في تطور مثير شن الرئيس الأميركي جو بايدن هجوماً على نظيره الروسي فلاديمير بوتين موافقاً على وصفه بأنه "قاتل"، خلال مقابلة تلفزيونية، الأربعاء، وتوعده بأنه "سيدفع الثمن" بعد تقرير للاستخبارات الأميركية يفيد بأن الأخير "على الأرجح" أصدر توجيهات بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2020 لمصلحة الرئيس السابق دونالد ترمب.
تعليقات بايدن استثارت رداً سريعاً وغاضباً من روسيا، التي قامت أولاً باستدعاء سفيرها في واشنطن للتشاور، ثم تحول الأمر لسجال كلامي عندما رد الرئيس الروسي بالقول، إن "الناس يرون الآخرين عادةً كما يرون أنفسهم"، وأن "القاتل هو من يصف الآخر بذلك"، وفق ما نقلت عنه وسائل إعلام روسية. وسبق ذلك تعليق النائب الأول لرئيس مجلس الاتحاد الروسي أندريه تورتشاك اعتبر فيه أن تصريحات بايدن دليل على "غلبة الجنون السياسي" في واشنطن وخرف قائدها الناجم عن عمره.
من المحتمل
وفق تقرير الاستخبارات الأميركية الصادر حديثاً، فإنه "من المحتمل" أن بوتين أصدر أوامر بالتدخل في الانتخابات، الأمر الذي أثار حفيظة روسيا لعدم استناد التقييم الاستخباراتي إلى "حقائق أو أدلة محددة" تؤكد ادعاءاتهم.
وفي تعليقات لـ"اندبندنت عربية" انتقد بشار جرار، المحلل السياسي والمحاضر في برامج الدبلوماسية العامة التابعة للخارجية الأميركية، المقيم في واشنطن، لغة التقرير الاستخباراتي الأميركي الذي لم يتحدث بيقين أو دلائل مؤكدة في توجيهه الاتهامات للرئيس الروسي.
وأشار إلى أن التقرير الأميركي لم يكن حاسماً، بل استخدم عبارة "من المحتمل"، وهي "اللغة نفسها التي استخدموها في قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، مما يبعث شعوراً "بتسييس" التقارير الاستخباراتية الأميركية".
تضارب بشأن الصين
كما برأ التقرير الصين من اتهامات التدخل، وهو ما يتعارض مع تحذير استخباراتي صدر الصيف الماضي، عندما قال ويليام إيفانينا، مدير المركز الوطني لمكافحة التجسس بالاستخبارات الأميركية، في الخامس والعشرين من يوليو (تموز)، إن الخصوم من الدول الأجنبية، بما في ذلك روسيا والصين وإيران، تسعى للتأثير في الانتخابات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تؤثر بدورها في اختيارات الناخب، وحثّ الأميركيين على التيقظ للنفوذ الأجنبي.
وتضمنت تحذيرات الاستخبارات الأميركية، آنذاك، الإشارة إلى تقويض الثقة في العملية الانتخابية، ومن ثم الديمقراطية الأميركية ككل؛ فالصين تسعى لتشكيل البيئة السياسية بالولايات المتحدة والتأثير سلباً في الشخصيات السياسية التي ترى أنهم يعارضون مصالح بكين، بينما تستهدف روسيا إضعاف الولايات المتحدة عبر مواصلة نشر معلومات مضللة داخل البلاد، وتبث إيران حملات تضليل على الإنترنت تهدف إلى تقسيم البلاد قبل الانتخابات وتقويض المؤسسات الديمقراطية، بحسب ما ورد في وسائل الإعلام الأميركية.
وكشف تحقيق صحافي، نشرته مجلة "نيوزويك" الأميركية منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عن 600 مجموعة على الإنترنت، على اتصال منتظم بالحزب الشيوعي الصيني وموجهة من قبله سعت للتأثير في الانتخابات الأميركية. وأنه على مدار الأشهر الثلاثة السابقة للانتخابات، أبلغت "غوغل" و"مايكروسوفت" عن محاولات لهجمات إلكترونية مرتبطة ببكين استهدفت أفراداً عملوا مع حملات بايدن وترمب. ومعظم النشاط النابع من الصين يبدو أنه مصمم، كما يقول إيفانينا، "لتشكيل بيئة السياسة في الولايات المتحدة، والضغط على الشخصيات السياسية التي تراها على عكس مصالح الصين، وتحويل النقد المضاد".
بداية الأزمة
وعلى رغم تضمن التقرير التدخل الروسي والإيراني، تركزت تهديدات بايدن على موسكو فقط. ويقول جرار، إن خلاف بايدن والحزب الديمقراطي مع روسيا تصاعد منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016، عندما نشر موقع "ويكيليكس" في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه رسائل مقرصنة من البريد الإلكتروني الخاص بالمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
الرسائل المسربة وضعت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في موقع دفاعي، خصوصاً الوثائق حول الخطابات التي ألقتها مقابل أجر أمام مصارف أعمال ومؤسسات مالية بين 2013 و2015. ووجه الحزب الديمقراطي اتهامات لروسيا بالوقوف خلف عمليات قرصنة معلوماتية واسعة النطاق للتأثير في مجرى الانتخابات الرئاسية دعماً لترمب، لكن جوليان أسانج، مؤسس "ويكيليكس"، نفى وقوف روسيا وراء التسريبات وقال، إنه لم يتصرف "لإرضاء رغبة شخصية في التأثير في نتيجة الانتخابات"، بل لأن منظمته تدافع عن "حق الجمهور في أن يكون مطلعاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول جرار، إنه منذ انتخابات 2016 تم بناء سرد من قبل الديمقراطيين ووسائل الإعلام الرئيسة بشأن وجود تواطؤ بين ترمب وروسيا، وهو ما أثبتت التحقيقات الواسعة التي أجراها المحقق الخاص روبرت مولر، عدم صحته وتمت تبرئة ترمب في الكونغرس ولم يتم عزله.
ويضيف، في انتخابات 2020 تحدث ترمب ونُشرت تقارير صحافية بشأن تورط بايدن ونجله هانتر مع الصين، وفي أوكرانيا من خلال قضايا فساد مالي. ويوضح أنه في ما يتعلق بقضية أوكرانيا، يعتقد الديمقراطيون أن بوتين يقف وراء ترويج هذه الاتهامات ضد هانتر، نجل بايدن، داخل أوكرانيا والولايات المتحدة عبر البرلماني الأوكراني أندري ديركاش. وبين عامي 2014 و2019، عندما كان والده نائباً للرئيس، كان هانتر عضواً في مجلس إدارة شركة الغاز الأوكرانية "بوريسما". ووجه ترمب اتهامات لبايدن بالسعي لإقالة المدعي العام الأوكراني الأعلى لحماية "بوريسما" ونجله من تحقيق فساد يتعلق بالشركة.
وكان بايدن دعا عام 2016، إلى إقالة المدعي العام الأوكراني فيكتور شوكين، الذي كان مكتبه يقوم بتحقيقات حول شركة "بوريسما" وشركات أخرى. لكن دولاً غربية والهيئات الرئيسة الأخرى التي تقدم الدعم المالي لأوكرانيا، كانت تريد عزل المدعي العام أيضاً لاعتقادها أنه لم يكن نشطاً بما يكفي في معالجة مشكلة الفساد بالبلاد.
على الرغم من أنه أثيرت تساؤلات بشأن وجود تضارب محتمل للمصالح، وفتح الكونغرس، بتوافق من الحزبين، تحقيقاً توصل إلى أن عمل هانتر في الشركة الأوكرانية كان مثيراً للشبهات، لكن لم يكن هناك دليل على تأثر السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعمله. واعترف هانتر (50 سنة) بأنه أظهر "قلة حكمة" في بعض تعاملاته التجارية، لكنه نفى ارتكاب أي مخالفات.
حالة هوس
يعتقد مراقبون أميركيون أن هناك حالة "هوس" من قبل الديمقراطيين بروسيا تتعلق بالتنافس السياسي الداخلي، وهو ما أشار له تيد جالين كاربنتر، الزميل الرفيع لدى معهد كاتو، مركز أبحاث سياسية في واشنطن، في مقال سابق. وقال إن قضية التدخل الروسي المزعوم في انتخابات 2016، أدت إلى انقسام حزبي عميق ومرير؛ فالديمقراطيون واليسار الراديكالي يصرون على أن دولة معادية سعت لهزيمة مرشحهم وتثبيت رئيس يمكن لموسكو التأثير أو التحكم فيه.
وأضاف كاربنتر، أن مثل هذه الاتهامات، التي خيمت على الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية، كانت صاخبة ومبالغ فيها على نحو متزايد، مما خلق مناخاً من عدم التسامح حيال روسيا وجدلاً بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاهها، مشيراً إلى أن المشهد يشبه بشكل مقلق الحقبة المكارثية في عام 1950. (المكارثية نسبة لعضو مجلس الشيوخ الأميركي جوزيف مكارثي الذي داوم على توجيه اتهامات لموظفي الحكومة بالشيوعية والتآمر مما قاد لسجن العشرات بتهم تتعلق بالعمل لمصلحة الاتحاد السوفياتي خلال الخمسينيات وهو ما ثبت عدم صحته في ما بعد).
وفي مقال بمجلة "صالون" دعا الكاتب والمؤلف الأميركي ديفيد ماسكيوترا، الديمقراطيون للتغلب على هوسهم تجاه روسيا. وأشار إلى أن تلك الهستيريا وصلت إلى حد اتهام كلينتون للنائبة الديمقراطية تولسي غابارد بالعمل لحساب بوتين، بسبب آرائها المنتقدة للسياسة الخارجية والعسكرية للولايات المتحدة.
وأضاف، أنه وفقاً للسرد السائد، فإن بوتين مسؤول عن كل مشكلة سياسية على ما يبدو في الولايات المتحدة. فمن انتخاب دونالد ترمب إلى زيادة الاستقطاب بين الجمهور الأميركي، دبر بوتين وينفذ ببراعة "مؤامرة لتدمير الديمقراطية"، على حد تعبير بعضهم. وتابع إنه إذا كان بوتين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي يفعل كل ذلك ويقف وراء أزمات الولايات المتحدة من فشلها في التعامل مع جائحة "كوفيد-19" وقصورها في توفير الخدمات الاجتماعية والموارد للفقراء والطبقة العاملة، بينما تذهب لتشن حروباً متعددة من دون هدف واضح، فإن هذا يعني أن أميركا أضعف مما تبدو عليه.
من جانبه، طالب نائب بارز في البرلمان الروسي باعتذار الولايات المتحدة، وقال قسطنطين كوساتشيوف، نائب رئيس المجلس الأعلى بالبرلمان الروسي، إن تصريحات بايدن غير مقبولة وستزيد حتماً تدهور العلاقات، وتقضي على أي أمل في موسكو بشأن تغيير السياسة الأميركية تحت قيادة الإدارة الجديدة، وأضاف أن استدعاء روسيا لسفيرها كان الخطوة المنطقية الوحيدة التي يمكن اتخاذها في مثل هذه الظروف.
وفي اجتماع لبايدن مع مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ردت موسكو بتخفيض التمثيل الدبلوماسي لها. وبحسب وسائل إعلام روسية، قال ديمتري بوليانسكي، النائب الأول لسفير موسكو في الأمم المتحدة، إن روسيا هي الدولة الوحيدة العضو في مجلس الأمن التي لم يمثلها مندوبها الدائم في الاجتماع الافتراضي مع الرئيس الأميركي.
وكثيراً ما نفت روسيا تدخلها في الانتخابات الأميركية. وفي فبراير (شباط) العام الماضي، وسط تزايد اتهامات الديمقراطيين في موسكو بمحاولة دعم ترمب للفوز بفترة ثانية، وصف المتحدث باسم الكرملين ديمتري بسكوف الاتهامات الأميركية لبلاده بأنها مبنية على معلومات ناجمة عن جنون الارتياب، وقال، إن الاتهامات عارية تماماً من الصحة.
حرب باردة
ويحذر المراقبون من حرب باردة تلوح في الأفق بشكل متزايد. ويقول كاربنتر، إن أولئك الذين يؤمنون بصدق خطابهم يحتاجون إلى السيطرة وعدم الخضوع لمتلازمة تشويه روسيا. فأولئك الذين استخدموا الهستيريا المعادية لروسيا كطريقة للتغلب على إدارة ترمب، يحتاجون إلى التوقف والتفكير في الكيفية التي تؤدي بها أفعالهم إلى إشعال "حرب باردة" ثانية مع القوة الوحيدة التي لديها القدرة العسكرية للإضرار بأميركا، إذ إن سلوكهم الحالي سيؤدي إلى إلحاق ضرر جسيم ببلدهم.
ويرجح جرار أن بايدن سيخفف من حدة كلامه تجاه بوتين في الأيام المقبلة، أو ربما يبعث باعتذار من خلال وزير الخارجية أنتوني بلينكن أو مستشار الأمن القومي جيك سوليفان. ويتوقع أن يستغل المؤتمر الصحافي الأول له المقرر في الخامس والعشرين من الشهر الجاري في تهدئة الأمر.