ورث الرئيس بايدن تركة ثقيلة من سياسات وتجاوزات سلفه دونالد ترمب، ولكن من غير العدل تحميل الأخير وإدارته كل الصعوبات والتحديات التي ستواجهها نظيرتها الجديدة. ولعل أفغانستان هي التعبير الواضح والصريح عن إخفاق رؤية ونمط إدارة الأزمات في الولايات المتحدة، وعن خلل هيكلي تاريخي في السياسات الغربية والأميركية بشكل خاص، وعن معضلة سياسية أكبر تنبع من مراهنة الساسة عبر التاريخ على أدوات تتحول إلى مشكلات وتخلق إطارات وظروفاً يصعب معالجتها.
تركة الإدارة السابقة
مع أننا أشرنا إلى أنه من غير الإنصاف تحميل ترمب أخطاء الأزمة الأفغانية، فقد أسهم أيضاً في سوء إدارتها، فكما هو معروف كان سحب القوات الأميركية من أفغانستان أحد عناصر حملته الانتخابية، التي صاغها في مفاهيم بسيطة؛ كثير من مكوناتها صحيح، وبعضها مضلل، أهمها بالقطع وقف استنزاف الأموال الأميركية الهائل على هذه الحرب التي وصلت إلى قرابة تريليوني دولار أميركي، وهو رقم هائل يفوق الميزانيات والدخل القومي لأغلب دول العالم، وبعد آخر هو إعادة أبناء الشعب الأميركي، ووقف النزيف البشري، على الرغم من محدوديته نسبياً. ولكي يحقق هذا كلف دبلوماسياً أميركياً من أصول أفغانية هو زلماي خليل زادة، الذي سبق له التورط بدور رئيس في مراحل هذه الحرب الأولى في عهد الرئيس جورج بوش الابن، التفاوض مع طالبان، وطبعاً استضافت قطر بروابطها وعلاقاتها بكثير من فصائل الإسلام السياسي هذه المفاوضات، وتسربت أبعاد صفقة تتضمن الانسحاب التدريجي، والاعتراف بطالبان، وعدم وجود أي ضمانات لحماية الحكومة الشرعية، وسبب هذا التسريب استياء الحلفاء الذين شاركوا واشنطن حملة أفغانستان التي يصعب وصفها بالناجحة، كما أغضبت كثيراً من مؤسسات الدولة الأميركية التي اعتبرت هذا مساساً بتحالفاتها المستقرة، والأخطر تضحية خطيرة بهيبة الدولة الأميركية، وسنعود لهذا.
ومع ذلك، فإن قيام طالبان بعدة تفجيرات لتحدي خصومها الداخليين والخارجيين، هو الذي أحرج ترمب، واضطره لإيقاف الصفقة في البداية، ولكن بإصراره وثباته الهائلين على مواقفه حتى لو اصطدمت بمعارضة هائلة، عاد من جديد واستكمل المفاوضات، وأعلنت أبعاد الصفقة التي شملت الانسحاب التدريجي للقوات، وبدء مفاوضات بين حكومة كابول وطالبان تبدأ بالإفراج المتبادل عن الأسرى، وهو ما كانت تحتاج إليه طالبان للإفراج عن عدد من قياداتها وعدد كبير من مقاتليها، وتضمنت الاتفاقية كذلك تعهدات من طالبان بالتوقف عن استضافة التنظيمات الإرهابية المتطرفة، كـ"داعش"، و"القاعدة"، وهي السبب الرئيس للحملة الأميركية في أفغانستان.
عناصر الخلل في السياسة الأميركية
يشير تحليل التوجه الذي انتهجه ترمب، وكذا سير الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان إلى عدد كبير من مظاهر الخلل، بعضها هيكلي في إدارة السياسة الخارجية الأميركية، والآخر مرتبط بمراحل سياسية معينة.
يتمثل الأول في سوء اختيار الأدوات، فمنذ عقود طويلة خلال زمن الحرب الباردة تنبهت واشنطن وقوى غربية عديدة إلى أهمية توظيف البعد الديني، وخاصة المتشددين، كأداة ضد الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي، وكذلك ضد تيارات سياسية كالقومية العربية، اعتبرتها تهديداً للمصالح الغربية، من هنا بدأ توظيف هذه الأداة بشكل هادئ منذ خمسينيات القرن الماضي، ثم كانت الطفرة الكبرى والخطيرة، عندما التقت هذه السياسات مع بعض قيادات المنطقة في السبعينيات كوسيلة للتخلص من التيارات اليسارية والناصرية، فكان التوظيف الأكبر بعد التدخل السوفياتي في أفغانستان، ومراهنة واشنطن وكثير من الأطراف الغربية وفصائل الإسلام السياسي على هذه الأداة لهزيمة واستنزاف الأول. وكانت مراهنة واشنطن وحلفائها على إمكانية السيطرة على هذه الأداة تعكس السذاجة السياسية المفرطة، ولم تتعظ من أحداث السيطرة على الحرم المكي ولا اغتيال الرئيس المصري أنور السادات على يد هذه الجماعات التي احتضنها ورعاها لضرب اليسار المصري.
ولم تكن نشأة وظهور تنظيم القاعدة بتوجهاته المعروفة مصدر تنبه كامل، إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبدء سلسلة العمليات الإرهابية في عديد من البلدان العربية والإسلامية، فلم يؤدِ هذا إلى تنبه من زرع هذه البذرة، أو كان تنبها متأخراً فقط بسبب 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي جميع الأحوال، لم تتوقف واشنطن، وربما حتى الآن، من المراهنة على هذا الفصيل السياسي وتخيل إمكانية استئناسه؛ ويلعب الطرفان، أي واشنطن والمتطرفون، بكل تبايناتهما، مراهنة مزدوجة، وكل يظن أنه يستخدم الآخر لتحقيق أهدافه، ثم يسير في طريقه بعد ذلك، ولهذا لم يتمكن ترمب من فك اشتباك التفاعلات بين مصالح بلاده وهذه التيارات من صدام وتحالف معاً، وذلك لثبات موقف مؤسسات بلاده على صعوبة فك هذا الترابط حالياً لكثير من الاعتبارات في عديد من الصراعات الدولية والإقليمية، والنتيجة هذا الاضطراب الهيكلي المزمن في أداء السياسة الخارجية الأميركية؛ ونظرة على المشهد السوري على سبيل المثال تكشف عن هذا بوضوح، فقد كانت تقصف تنظيمات التطرف دون أن تقضي عليها، وتعود للتجاوز عن تحركها إذا كان هذا سيعوق سيطرة روسيا، وتتساهل، حتى في زمن ترمب، مع نقل تركيا لهذه العناصر إلى ليبيا أيضاً نكاية في روسيا حتى لو كان هذا على حساب حلفاء آخرين، وفي النهاية تظل هذه الأداة، التي ليست إلا نموذجا واحداً لسوء الأدوات بالنسبة لمستقبل هذه السياسة، عنصر اضطراب وغموض في أداء السياسة الخارجية الأميركية.
يتمثل الخلل الثاني في الاستهانة بالشركاء، إذ لم يكن ترمب هو أول من استهان بشركاء بلاده، فهناك شكوى تاريخية للجانبين؛ من الجانب الأميركي شكوى من بخل الشركاء الأطلسيين، واعتمادهم مالياً وعسكرياً على واشنطن، ومن الجانب الغربي الأطلسي شكوى من ميل الأولى لاحتكار صناعة القرارات الاستراتيجية الكبرى، فقد اصطفت خلف واشنطن في أفغانستان، ولكن أغلبها لم يشارك في العراق، وبعضها يتابع المعايير المزدوجة في الأداة سابقة الذكر ويتخوف منها، ولكن القائد الأميركي لا يكترث، ثم جاء ترمب بتعالٍ غير مسبوق في تعامله مع حلفائه، ولم يوافقه أحد على الانسحاب من أفغانستان، ولكنه لم يكترث، صحيح أن بايدن جاء بخطاب جديد، ولكن تراث التعالي الأميركي واضح لهؤلاء الشركاء بدرجة أو أخرى منذ الخلاف مع ديغول.
وجاء الخلل الثالث في استسهال التضحية بالحلفاء، إذ يردد البعض عبارة ينسبونها للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بأن "المتغطي بالأميركان عارٍ"، وهذه أيضاً إحدى سمات تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، فقد سبق أن فعلت هذا بعملائها في فيتنام الجنوبية، وما حدث في الاتفاقية الجديدة في أفغانستان نموذج صارخ ومؤلم، وينبغي تذكر معاناة الشعب الأفغاني من طالبان وتطلع رجاله ونسائه للانعتاق من حكم ظلامي يدعمه نظام قبلي بالغ القسوة والعداء للحداثة وللقيم الإنسانية والإسلامية الحقيقية، وعندما ينظر المرء لهم وماذا سيحدث لهذا الشعب إذا عادت طالبان إلى الحكم، فسنجد الأمر مخزياً للبشرية ولكل ادعاءات الولايات المتحدة حول حقوق الإنسان، وكيف يكون لها الحق وهي تسلم الذبيحة الأفغانية لهؤلاء القتلة، ثم تتحدث عن معارض روسي أو سجين هنا وهناك؟
أما الخلل الرابع فتمثل في تكرار أنماط استراتيجيات التغطية على الفشل؛ ففي كل مرة أكتب عن نموذج الفشل في مفاوضات أفغانستان أقارنها بطريقة الخروج المهزوم من فيتنام نفسها، والصياغات الغامضة المتعمدة حول مصير الحلفاء، بالطبع لست متعاطفاً مع حلفاء واشنطن من عملاء في فيتنام، بل إن عمري آنذاك توقف عند استيعاب أن الولايات المتحدة هزمت فقط، ولكني عندما درست النموذج التفاوضي توقفت عند أبعاد كثيرة كالغموض للتغطية على الفشل، وخداع الرأي العام وانكشاف هذا التسرع في الحالتين، فدوماً تظن واشنطن أن هيمنتها على الإعلام العالمي تسمح لها بصياغة وعي العالم، وفي هذا مبالغة كبيرة.
الأزمة الأفغانية من منظور السياق التاريخي
أعود مرة أخرى إلى مربط الفرس، وهي أن كل جهود الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ جورج بوش الابن تسعى باجتهادات مختلفة لوقف التراجع الأميركي ووقف صعود المنافسين والخصوم الآخرين، ولكن الإخفاق والارتباك هما السمة المستمرة مع تغير الاستراتيجيات، فبوش طبق استراتيجية صناعة الحروب لإعادة تشكيل العالم، وأوباما طبق وطور آليات غير متماسكة في حقوق الإنسان، وانتهى بالفشل بدوره، وجاء ترمب بالغوغائية وبما أثاره من رياح عاصفة لم تحقق شيئاً، وعبر كل هذه الإدارات تواصل الفشل في أفغانستان، ومحاولة إدارة الأزمة بمناهج مختلفة بدأت بخطأ التدخل الشامل وأوهام القوة، وكلها أسفرت عن النتيجة ذاتها، لم ينتصر الشعب الأفغاني، ولا انتصرت واشنطن، بل انتصر الظلام والانغلاق والحماقة، فأي تغيير يمكن أن يحدثه بايدن في هذا المستنقع؟