المشاهد الدعائية لفيلم "لا وقت للموت" No Time to Die تتكرر في رأسي منذ سنة. أرى آنا دي آرماس تطير في الهواء وتركل أحد الأوغاد، ويظهر في الخلفية، وراء لوح بلور مجلد، شرير يرتدي قناعاً خزفياً، وهذا الأخير هو شخصية من المفترض أن يؤديها رامي مالك. أما دانييل كرايغ، فيظهر تحت أضواء نادٍ ليلي متوهّجة. وتلك مشاهد تتكرر في رأسي، ليس لأنني معجب على نحو خاص بالفيلم، أو بجيمس بوند عموماً، بل لأنني شاهدت مقاطع مختلفة من الشريط الدعائي هذا، مئة مرة على الأقل، وذلك على شاشات التلفزيون أو السينما، أو على شاشات الإعلان الكبيرة في الشوارع والأمكنة العامة. وقد مرّ 14 شهراً على ظهور الشريط الدعائي الأول للفيلم، إلا أن "لا وقت للموت" لم يطلق بعد.
والفيلم المذكور، الذي يمثّل النسخة الـ25 من سلسلة أفلام جيمس بوند، كما يمثّل الفيلم الأخير من هذه السلسلة الذي سيؤدي بطولته دانييل كرايغ بدور 007، ليس الفيلم السينمائي الوحيد المولود في ظل عالمنا الغريب الراهن، الذي ترخي جائحة كوفيد بثقلها عليه. إذ تتعرّض أفلام أخرى أيضاً، مثل "الأرملة السوداء" Black Widow، و"بائع الحلوى" Candyman، و"مكان هادئ 2" A Quiet Place 2، إلى تأجيل متواصل لعروضها الأولى. وما زال بالإمكان في هذا الإطار معاينة ملصقات فيلم "مكان هادئ 2" في محطات المترو. ملصقات يعلوها الغبار بعد أن كانت لامعة، وقد أجهض إطلاق الفيلم الذي تعلن عنه، إذ كان مقرراً في مارس (آذار) 2020، فغدت تلك الملصقات كأنها من مخلفات نهاية العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن "لا وقت للموت" يغرد خارج سرب الأفلام التي عادة ما تلقى رواجاً كبيراً ولكن [في زمن كورونا] لم يتسن لها الظهور بعد. فهو إلى حدّ كبير يمثّل الفيلم الأبرز الذي تحبطه الجائحة، وكان حظي بثلاث محاولات إطلاق في ثلاث مواعيد مختلفة بظل كوفيد، وخُص كذلك بحملتي تسويق على الأقل. ويقال إنه كلّف داعميه، استديو "أم جي أم" MGM واستديو"إي أو أن" EON، بين 30 مليون دولار و50 مليوناً لتبديل موعد إطلاقه من أبريل (نيسان) 2020 إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. ثم عاد وطرأ في ما بعد تأجيلان إضافيان، الأول مُدد إلى أبريل 2021، والثاني، الذي نأمل بأن يكون الأخير، إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وهما تأجيلان من غير شك كلفا الاستديوهان المذكوران مبالغ إضافية.
كما أن هناك أكلافاً أخرى تتراكم في رصيد الفيلم. إذ أشارت تقارير صادرة هذا الأسبوع إلى وجوب خضوع "لا وقت للموت" لتبديل رقمي هدفه إرضاء العديد من رعاته ومموليه، الذين دفعوا أموالاً كي تحظى النتاجات المتقادمة اليوم بمكان الصدارة للعرض. استديو "أم جي أم" MGM من جهته لم يعلق حتى الآن على هذا الأمر. وثمة مخاوف تجريبية. مثلاً عندما يطلق "لا وقت للموت" أخيراً ويسلك طريقه نحو صالات السينما، هل سيظل وقعه على مشاهديه، موحياً بالجِدّة وكأنه فيلم جديد؟
وقد يُعذر المرء بقوله إنه سلفاً "يعرف" جيمس بوند الجديد وسبق أن اختبره – أو على الأقل اختبر كل ما يرافق هذه الأفلام، قبل مشاهدتها بالفعل. ففي الأسبوع الذي سُحب فيه "لا وقت للموت" قبل إطلاقه المفترض في أبريل 2020، استضيف دانييل كرايغ في برنامج "ساترداي نايت لايف" Saturday Night Live، وكان من المستحيل إعادة برمجة ظهور النجم في وقت متأخر من ذلك اليوم. وبعد أسبوع، بحسب "جي 2 يو كي" G2 UK، حطم كرايغ الأرقام القياسية على الإنترنت، بصوره التي أظهرته عاري الصدر ببشرته البرونزية، ويُمسك على نحو واثق بهاتف عمومي. وفي تلك المرحلة، كانت بيلي ايليش احتلت المرتبة الأولى بأغنيتها الرئيسة في الفيلم – بغروب يوم بارد، تماشياً مع أحد أبرز مشاهد وثيمات أفلام جيمس بوند منذ سنوات – على الرغم من سقوط الأغنية المذكورة اليوم في غياهب النسيان. ومن جهتها فتاة بوند، ليا سيدو، احتلت أغلفة شهر أبريل لمجلتي "تاون أند كانتري" Town & Country و"هاربرز بازار" Harper’s Bazaar. أما دي آرماس فقد حازت على غلاف "فانيتي فير" Vanity Fair.
وكانت هناك مقابلات عدة، وجلسات تصوير، وعروض صفقات، وأعمال عامة تتصل بأجواء وثيمات 007. كما أننا خضنا في سجال مرهق سببه غضب عرقي تجاه إحدى الشخصيات السوداء في الفيلم (أدت دورها لاشانا لينش) التي قيل إنها تنتحل اسم 007 الرمزي في الفيلم، وتناولنا إصرار الشريكة في كتابة السيناريو، فوب والير- بيردج، على تعزيز المساهمات النسوية لفتيات بوند، بحسب تأليفها ورؤيتها. وهذه كلها مسائل مترابطة على نحو وثيق لا فكاك منه.
وعن أمر تأجيل إطلاق الفيلم، حادثني موظف في إحدى أكبر شركات إعلانات السينما ببريطانيا، قائلاً "في الحقيقة ليس غريباً على الأفلام أن تلقى ترويجاً واسعاً، ومن ثم لا يجري إطلاقها". وذكر الموظف في هذا الإطار أن فيلم "كابتيف ستايت" Captive State مثّل فيلم خيال علمي ضخم الإنتاج، مولته شركة "فوكاس فيتشيرس" Focus Features ولعب بطولته جون غودمان، وقد جرى الإعلان عنه طوال أشهر في عام 2019، ثم ألغي إطلاقه، وذاك حدث قبل كوفيد بفترة. ثم أردف الموظف "إلا أنه من النادر جداً لفيلم بضخامة جيمس بوند أن يُعطّل ثم يُحرّك على هذا النحو".
في المقابل أيضاً قد يكون معجبو بوند قد أطلقوا النار خطأً على أقدامهم بطرق عدة. إذ يقال في هذا الإطار إن استديو "إي أو أن" EON يميل لأن يكون تقليدياً بعض الشيء من ناحية الترويج. فالشريط الدعائي الكامل الأول لـ"لا وقت للموت" عرض الكثير مما يبدو محطات رئيسة في الفيلم. وقد يتساءل المرء أمام ذلك إن بقي شيئاً جديداً كي يعرض في الشريط الدعائي التالي. ماذا بقي لتشويق الناس؟ هل استهلك كله أم ثمة ما يستحق المشاهدة بعد"؟
كل هذه الأحاديث والمداولات انتشرت في كل مكان ثم اختفت. وهذا أيضاً أمر من المتعذر إعادته واستئنافه. الضجة لا تتحول إلى إعلان لا نهائي. بل هي سرعان ما تتبدد، وتذهب نحو نتاجات أحدث تؤمن رضى أسرع وأوسع. كما إننا نحيا اليوم في حقبة "التعليق" و"الميمز" على "تويتر"، حيث قد تستحيل الضجة بذاتها إلى شيء مضحك على نحو غريب، وذلك إن لم تفض إلى شيء ويبرز فيها تجديد. إذ إن الدعابات باتت سلفاً حاضرة حول تقادمنا الجماعي في السن ونحن ننتظر ظهور "لا وقت للموت". وذاك في الحقيقة يذكر بفيلم "المسوخ الجدد" The New Mutants، الذي يروي قصة رجال من حياة سابقة ملعونين، نشر شريطه الدعائي الأول في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، ولم يطلق إلا بعد مضي ثلاث سنوات تقريباً. وقبل أن يعرض "المسوخ الجدد" تعرض إلى حملة تعليق وإزدراء وسخرية، على نطاق واسع.
قليلون منا كان من الممكن أن يتنبأوا بالأهوال التي شهدناها العام المنصرم. وقليلون جداً كان من الممكن أن يتبوؤوا بأن يلقى "لا وقت للموت" مصير فيلم "المسوخ الجدد"، فيكون سقطة هائلة يسخر منها الجميع، ولم يشاهدها أحد.
© The Independent