تمتد دعوات حصر السلاح بيد الدولة في العراق إلى سنوات بعيدة، حيث شهدت البلاد بعد الغزو الأميركي ظهور العديد من الميليشيات المدعومة من قبل قوى سياسية رئيسة ودول إقليمية، وعلى الرغم من تعهد رؤساء الوزراء المتعاقبين بحسم هذا الملف، إلا أن أي خطوات جدية في هذا السياق لم تتخذ حتى الآن.
ولعل ما يعقد إمكانية حصر السلاح هو أنه بات منصة للكسب السياسي والاقتصادي لكتل برلمانية رئيسة، حيث يرى مراقبون أن وجود تلك القوى وتأثيرها على المشهد العراقي مرتبط بشكل وثيق بامتلاكها ميليشيات مسلحة. كما يبرز تحد آخر يتعلق بالدعم الكبير الذي توفره إيران لتلك الجماعات. وسبق أن أعلن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، خلال زيارة قام بها إلى العراق في يونيو (حزيران) 2020، ولقائه مع قيادة "الحشد الشعبي"، أن "الحشد حشدٌ عراقي"، وأن طهران تدعم هذا الحشد وترفض أن تزجّ بنفسها في الخلافات الداخلية، بل تسعى إلى تقريب وجهات النظر إن طُلب منها. كما أكد رفض بلاده التدخل بأي شكل من الأشكال في الشؤون العراقية.
وسيلة ضغط سياسي
تضخم نفوذ الميليشيات المسلحة الموالية لإيران خلال السنوات الماضية، وتحديداً بعد وصول رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، إذ يصنف مراقبون تلك الفترة على أنها مثلت ربيع سيطرة الجماعات المسلحة على الدولة.
وشهدت العاصمة بغداد أكثر من استعراض لتلك الجماعات المسلحة خلال الفترات القليلة الماضية، كان آخرها لـ "سرايا السلام" التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر قبل أيام، الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط العراقية.
وفي يونيو (حزيران) 2020 اقتحم مسلحون تابعون لـ"كتائب حزب الله" المنطقة الخضراء، على خلفية اعتقال ما عرف حينها بـ"خلية الكاتيوشا".
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2020، دفعت الفصائل المسلحة الموالية لإيران بسيارات رباعية الدفع إلى شوارع العاصمة، فيما سربت منصاتها الإعلامية أنباءً عن سقوطها بيد الفصائل، على خلفية اعتقال قائد قوة الصواريخ في ميليشيا "عصائب أهل الحق".
وتشير كل تلك المعطيات إلى أن الأحزاب التي تمتلك جماعات مسلحة لن تتخلى عن سلاحها بسهولة، خصوصاً أنه يمثل المدخل الرئيس لنفوذها على الدولة.
تهديد نزاهة الانتخابات
ولعل أحد أهم الأسباب التي حفّزت انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 العراقية، هو توسع نفوذ الميليشيات المسلحة على حساب الدولة، حيث تضمنت مطالب المحتجين ضرورة حصر السلاح بيد الدولة كركن أساس قبل الشروع بأي انتخابات مقبلة.
ويركز ناشطو الحراك الاحتجاجي على مفهوم الأمن الانتخابي، إذ يرون أن أي انتخابات ستجرى في ظل استمرار سلاح الميليشيات لن تكون نزيهة، فضلاً عن المخاوف من عمليات اغتيال وترهيب تمارسها تلك الجماعات عليهم.
ويقول الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي إن الإشكالية الرئيسة التي تعيق حسم ملف حصر السلاح تتعلق بـ"إدراك الأحزاب ذات الأذرع المسلحة أنها غير مقبولة جماهيرياً وإقليمياً ودولياً، وبالتالي فإن قوتها ونفوذها يرتبطان بقوة أذرعها المسلحة وليس رصيدها الجماهيري".
وبحسب الشريفي، ترتبط الاشكالية الأخرى "بالمحاصصة التي تعيق إمكانية التوصل إلى حسم في هذا الملف"، مبنياً أنها "أخضعت كل رؤساء الوزراء السابقين لإملاءات الأحزاب".
ويرى الشريفي أن "موقف المرجعية الدينية في الأشهر الماضية الذي أدى إلى ربط الألوية التابعة لها في الحشد الشعبي بالقائد العام للقوات المسلحة، مثّل تمهيداً لخطوات حكومية جريئة في هذا السياق"، لافتاً إلى أن "المرجعية كانت تطمح إلى أن يكون صانع القرار السياسي قوي وجريء في التمرد على الأحزاب".
ويتابع أن "لجوء رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي إلى خيار التحزب والدخول في المعترك الانتخابي يعرقل إمكانية حسم هذا الملف، لأنه سيُدفع إلى صياغة تسويات مع الأطراف السياسية الأخرى".
انعكاسات محلية ودولية
عدم حسم ملف السلاح المنفلت قبل الانتخابات المقبلة "ستكون له انعكاسات كبيرة على المستوى المحلي"، كما يعبر الشريفي، الذي يشير إلى أن هذا السلاح "ربما يحفّز الصدام بين الأحزاب قبيل الانتخابات ويزيد من احتمالية نشوب صراع يهدد السلم الأهلي"، مبيناً أن "بوادر هذا الأمر كانت واضحة من خلال الاستعراض الأخير للتيار الصدري".
أما على الصعيد الدولي، فيعتقد الشريفي أن "المجتمع الدولي بات ينظر بحذر إلى المعضلة العراقية، خصوصاً ما يتعلق بالسلاح المنفلت، واحتمالية أن يحول البلاد بؤرة لتهديد الأمن والسلم الدوليين ومساحة خصبة لعودة نشاط تنظيم داعش"، مشيراً إلى أن "التأخر في الرد على طلب العراق بمراقبة الانتخابات المقبلة، يعني أن الإرادة الدولية قلقة من عدم وجود ضمانات لنجاح ذلك".
ويتابع أن "ما جرى في استعراض سرايا السلام لا يقرأ بشكل عابر من قبل الإرادة الدولية، حيث تم تحييد كل المؤسسات الضامنة للتداول السلمي للسلطة، ولم تبد القوات الأمنية أي رد فعل مقابل تحكم التيار الصدري بالشارع لساعات طويلة"، لافتاً إلى أنه "لا توجد ضمانات بعدم تكرار هذا المشهد خلال الانتخابات المقبلة".
ويختم أن كل تلك العوامل "ستدفع المجتمع العراقي إلى الشعور بأن الانتخابات المقبلة لن تكون نزيهة وشفافة، وسيحفز خيار المقاطعة والعودة إلى سيناريو التوتر بعد انتخابات 2018".
سلاح عقائدي- سياسي
وبات سلاح الميليشيات وسيلة للأحزاب الشيعية لبث الرسائل السياسية عبر مسلحيها، وهو الأمر الذي يعقّد بشكل كبير مهمة الكاظمي في هذا السياق.
ويرى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري أن "أبرز العقبات التي تواجه رؤساء الوزراء في كل حكومة تتعلق بكون السلاح خارج إطار الدولة بات يمزج بين الترويج العقائدي والسياسي"، مبيناً أن "إضفاء الشرعية العقائدية على السلاح المنفلت عقد مهمة الحكومة، لأن التحرك إزاءه قد يشعل صراعاً كبيراً".
ويوضح الشمري أن ما جرى من استعراضات عديدة للجماعات المسلحة مثّل رسالة للحكومة بأن "محاولة تقويض تلك الجماعات المسلحة ستكون لها ارتدادات كبيرة عليها".
ويعتقد الشمري أن أحد أبرز العوائق أمام حسم هذا الملف ترتبط بـ"آلية التوافق السياسي التي تقود الدولة العراقية"، حيث أن التحرك لحسمه "ربما يدفع الأحزاب التي تمتلك جماعات مسلحة والتي تمثل الركن الأساس في المعادلة السياسية إلى سحب الثقة من الحكومة أو إثارة أزمات كبيرة على مستوى الشارع العراقي".
وبشأن تأثير السلاح المنفلت على الانتخابات المقبلة، يقول الشمري إنه "يمثل العنوان الرئيس لاهتزاز ثقة العراقيين بمؤسسات الدولة، وهو ما سيؤدي إلى عدم الثقة بإمكانية أن تحدث الانتخابات أي تغيير"، مردفاً "لن يكون هناك إيمان بشرعية ونزاهة انتخابات تجري تحت فوهات البنادق كما حصل عام 2018".
ويختم أن أحد أبرز معرقلات حسم الملف هو أن "أي تحرك إزاءه سينظر إليه على أنه جزء من عملية الاستهداف للمعادلة السياسية القريبة من إيران".
عدم الإيمان بالدولة
في المقابل، يعتقد أستاذ العلوم السياسية دياري الفيلي، أن الإشكالية الرئيسة التي تعترض طريق حسم ملف السلاح ترتبط بـ"عدم إيمان الأطراف السياسية بمفهوم الدولة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شعور القوى ذات الأذرع المسلحة بأن السلاح هو الضامن لبقائها ضمن معادلة التأثير السياسي والاجتماعي، كما يعبّر الفيلي، "هو الذي يجعلها متمسكة به ويدفعها إلى التصعيد في حال شعرت بأي تحركات حكومة إزاءه".
ويشير الفيلي إلى أن "قرار وجود السلاح خارج إطار الدولة إقليمي"، مضيفاً "بالرغم من أن تلك القوى باتت جزءً من الدولة، إلا أنها تستخدم سلاحها في عملية ابتزازها".
وبشأن صعوبة حسم هذا الملف، يشير الفيلي إلى "عدم وجود إرادة دولية لذلك منذ عام 2003"، مبيناً أن "هناك عجزاً تاماً لدى المجتمع الدولي وجهاته الرقابية، كما لم تطرح القوى الدولية أي مبادرة أو صيغ للتسوية في هذا الإطار".
ويرى الفيلي أن السلاح "بات يمثل منصة للسيطرة على موارد الاقتصاد في البلاد، وهو يمثل شبكة مصالح مالية لن يتم التخلي عنها بسهولة".
مواقف متباينة للمليشيات
وعلى الرغم من الحديث عن سطوة الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، وتكوينها جسماً موازياً للدولة يعرقل إمكان حصر السلاح بيد الدولة، فإن زعماء تلك الميليشيات يتحدثون بشكل مستمر عن دعم هذا الملف وضرورة حسمه.
وكان زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي، أكد في أكثر من مناسبة ضرورة حصر السلاح بيد الدولة.
وفي 6 يناير (كانون الثاني) كتب عبر "تويتر"، "نؤكد على التزام الجميع بضرورة حصر السلاح بيد الأجهزة الأمنية، وإكمال السيادة بخروج القوات الأجنبية كافة من العراق".
وفي 19 نوفمبر (تشرين الثاني) أشار الخزعلي خلال مقابلة متلفزة إلى "ضرورة حصر السلاح بيد الدولة من أجل ضمان استقرار العراق، وليس من الصحيح حمل السلاح خارج القوات الأمنية"، مؤكداً أن "فصائل المقاومة ستترك حمل السلاح عندما ينتهي الخطر عن العراق".
وعلى الرغم من حديث تلك الميليشيات عن دعم ملف حصر السلاح بيد الدولة إلا أن آراءها تتباين، فتارة تقول إنها تأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة ضمن هيئة الحشد الشعبي، وتارة أخرى تتحدث عن كون تلك الميليشيات حركات عقائدية تأسست قبل الحشد الشعبي، وأن سلاحها موجه ضد الوجود العسكري الأجنبي في البلاد.
تنسيق مع القوات الأمنية
وفي مقابل الجدل الذي أثاره الاستعراض العسكري للتيار الصدري، قال المتحدث العسكري باسم "سرايا السلام" صفاء الموسوي، الإثنين 8 فبراير (شباط)، إن تنسيقاً جرى مع الأجهزة الأمنية وقيادة العمليات المشتركة بعد انتشار قوات السرايا في مدن عدة، إثر تحذير أصدره "وزير الصدر" من استهدافات لثلاث محافظات.
وذكر التميمي في مقابلة متلفزة، "لسنا بديلاً عن الجيش العراقي، ومهمتنا تقتصر على إسناد القوات الأمنية تجاه أي خطر يهدد البلد".
وأضاف التميمي أن "انتشار السرايا جاء بعد تغريدة وزير الصدر التي تحدثت عن وجود تنسيق بين داعش والبعثيين وبعض المندسين من أجل استهداف المناطق المقدسة، وكان هناك اجتماع للجهات العليا لسرايا السلام مع قادة السرايا أكد الجهوزية الكاملة والاستعداد لحماية المقدسات، وكان لدينا تنسيق مع الأجهزة الأمنية المختصة لانتشار السرايا في بغداد وكربلاء والنجف".
وأوضح أن "الانتشار جاء بسبب، وسينتهي بعد زوال السبب، ونحن بطبيعتنا لدينا جهاز استخباري ونتعامل مع المعلومات باحترافية المعلومة التي وصلت إلينا اليوم، والتي لم تكن مجرد خبر، إذ إن لدينا مصفى تمر به الأخبار لكي نصل إلى أنها معلومة حقيقية، ولم نبخل بأية معلومة تخص أمن العراق على الأجهزة الأمنية، وعملنا بالتنسيق مع الجيش العراقي ولسنا بديلاً عن القوات الأمنية".