يعتقد بعض السياسيين اللبنانيين الذين يراقبون التطورات الإقليمية أن بقاء الفراغ الحكومي في لبنان هو دعوة نموذجية لإسرائيل كي توجه ضربة إلى "حزب الله" والنفوذ الإيراني في لبنان، على الرغم من الاعتقاد السائد بأن البلد سيبقى مستبعداً عسكرياً من قبل الجانبين المعنيين في المواجهة القائمة على الصعيد الإقليمي، أي كل من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة وإيران وأدواتها من جهة أخرى.
فالتصعيد الحاصل حتى الآن بين الجانبين على افتراض أنه تسخين عسكري يسبق التفاوض المنتظر حول الملف النووي الإيراني، ما زال بعيداً عن لبنان، وميادينه العراق واليمن وسوريا، وأحياناً فلسطين حيث المبادرة ليست فقط بيد إيران وإسرائيل، إذ إن مصر دخلت على الخط بقوة، أخيراً، لترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، بحيث لا يكون خاضعاً للتجاذب الإيراني الأميركي الإسرائيلي. وقد شهد كل من هذه الساحات أحداثاً عسكرية خطيرة في الأسابيع الماضية، لإسرائيل دور فيها، باستثناء الجبهة اللبنانية.
استبعاد أن يشمل التسخين العسكري لبنان يعود إلى اعتقاد مؤيدي هذا الاستنتاج بأنه إذا كان من صلة للوضع اللبناني مع التصعيد الحاصل في المنطقة، فإنها صلة ذات طابع سياسي، حتى إشعار آخر. فالبعض في بيروت ينظر إلى تعطيل تأليف الحكومة الجديدة برئاسة زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري منذ أكثر من 4 أشهر، على أنه الحلقة اللبنانية من التصعيد الإيراني في الإقليم، ضد إدارة الرئيس جو بايدن في عملية تجميع الأوراق قبيل التفاوض.
الرد الأميركي والضربات الإسرائيلية
لكن الذين لا يستبعدون إمكان حصول ضربة إسرائيلية في لبنان يعتقدون أنه مثلما قصف الجانب الأميركي قوات "الحشد الشعبي" في البوكمال السورية، رداً على تمادي طهران في اللعب على حافة الهاوية معها، بعد استهداف أدواتها العراقية لمواقع أميركية في العراق، أو بالاستهداف اليومي لمواقع مدنية وسكنية في السعودية وتصعيد الحوثيين المعارك في اليمن... ومثلما رد الجانب الإسرائيلي على استهداف ناقلة إسرائيلية في خليج عُمان، بقصف تجمعات إيرانية وميليشيات يديرها "الحرس الثوري" في منطقة السيدة زينب في دمشق موقعاً خسائر كبيرة في الأرواح، فإن هذا الرد قد يشمل لبنان أيضاً، إذا تكررت العمليات الإيرانية ومحاولات نقل صواريخ دقيقة إلى جنوب سوريا وإلى لبنان، بحيث تتوسع الضربات الإسرائيلية الموجهة ضد مواقع "الحرس الثوري" الإيراني والميليشيات التابعة له في سوريا، نحو الأراضي اللبنانية أيضاً.
فالرئيس الأميركي أظهر، بعد 5 أسابيع على تسلمه مهماته، عبر الضربة التي أمر بها ضد مواقع "كتائب حزب الله" العراقي، و"كتائب سيد الشهداء" في شرق الأراضي السورية المحاذية للحدود مع العراق، في 26 فبراير (شباط)، استعداده للتشدد حيال أسلوب طهران باستخدام الوسائل العسكرية بالواسطة، ضد الوجود الأميركي في المنطقة والعراق خصوصاً، بموازاة المؤشرات التي أطلقها مع دخوله البيت الأبيض، مبدياً الاستعداد للعودة إلى الاتفاق النووي معها. وهو خاطب الإيرانيين بعد ضربة البوكمال قائلاً "لن تفلتوا من العقاب... احذروا".
انخراط "حزب الله" في التكتيكات الإقليمية
يرصد الذين لا يسقطون من حسابهم إمكان توجيه تل أبيب ضربات في لبنان لـ"حزب الله"، دور الأخير في سياق الاستنفار الإيراني في المنطقة. فالأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله لم يخف انخراط حزبه في التكتيكات الإيرانية للتعاطي مع الأوضاع الإقليمية بعد تسلم بايدن مهماته. وفي خطابه الأخير في 16 فبراير عرض نصر الله الوضع الإقليمي بالتفصيل، وقال إن "الملف النووي وتداعياته ونتائجه السلبية والإيجابية سيكون لها انعكاس على كل المنطقة"، مشيراً إلى "القلق الإسرائيلي الواضح"، وإلى حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن اختلافه مع الأميركيين في هذا المجال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ما يخص اليمن رأى أن قرار إدارة بايدن "وقف دعم الحرب فيه أمر إيجابي"، مبدياً إعجابه بقيام "أنصار الله" (الحوثيين) بإرسال صواريخ ومسيرات إلى السعودية. وأشار نصر الله إلى هجوم الحوثيين على مدينة مأرب "فإذا تمكنوا من استعادتها هذا يعني أن تأثيراته على الحل السياسي الموعود ستكون كبيرة جداً وفشلاً كبيراً جداً للمحور الآخر".
وفي الملف السوري، اتهم نصر الله الجانب الأميركي بـ"إحياء داعش" لتبرير بقاء قواته في شرق الفرات، داعياً إلى ترقب ما سيؤول إليه تطبيق قانون "قيصر" للعقوبات الأميركية على النظام السوري وكذلك "قيصر– 2" والضغوط الاقتصادية. وتحدث عن "الانتخابات الرئاسية القريبة وكيف سيتعاطون معها، وكذلك الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على سوريا". وتناول الملف العراقي "ومستقبل وجود القوات الأميركية الذي يؤثر على كل المنطقة". ولم ينس نصر الله الحديث عن "الملف الأفغاني والتفاوض مع طالبان، وهل يبقى الأميركيون أم ينسحبون أو يعززون"؟
ولفت في ما يخص الملف الفلسطيني إلى أن "صفقة القرن" التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترمب تراجعت. وأفرد في ذلك الخطاب فقرات لتهديد إسرائيل في حال حصلت عمليات قتالية ضد حزبه.
المكابرة الإيرانية مقابل العزلة؟
تؤشر قراءة نصر الله للأوضاع الإقليمية إلى توجهات طهران في زمن بايدن، ومحاولتها إطلاق التفاوض معه بسرعة وفق ظروف مواتية لطموحاتها في الإقليم، بدليل التصعيد عبر وكلائها في كل من اليمن والعراق، وإصرارها على تهريب السلاح والصواريخ إلى سوريا ولبنان.
الحجج التي تحدثت عن إمكان حصول حرب إسرائيلية على لبنان تنطلق من تقدير بأن "المكابرة الإيرانية" قد تؤدي إلى تورط في حادث ما مع إسرائيل، ويصبح التهويل بالحرب حرباً فعلية، لمح إليها نصر الله في رده على تهديدات إسرائيل وتدريبات للجيش الإسرائيلي على "أيام قتالية"، مشيراً إلى أنها قد تتحول حرباً حقيقية و"لا نعرف كيف تفلت الأمور".
وفي قراءة سريعة لدى أصحاب هذا الرأي، أنه خلافاً لما هو شائع عن نجاح طهران في استغلال تولي بايدن الرئاسة في واشنطن في شكل يقلب سياسة سلفه ترمب بالضغوط القصوى عليها، فإن الأخير متريث في التفاوض. وتصعيد إيران في الإقليم يعيد الإدارة الجديدة إلى التشدد، بعد الهجمات على السفارة الأميركية في بغداد، والقواعد الأميركية، وآخرها اليوم 3 مارس (آذار) على قاعدة عين الأسد. وعلى الرغم من رفعها الحوثيين من قائمة الإرهاب، فإن إدارة بايدن لم تستطع تجاهل الهوية الإيرانية للقصف الحوثي المتواصل على المملكة. فالتصعيد الإيراني ناجم وفق هذه القراءة، عن العزلة المتصاعدة لطهران، التي يمكن أن تأخذها إلى حرب ما للخروج منها، فتشير إلى التباينات الجوهرية الروسية الإيرانية في سوريا إزاء الحل السياسي في بلاد الشام، حيث تتهم الدبلوماسية الروسية طهران بتقويض جهودها في الاجتماعات المغلقة، وفي شأن اليمن حيث دانت موسكو القصف على المملكة.
مع هذا ترفض إيران اتهامها بدعم الحوثيين بالأسلحة والعتاد لكن المسؤولين الإيرانيين يطلقون تصريحات داعمة للجماعة التي تستضيف طهران سفيرا لها كما ترفض أي تدخل في الهجمات التي يشهدها العراق بين فترة وأخرى.
كما أن التقارب التركي الإيراني في إطار تجربة أستانا في سوريا آخذ في الأفول وسط مظاهر عديدة للتباعد بين الدولتين، حيث تسعى أنقرة إلى تحسين علاقاتها مع أوروبا وإسرائيل.
يضاف إلى ذلك الغضب الباكستاني والأفغاني حيال تجنيد إيران الشيعة في البلدين وأخذهم إلى الحروب في المنطقة، لا سيما في سوريا، بحيث نشأ قلق باكستاني من نشوء "حزب الله" لديها، في وقت تتوجس إسلام آباد من تكرار تجربة لبنان والعراق في حال استنساخها بصيغة باكستانية. أما محاولاتها التدخل في مفاوضات "طالبان" مع واشنطن فقد وسعت شقة الخلاف مع الأخيرة، حيث بات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يعتبر "طالبان" تنظيماً إرهابياً.
تهديدات نتنياهو وغانتس
ومن مظاهر العزلة أو الحصار أن الطريق البري بين طهران وسوريا، فلبنان بات شبه معطل نتيجة القصف الأميركي تارة، والإسرائيلي تارة أخرى لشاحنات تهريب السلاح، والنفط وبضائع أخرى على الحدود العراقية السورية.
في لبنان يستدل المتوجسون إزاء ضربة إسرائيلية محتملة من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الأخيرة حيث جدد نتنياهو ووزير دفاعه بيني غانتس، تهديدهما لإيران وحزب الله، حيال الأنشطة التي تهدد أمن إسرائيل.
وقال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس "إذا تحولت تهديدات أمين عام حزب الله إلى أفعال، فالنتيجة ستكون مؤلمة لحزب الله وقادته ولمواطني لبنان، الذين يستخدمهم حزب الله درعاً بشرية لأنه يخبئ تحت بيوتهم مخزون أسلحة وصواريخ"، وكرر نتنياهو لاحقاً الحديث عن وجود قواعد صواريخ في ضاحية بيروت مبرزاً خرائط.
ويخشى القلقون من ضربة إسرائيلية للبنان من أن يؤدي الحصار على التحرك الإيراني عبر سوريا إلى استخدام إيران و"الحزب" مطار بيروت لتهريب أسلحة، الذي يركز عليه الإعلام الإسرائيلي بين الفينة والأخرى، في وقت لفت النظر قول قائد لواء أساليب القتال والتحديث في الجيش الإسرائيلي، عيران نيف، إنه إذا تجاوز عدد صواريخ "حزب الله" الدقيقة سقف ما بين 500 وألف صاروخ، "فسنطالب بالعمل ضده. وهذا قرار من العيار الثقيل، لكن لن نتمكن من التهرب منه". كل ذلك في وقت يبدو لبنان مكشوفاً على الصعيد السياسي والدبلوماسي بسبب الفراغ الحكومي وغياب السلطة السياسية لحل أزماته على الصعد كافة، وهو ما يمكن لإسرائيل أن تستغله للقيام بعمل عسكري.
الإدارة مخالفة لرهانات نتنياهو
يقابل هذه المظاهر تشديد جهات سياسية لبنانية كانت لها اتصالات ولقاءات مع جهات غربية وأوروبية في الآونة الأخيرة، على أن إدارة بايدن ليست في وارد قبول جر المنطقة إلى حرب عبر رهانات نتنياهو خصوصاً في لبنان. وعلى الرغم من أن الفريق الجديد في واشنطن ما زال في طور رسم سياسته، فإن تمايزه عن السياسة الإسرائيلية في الشأن الفلسطيني وتحبيذه حل الدولتين للقضية الفلسطينية يغلّب وجهة السعي لسلام بدل المواجهات المسلحة التي يمكن أن يلجأ إليها نتنياهو. فواشنطن تستفيد من الإبقاء على أسلوب الضغط على طهران عبر مزيد من التقارب بينها وبين سائر دول أوروبا التي أحرجها التصعيد الإيراني سواء حول خرق الإجراءات المنصوص عنها في الاتفاق النووي، أو في العراق أو في اليمن، بحيث باتت أكثر تشدداً إزاء هذا التصعيد.
توسيع الضغط الدولي على طهران يغني بحسب قراءة هذه الشخصيات السياسية عن خطوات عسكرية، باستثناء تلك التي تقتضيها الردود على الاستفزازات الإيرانية. كما أن دول الغرب عموماً ينتظر أن تلجأ إلى المزيد من العقوبات (المقبلة) على حلفاء "حزب الله" في لبنان رداً على تأخير الأخير قيام الحكومة اللبنانية، كورقة تفاوض مع الغرب، في شكل يغني عن القيام بتصعيد عسكري إسرائيلي ضد "الحزب" في البلد.