانتقال من بيت متواضع في حي حنوني إلى قصر، يبنيه الأب التاجر، في حي الكرادة، على ضفة النهر، ومؤهلات الأب وإبعاده إلى الموصل في عام 1915 لأنه من الأقليات المشتبه بتعامل أفرادها مع البريطانيين، ودور الخال في توفير فرص التعلم والعمل للعديد من الفتيات، ومصادرة البريطانيين القصر وتحويله إلى مدرسة عسكرية، وزواجها من داوود شماش في عام 1937 في نادي الرشيد، وتنقل الأسرة من بيت إلى آخر طلباً للأمان بعد اقتحام الغوغاء أحياء اليهود، خلال ما عرف بالفرهود في عام 1941، والسفر إلى الهند، ومنها إلى فلسطين، فقبرص، إلى أن يستقر بها المقام في لندن.

وهكذا، نكون أمام سيرة ذاتية، تشهد على كثير من التحولات، تعرف فترات من الاستقرار وخفض العيش في ظل الجنة البغدادية، وعلاقات حسن الجوار مع المكونات العراقية الأخرى، لكن نشوب الحرب العالمية الأولى يرخي بثقله على سائر المكونات، فتنقسم على نفسها في السياسة، حتى إذا ما نشبت الحرب العالمية الثانية، يتخذ الانقسام السياسي طابعاً عنفياً، تدفع فيه الجالية اليهودية أثماناً غالية. وهنا، يشوب السيرتين الخاصة والعامة القلق والخوف من المستقبل. ولعل سيرة فيوليت في محطاتها الرئيسة هي سيرة الآلاف من أبناء جاليتها الذين جرفتهم التحولات إلى خارج الوطن.

السيرة العامة

في السيرة العامة، تبدأ الكاتبة رسالتها الأولى بـعنوان "الجنة"، وتنهي رسالتها الرابعة عشرة والأخيرة بوداع ودعاء، تقول فيه: "وداعاً يا بغداد!/ مع السلامة يا أرض بابل!/ في أمان الله يا جنة عدن!" (ص326). والبداية والنهاية كلتاهما تشيان بمرحلة طويلة من الاستقرار، عرفتها السيرتان، الخاصة والعامة. وكثيراً ما أشارت الكاتبة إلى ذلك في الكتاب، من قبيل قولها: "حدث كل ذلك في مدينتي بغداد التي عشت فيها سعيدة متنعمة وسط مجتمعي اليهودي المتآلف مع جيرانه المسلمين..." (ص24)، وقولها: "مجتمعات المدينة كانت متعايشة بعضها مع بعض بسلام..." (ص38)، وقولها: "كنا نحيا في جنة عدن حتى اندلعت حرب عظيمة في أوروبا..." (ص47)، وقولها: "كان الجميع يعيشون ضمن تكتلات عائلية كبيرة في وئام مع جيرانهم من مسيحيين ومسلمين..." (ص100)، وقولها: "حصل اليهود على صفة المواطنة الكاملة تحت الحكم العثماني، فباتت لهم حقوق المسلمين ذاتها، وعليهم واجباتهم ذاتها..." (ص104)، وغيرها.  

تحولات خطيرة

وعليه، يمكن الاستنتاج أن التحولات الخطيرة التي أدت إلى الرحيل عن بغداد لم تكن بفعل عوامل داخلية في مجتمع متنوع، عاشت مكوناته جنباً إلى جنب لمئات السنين، بل بفعل عوامل خارجية، وجدت لها أرضاً خصبة في بعض الأوساط، وأدت إلى ما لا تحمد عقباه. فالانقسام السياسي الذي بدأ يذر قرنه، خلال الحرب العالمية الأولى، سيتطور في الثلاثينيات من القرن الماضي إلى التحريض على اليهود وتصفية الحساب معهم، على خلفية ما كان يحصل في فلسطين، وبتشجيع من النازية الألمانية التي تحملها الكاتبة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وما إن يطل عام 1941 برأسه، حتى يتخذ الانقسام طابعاً عنفياً، وتقوم الغوغاء باجتياح الأحياء اليهودية، محدثةً فيها السلب والنهب والقتل أحياناً، ما يجعل معظم أهلها يغادرونها، ويتفرقون أيدي سبأ. وهنا، تتقاطع سيرة فيوليت الخاصة مع السيرة العامة لأبناء بَجْدَتِها. غير أنه، خلال هذا الظلام، يبرز كثير من النقاط المضيئة، فيقوم بعض المسلمين بإيواء جيرانهم وتأمين الحماية لهم ريثما يصلون إلى بر أمان ما، الأمر الذي تنوه به الكاتبة في غير موضع من كتابها. ولعل هذه النقاط هي التي جعلتها تترفع عن الحقد والانتقام والثأر، وتصدر عن دعوة إنسانوية في الكتاب، وتستمر على عهد وفائها لجنتها المفقودة وحنينها إليها. وبذلك، ترسل إلى أحفادها رسالة محبة وسلام لا رسالة حقد وانتقام.  

في السيرتين، الخاصة والعامة، تواكب فيوليت شماش بعين الرضا النمو العمراني في بغداد، وتسمي الأحياء والشوارع والأسواق والمقاهي والمدارس والمحال بأسمائها، في تعلق منها بالمكان، فتحفظه بالكتابة من الزوال. وترصد نمط العيش في الوسط اليهودي من مختلف جوانبه، فتتناول الأطعمة والأزياء والعادات والتقاليد وطقوس الزواج، وتأتي على الأعياد اليهودية وشعائر الاحتفاء بها، ولا تنسى المعتقدات الشعبية، ما يعكس روح التدين في ذلك الوسط. على أننا نقع، في مواكبتها ورصدها، على كثير من نقاط التقاطع بين اليهود والمكونات الأخرى في المجتمع العراقي.

بناءً على ما تقدم، فإن "رسائل فيوليت" شهادة على عصر، ونص معرفي متنوع، ووثيقة أنثروبولوجية حية، ورسالة حب إلى بغدادها الآفلة، وجواز عبور إلى جنتها المفقودة التي تعود إليها على جناح الكلمة بعد أن هاضت الوقائع القاسية منها الجناح.

المزيد من ثقافة