من "الحوت الأزرق" إلى "تحدي القرفة" ومنهما إلى "فيليه الأصابع الخمسة" إلى "لعبة الاختناق" و"تحدي القطع" و"الذبح" و"الملح والثلج" وقائمة الألعاب البالغة الإثارة والخطورة التي ينتهي الحال ببعض لاعبيها إلى موت أقل ما يمكن أن يوصف به هو "الهزل المدمر"، بين هذه وتلك لا ينقطع فيض ألعاب الموت.
وراء كل لعبة موت تدور رحاها من ألف الابتكار إلى ياء تفعيل الانتحار مبتكر "عظيم" وجنون أعظم. طالب الطبّ النفسي الروسي "العبقري" المطرود من جامعته فيليب بوديكين ابتكر لعبة "الحوت الأزرق" الشهيرة التي راح ضحيتها عشرات المراهقين والأطفال. حين ألقي القبض عليه بتهمة التحريض، قال بودكين إنه ابتكر اللعبة التي تحض الأطفال والمراهقين على الانتحار ليطهر العالم من الصغار "عديمي القيمة والفائدة".
نسبية القيمة
القيمة والفائدة من الأمور النسبية. بوديكين اعتبر صغار السن من التافهين المقبلين على ألعاب سخيفة على الإنترنت العديم القيمة والفائدة. في الوقت نفسه، هناك قاعدة جماهيرية ضخمة بين صغار السن والمراهقين والشباب تعتبر هذه الألعاب متنفساً لحب الإثارة ووسيلة للتجربة والاستكشاف.
وقبل ساعات، فزعت مصر كلها لوفاة ثلاثة أصدقاء بسبب إقبالهم على التجربة والاستشكاف غير المحسوبين. هذه المرة، الجاني هو "تحدي التعتيم" أو "لعبة الوشاح". لعبة كغيرها من ألعاب الموت شبه المحقق المنتشرة على منصات عنكبوتية عدة. بعضها يسطع نجمه ويصنع لنفسه جماهيرية "سرية" كبيرة، لا يُفتضح أمرها إلا بوقوع مصيبة موت طفل هنا أو مقتل مراهقة هناك. بعدها تحتدم حملات التوعية بأخطار ألعاب الموت العنكبوتي، وتستعر صيحات تنبيه الأهل إلى ضرورة متابعة الأبناء والبنات. وربما يصل الحال بالبعض إلى افتقاد المنطق تماماً والمطالبة بإغلاق منصة تواصل اجتماعي أو حجب الشبكة العنكبوتية برمتها باعتبارها قاتلة مع سبق الإصرار.
تحدي الوشاح
إصرار الشاب "أدهم" على خوض تجربة "تحدي الوشاح" التي راح ضحيتها اثنان من أصدقائه أدهش الجميع. دخلت شقيقته غرفته بعد تناول الغذاء، ففوجئت به وقد فارق الحياة. "أدهم" كان ضمن ملايين الشباب المعجب بتطبيق "تيك توك"، وكان دائم المشاركة بمقاطع عليه. أما أن يشارك عبر خوض لعبة نهايتها موت محقق، فهذا عجيب. "تحدي التعتيم" أو "الوشاح" المتاحة على "تيك توك" تبدأ بأن يقوم الشخص بتسجيل بياناته، ثم يخضع لتحدي تعتيم الغرفة. ويُطلب منه كتم أنفاسه على أنها تجربة جميلة مفيدة، يشعر من خلالها الشخص بمشاعر متفردة لا مثيل لها. وعلى الرغم من أن البعض خاض التحدي المميت، وظل على قيد الحياة. البعض الآخر، ومنهم أدهم وصديقاه من قبله فارقوا الحياة.
الحياة على متن تطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي العنكبوتية تبدو قريبة ومفهومة للأهل، لكنها في حقيقة الأمر بعيدة عنهم كل البعد شكلاً وموضوعاً على الرغم من التلاصق الجغرافي. في يناير (كانون الثاني) الماضي، دفعت الطفلة الإيطالية أنتونيلا (عشر سنوات) حياتها ثمناً لـ"تحدي الوشاح". دخلت الحمام في البيت. أحكمت حزاماً جلدياً على رقبتها، وكتمت أنفاسها أملاً في هذه المشاعر المثيرة التي وعدتها بها إجراءات اللعبة. وما هي إلا دقائق معدودة، حتى دخلت شقيقتها البالغة من العمر خمس سنوت الحمام لتجدها فارقت الحياة.
صدمة عنيفة
صدمة الأهل كانت عنيفة. فكيف لابنتهما التي لم يتعدّ عمرها السنوات العشر تقدم على الانتحار، لا سيما أنها بدت طفلة سعيدة عادية. لكن ما لم يعرفه أهل أنتونيلا، وكذلك أهل أدهم، أن المسألة ليست انتحاراً بالمعنى المعروف. فاللاعب لا يدخل اللعبة حتى يتخلص من حياته بالضرورة، لكنه يلعب لأنها اكتسبت شهرة ويتحدث عنه الأقران وتدغدغ مشاعر وشهوات الصغار الباحثة عن كل ما هو مثير وسرّي.
المثير أن من شرح لأهل أنتونيلا ما حدث لها هي شقيقتها الوسطى البالغة من العمر تسع سنوات. إنها لعبة الاختناق الشديدة الجماهيرية. الأدهى من ذلك هو أن اللعبة غالباً تتم بينما اللاعب "على الهواء مباشرة". وهذا ما تنبهت إليه الشرطة الإيطالية، إذ تم التحفظ على هاتف أنتونيلا المحمول وإخضاع محتوياته للتحليل والتحقيق لمعرفة إن كان هناك آخرون شهدوا انخراطها في اللعبة بينما تقوم بها.
لا ينقصه شيء
لكن الأمر بالنسبة لأدهم وصديقيه الذين فقد ثلاثتهم حياته بسبب اللعبة مختلف. أهل أدهم وأقاربه يعربون عن صدمتهم لأنه لم يكن ينقصه شيء. يقولون إنه كان يتمتع بحياة رغدة، طلباته مجابة، وتفاصيل معيشته جيدة. ويؤكدون أن أياً من مظاهر المرض النفسي أو الاكتئاب لم تظهر عليه.
ما ظهر لهم وللإعلام وللمحللين هو شاب في مقتبل الحياة، لا يشكو ضيق ذات يد أو شظف عيش أو حتى مشكلات تعليمية أو اجتماعية تذكر. ما الذي يدفعه إذن لينتحر؟ ما لا يذكره الإعلام أو يعرفه الأهل أو حتى يشير إليه أطباء وعلماء النفس أن المقبل على مثل هذه الألعاب، لا سيما التي تتضمن كتم أنفاس أو تعريض النفس للخطر يبحث غالباً عن الانتشاء المشابه لتأثير الكحول والمواد المخدرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأثير من نوع آخر يغفله الأهل هو الأقران. مفاخرتهم بأن فلاناً خاض كتم الأنفاس، وعلاناً قطع يديه بسكين، وثالثاً لف حبلاً وأحكمه حول رقبته، ورابعاً بلع ملعقة مليئة بالقرفة من دون تجرع ماء وهلم جرا تدفع الصغار والمراهقين وبعض الشباب للتقليد والانضمام إلى زمرة المفاخرين أو التمتع بشعور الانتشاء المجاني أو حتى بغرض التجربة والإثارة.
إثارة قاتلة
هذا النوع من الإثارة القاتلة ليس وليد اللحظة أو حتى العقد. فبحسب "مركز التحكم في الأمراض" في الولايات المتحدة الأميركية، خنق ما يزيد على 80 طفلاً وطفلة في الفئة العمرية من ست إلى 19 سنة أنفسهم بين عامي 1995 و2007. وأشار المركز إلى أن العديد من هذه الحالات يتم اعتباره انتحاراً، وهو ليس كذلك. إنهم يخوضون لعبة أو تجربة لكنها مميتة.
ثم جاء عصر الشبكة العنبكوتية لتصبح طريقة الخنق أو القطع أو الذبح أو أي شكل من أشكال إلحاق الضرر بالنفس من بوابة الإثارة والغموض متاحة لكل من يملك شاشة متصلة بالإنترنت. وتطورت المسألة وأصبحت تطبيقات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مفتوحة على مصاريعها لكل "مبتكر قاتل" أو "مبدع مجرم" يبث سمومه الإبداعية عبر تطبيقات وألعاب تسيل لعاب الصغار تحت راية المتعة والإثارة.
عالم الإثارة الإجرامية
الدول التي سبقتنا إلى عوالم الإثارة الإجرامية والألعاب المميتة لديها قوائم من العلامات التي يمكن للأهل أن يتعرفوا من خلالها إن كان الصغير أو الصغيرة لاعباً مستكشفاً أغوار عوالم الموت. فعلى سبيل المثال، تعتبر الكدمات، لا سيما على الرقبة، والرغبة في الخصوصية طيلة الوقت، ووجود حبال أو أقمشة في الغرفة، آثار نزف ولو بسيط أسفل العينين وفي الوجه، عيون حمراء، آثار دوار بعد وقت طويل يمضيه الصغير وحده وغيرها تعتبر أمارات على الإقدام على مثل هذه الألعاب.
المؤكد أن مثل هذه الألعاب لن تختفي. وكما كان الصغار قبل نصف قرن يقلدون "فرافيرو العجيب" الذي يقفز من النوافذ ولا يصيبه مكروه فيفزون من الشرفات وينتهون جثامين هامدة في الشارع، أو "سوبرمان" القادر على القفز من عمارة إلى أخرى بخفة ورشاقة تنتهي بالصغير إلى كسور مضاعفة وربما إعاقات مزمنة وأكثر، ستظل منابع الأفكار المميتة موجودة.
منابع عنكبوتية أشمل
لكن المنابع العنكبوتية أشمل وأعم وأخطر. لكن يظل الحجب ليس الحل الأمثل والأكثر استدامة. في إيطاليا، وعقب وفاة أنتونيلا الصغيرة باللعبة نفسها التي قتلت أدهم وصديقيه في مصر، منعت السلطات تطبيق "تيك توك" موقتاً لأولئك الذين لا يتمكنون من إثبات أعمارهم قبل استخدامه. ويشار إلى أنه وفقاً لشروط استخدام "تيك توك" يجب ألا يقل السن عن 13. لكن واقع الحال يشير إلى أن الملايين من مستخدميه أقل من هذه السن، والأدهى من ذلك أن بين المستخدمين المطابقين لهذا الشرط من فقدوا حياتهم بسبب لعبة ولم يفلح سنهم "الناضج" بمنعهم عن الانخراط فيها.
يشار أيضاً إلى أن شركة "تيك توك" علقت في يناير الماضي على وفاة أنتونيلا بقولها إنها لم تتمكن من تحديد أي محتوى على موقعها كان من الممكن أن يشجع الصغيرة على المشاركة في تحد يحرضها على الانتحار.
تجربة لعبة من ألعاب الموت الكثيرة أمر لا يقتصر على تطبيق هنا أو منصة هناك. والمطالبة بحجب تطبيق لأن أحد محتوياته أدى إلى مقتل أو إصابة أحدهم يشبه المطالبة بمصادرة كل المركبات لأن سيارة دهست شخصاً. والأمر نفسه ينطبق على فتاوى دينية تحرّم تطبيقاً أو تدعو إلى مقاطعة منصة لأن فيها ما يضرّ. جدير بالذكر أن ألعاب التحريض أو التحديات قد تصل إلى صندوق البريد الإلكتروني أو عبر رسال "واتسآب" أو حتى مكتوبة إجراءاتها على ورقة.
يقول هاشم سامي، (22 سنة)، إنه يضحك كثيراً حين يسمع مُنظِّراً في التلفزيون أو محللاً على المواقع الخبرية أو حتى قريباً في البيت يتحدث عن زيادة إجراءات الحجب وتعميق المنع وتعيين رقيب على كل شاشة كمبيوتر أو محمول. "هذا كلام يليق بالستينيات والسبعينيات على أقصى تقدير. لكن حين يحدث في عام 2021 فهذا يعني أن هناك هوة عميقة بين أدمغة المسؤولين والأهل من جهة والأجيال الصغيرة من جهة أخرى. تبدو مثل هذه الأحاديث أقرب ما تكون إلى الكوميديا المبكية لأنها لا تقنع إلا الكبار الذين يظنون أن المنع هو الحل، بينما المنع يسيل لعاب الصغار أكثر بحثاً عن الاستكشاف". يضيف، "كما أن الموضوعات الصحافية التي تركض عقب كل حادث إلى نشر قائمة بأخطر عشر ألعاب، وأخرى بأعنف 15 لعبة، وأبشع 20 لعبة تخدم قاعدة عريضة من الأطفال والمراهقين، إذ تقدم لهم الوجبات الممنوعة والمرغوبة جاهزة".
علاجات كثيرة وصعبة
العلاجات كثيرة لكن صعبة. وتتراوح بين تربية رقمية واعية وواقعية للصغار، ومتابعة أنشطتهم بسبل تناسب كل مرحلة عمرية، وتوفير وسائل تسلية وملء أوقات الفراغ مع التوعية غير المباشرة مما تحمله الشبكة العنكبوتية من أسلحة دمار شامل ومعارف وترفيه لا يقدران بمال لفرط الفائدة.
من جهة أخرى، فإن شركات التطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي لديها قواعد استخدام يشترط أغلبها معايير وشروطاً من شأنها أن تحمي المستخدمين. الغريب أن أغلب القواعد المتداولة لا تخرج عن إطار الاستخدام السياسي والديني لهذه المنصات حيث التحذير من محتوى يحمل عنفاً أو كراهية أو عنصرية وغيرها، مع وجود آليات للإبلاغ من قبل المستخدمين أنفسهم. أما ما يختص بالألعاب، وعلى الرغم من وجود قواعد يفترض أنها حاكمة حتى لا يتعرض الصغار للخطر، فإنها تظل بعيدة عن المنطقة العربية إلى حد كبير. فبينما يوجد دليل شامل عنوانه "قواعد حقوق إنسان استرشادية لمقدمي ألعاب الإنترنت" مثلاً وضعه المجلس الأوروبي، فإن الأمر في المنطقة العربية يقتصر غالباً على موجات نصائح وفقرات تحذير وترهيب ومطالبات شعبية ونيابية بإغلاق المواقع والمنصات بـ"الضبة والمفتاح".
ويظل المفتاح الحقيقي لحماية الصغار هو التنشئة الرقمية الصحيحة والوعي الواقعي المنطقي والضغط على شركات التطبيقات والمنصات لتحمل مسؤوليتها في مراقبة المحتوى ومتابعته والتصحيح الدوري.