Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خلاف على التدويل في بلد ولد "مدوّلا"

لبنان ليس خارج صراع المحاور الإقليمية تحت المظلة الدولية بل صار "جبهة أمامية" فيه

لا إجماع في الداخل ولا توافق دولياً على حياد لبنان (غيتي)

بلد التسويات غارق في سلسلة أزمات خطيرة تبدو عصية على الحلول. وكل ما يُقال للباحثين عن حلول من النوع الذي تفرضه طبيعة المجتمع وتقاليد لبنان: تذكّروا أن الدنيا وموازين القوى تغيّرت كثيراً هنا وفي المنطقة. لا شيء يوحي بأن المخارج السياسية التي برع السياسيون المخضرمون في ابتكارها لتسوية الأزمات المعقدة ترضي قوى التعطيل وتوظيف الأزمات في خدمة أهدافها. وليس في الدستور مخرج من مأزق الاستعصاء الحكومي بين شريكين على المسرح، بصرف النظر عن الشركاء الآخرين في الكواليس: رئيس حكومة مُسمّى بأصوات النواب لا يستطيع التأليف من دون توقيع الرئيس الذي كلفه ولا يريد الاعتذار. ورئيس جمهورية لا يريد توقيع المراسيم من دون التسليم بما يطلبه، ولا يستطيع دفع الرئيس المكلف إلى ردّ التكليف. لكن الخلاف بين الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري يتجاوز قصة الحكومة. وأزمة الحكومة مجرد ورقة في أزمة حكم وأزمة نظام. والمعادلة عبثية في تراجيديا "لعبة صفرية" يراد فرضها على لبنان المحكوم تقليدياً بالتوازنات والتسويات، حيث لا طرف يربح كل شيء، ولا طرف يخسر كل شيء: لا حلول بالسياسات الصغيرة التي تبقى في إطار "التفكير داخل الصندوق". ولا فرص أو حظوظ عملية للسياسات الكبيرة التي تأتي مما يسمّى "التفكير خارج الصندوق".

ذلك أن لبنان ليس خارج صراع المحاور الإقليمية تحت المظلة الدولية، بل صار "جبهة أمامية" فيه، وإن كان الخطاب الرسمي هو "النأي بالنفس" عن صراع المحاور. وإذا كان صراع الأفكار والسياسات الصغيرة داخل الصندوق يسدّ نافذة الفرصة المفتوحة للإنقاذ، فإن صدام المشاريع والأفكار والسياسات الكبيرة من خارج الصندوق يدعو إلى مهمات صعبة، إن لم تكن مستحيلة.

البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي حاول التوفيق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، فلم يوفق. وفي مواجهة التحدي الوجودي والمصيري أمام لبنان في صراع المحاور، طرح أفكاراً كبيرة للعمل على مشروعين متكاملين: مشروع "الحياد الإيجابي" بالتوافق الداخلي والموافقة الخارجية. وهذا ما كانت بدايته "ميثاق 1943: لا وصاية، لا حماية، لا امتياز، ولا مركز ممتازاً" بحيث يحافظ لبنان على جوهر وجوده، ويحفظ رأسه وقت تغيير الدول. ومشروع "مؤتمر دولي" برعاية الأمم المتحدة لضمان استقلال لبنان وسيادته وحمايته من العواصف الإقليمية. المشروع الأول رحبت به أوساط عدة في الداخل والمنطقة والعالم، من دون تجاهل المصاعب أمامه، إذ إن مجرد "التحييد" عن الصراعات أو "النأي بالنفس" بقي حبراً على ورق. المشروع الثاني أثار نقاشاً عميقاً لجهة القدرة على تحقيقه بمقدار ما واجه رفضاً قوياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله أعلن الرفض بوضوح كامل. قال من دون إشارة إلى موقع بكركي "ما يُحكى مرفوض ومستهجن، لأن أي كلام عن قرار دولي تحت الفصل السابع هو دعوة إلى الحرب واحتلال لبنان من قوات أجنبية، ولا أحد يمزح بهذا الموضوع لأنه أكبر من السجالات السياسية ذات الطابع المحلي". أما الحجج التي استخدمها، فإنها من النوع المألوف في السجال السياسي "الدول لن تقدم مصلحة لبنان على مصلحة إسرائيل، والتدويل خطر على لبنان قد يقود إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين". لكن حجر الأساس في رفض التدويل هو أنه يشكّل خطراً على مشروع "حزب الله" الذي هو جزء من مشروع إقليمي إيراني لتحقيق هدفين كبيرين: "إخراج أميركا من غرب آسيا"، وإلحاق العراق وسوريا ولبنان واليمن وسواها بدولة "ولاية الفقيه".

وكلها مشاريع صعبة إن لم تكن مستحيلة. فلا إجماع في الداخل ولا توافق دولياً على حياد لبنان. لا فرصة لانتداب دولي على لبنان تحت الفصل السابع. لا قوة تستطيع إخراج أميركا من غرب آسيا. لا مصالح أميركا الحيوية تسمح لأي إدارة بالانسحاب الكامل من المنطقة. ولا مجال لفصل لبنان عن العالم العربي ودفعه سياسياً وثقافياً واجتماعياً إلى مقاطعة الغرب الأميركي والأوروبي.

فضلاً عن أنه ليس للتدويل مفهوم واحد، إذ الخلاف عليه يرافق الاختلاف في تفسير المقصود بالتدويل. وإذا كان التدويل يعني أدوار الدول في أزمات لبنان وحروبه وتسوياته، فإن لبنان الكبير ولد "مدوّلاً" قبل 100 عام. وقبله كان نظام "القائمقاميتين" برعاية أوروبا وإشراف مستشار النمسا مترنيخ، وكان نظام "المتصرفية" بضمان الدول السبع الكبرى وحمايتها في القرن التاسع عشر. الاستقلال كان برعاية عربية ودولية. حرب لبنان كانت محلية وإقليمية ودولية. كذلك اتفاق الطائف. وماذا نسمّي مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنقاذ لبنان واتصالاته بواشنطن وموسكو والرياض وطهران والقاهرة لتسهيل تأليف الحكومة؟

الانقسام في الداخل هو المشكلة الأساس لأي مشروع. و"حيث يبدأ الخيار تنتهي الجنة والبراءة"، كما قال آرثر ميلر.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل